سعيد لحدوصفحات سورية

المسيحيون والنظام السوري… من يحمي من؟


سعيد لحدو

على إيقاع تصاعد الثورة الشعبية في سوريا هذه الأيام، يدور نقاش خافت، ولكن بجدية تامة، في الأوساط المسيحية السورية مضمونه يتمحور حول ما إذا كان هذا النظام شكَّل أو يشكل ضمانة لحماية مسيحيي سوريا ومستقبلهم في المنطقة أم أنه لعب دوراً في تشتيت وتهجير القوى المسيحية الخلاقة التي تركت لها بصمات واضحة على تاريخ سورية والمنطقة عموماً القديم منه والحديث على السواء؟ ويكتسب هذا النقاش حرارة زائدة في ظل تنامي ظاهرة التطرف الإسلامي عموماً في العقود الأخيرة مترافقة مع انفجار العنف الطائفي في العراق كبلد مجاور بعد سقوط توأم النظام السوري تحت يافطة حزب البعث بالطروحات والشعارات ذاتها التي دأبت أجهزة إعلام هذه الأنظمة ترددها على مسامعنا لعشرات السنين!!!! وبعد ملاحظة أوضاع مسيحيي مصر المقموعين من قبل المجموعات الإسلامية المتطرفة وهي تحن إلى تطبيق ماعرف بـ (الشروط العمرية) كوسيلة لإذلال أهل الذمة والعودة بأوضاعهم إلى ماقبل ألف سنة خلت. يحدث هذا في مصر التي تضم أكبر مجموعة مسيحية من السكان في الشرق الأوسط في ظل نظام (علماني) لكنه لم يمنح حق المواطنة أسبقية عل الانتماء الديني. ووقف في الغالب متفرجاً تجاه العنف ذات الطابع الطائفي وأحياناً بانحياز واضح إلى جانب التطرف، الذي تكون ضحاياه في الغالب من المسيحيين.

ومع الأخذ بعين الاعتبار تراجع الدور المسيحي إلى حدوده الدنيا في لبنان، الذي كان حتى وقت قريب الدولة الوحيدة في المنطقة العربية ذات الغالبية المسيحية. والتي كان لمواطنيها المسيحيين دورٌ حضاري وريادي في كل المجالات. إزاء هذا الواقع والتطورات الأخيرة، يبدو التساؤل محقاً وملحاً عما سيصيب مسيحيي سوريا من التغيرات التي لابد منها في ظل الوضع الجديد والتي ستجلبها عملية تغيير النظام معها، فيما لو نجح الشعب السوري بمطلبه هذا.

أوضاع مسيحيي سوريا بالمقارنة مع الدول المحيطة كانت إلى حدٍ ما مستقرة ولم تشهد هزات عنيفة كما حصل في لبنان والعراق ومصر وفلسطين. وأكثر من ذلك فقد وجدوا في سوريا حضناً دافئاً احتضنهم حين لجأوا إليها قبيل وأثناء وبعد المذابح التي تعرضوا لها في تركيا في مطلع القرن الماضي. كما تمتعوا بعد زوال الحكم العثماني بحرية دينية بدرجة مريحة ولم يسبق لهم أن اشتكوا من مضايقات في هذا المجال لافي فترة حكم النظام الحالي ولا قبله. مما يعني أن الشعب السوري بغالبيته المسلمة تقبل هذا الوضع بقناعة، ولم يجد في الوجود المسيحي ما يدعوه إلى الامتعاض أو الرفض. لابل أكثر من ذلك، فقد وجد في مواطنه المسيحي عنصراً حضارياً خلاقاً أثرى البلاد وأفادها في مجالات عديدة. ومن هذا المنطلق لعب العنصر المسيحي في سوريا دور حفظ التوازن بين الطوائف والتيارات السياسية المختلفة في سوريا في مرحلة مابعد الاستقلال. ومن خلال هذا الدور برز منهم قادة سياسيون وطنيون مازال السوريون يلهجون بأسمائهم من أمثال سعيد اسحق الذي تسلم رئاسة البرلمان ومن ثم الدولة أثناء الاضطرابات السياسية في خمسينات القرن الماضي وكذلك فارس الخوري الذي ترأس الوزارة السورية أكثر من مرة. وحتى ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث الذي حاز على شعبية كبيرة في فترة المد القومي العربي قبل أن يتناحر الرفاق فيما بينهم ويقصونه عن الحكم ليموت لاجئاً عند صدام حسين (مسلماً) كما أشيع عنه. ولم يكن مسيحيو سوريا أقل شأناً في المجال الاقتصادي أو الفكري حيث برز لهم أعلام كبار نالوا احتراماً تجاوز حدود سوريا ليرتد وينحسر هذا الدور بعد سياسات التأميم الخاطئة وهيمنة الحزب والرأي الواحد على الدولة والمجتمع.

بالعودة إلى النقاش الدائر هذه الأيام على إيقاع جنازير الدبابات ودماء الشهداء الذين يسقطون في شوارع المدن والبلدات السورية، يكتسب هذا الموضوع أهمية بالغة بالنظر إلى خطورة المرحلة التي تمر بها سورية اليوم مع هيمنة نظام عجز عن إقناع السوريين بجديته في السير في طريق الإصلاحات التي يطمح ويسعى إليها الشعب، والتي طالما دعت إليها المعارضة الوطنية فكوفئت بالملاحقة والسجن والنفي. وعوضاً عن ذلك فقد اختار النظام القوة والرصاص الحي عوضاً عن النقاش والحوار الذي دأب على القول إنه معه. متهماً المعارضة بالخيانة والعمالة والإرهاب والتخريب والسلفية وغيرها من التهم التي سيقت وما يزال يروج لها المسؤولون بما فيهم الرئيس نفسه وأجهزة الإعلام الرسمية وشبه الرسمية. ومع فقدان تام للثقة بين الشعب والنظام، وجب على المسيحيين كشريحة أساسية من هذا الشعب أن يحددوا موقفهم ويحسموا أمورهم بالاتجاه الذي يعتقدون أنه أسلم وأفضل لهم ولوطنهم سوريا. وكما هي حال السوريين عموماً بين معارض وموالٍ للنظام، انقسم المسيحيون أيضاً وإن اختلفت النسب وذلك لحساسية الوضع المسيحي من جهة ودرجة وعي المواطن للأزمة التي تعيشها سوريا حالياً من جهة أخرى. ولكن الأهم باعتقادي هو الوتر الذي دأب النظام على العزف عليه طوال أربعين عاماً وهو يغذي الاعتقاد بأنه حامي الأقليات في سوريا وبزواله ستلجأ الأغلبية السنية لتصفية حسابها مع تلك الأقليات. وبالاستعراض السريع الذي أسلفناه عن تاريخ سوريا الحديث ودور المسيحيين فيه، تفقد مقولة النظام هذه مصداقيتها. ذلك لأن المسيحي في ظل هيمنة الأغلبية السنية قبل مجيء النظام لم يعانِ من أية مشكلة وظل التعامل معه على أساس المواطنة في أعلى درجاتها. وكان له الاحترام الذي يستحقه من جميع شرائح المجتمع. أما في ظل حكم حزب البعث وعائلة الأسد فقد تغيرت النظرة كلياً. وصار ينظر إلى المسيحيين كحلفاء للنظام رغم مساوئه الكثيرة بدون أن يغنموا من وراء هذا التحالف المزعوم أية مكاسب إضافية. لا بل زادت معاناتهم من الفساد المستشري أكثر من أية شريحة اجتماعية أخرى في سورية. فهم خسروا موقعهم كعنصر توازن بين مختلف التيارات والطوائف، ولم يوفقوا في نيل حصة من مغانم الفساد التي تقاسمتها مجموعة صغيرة في الدائرة الضيقة المحيطة بأركان النظام. كما تناقص عددهم وتدنت نسبتهم في المجتمع السوري إلى مايقارب الـ 7% من تعداد السكان بعدما كانت أكثر من 20% عند الاستقلال. ويعزى هذا التدني في نسبة المسيحيين إلى عامل الهجرة المرتفعة بينهم وبخاصة في العقود الثلاثة الأخيرة التي حكمت فيها عائلة الأسد. ومهما كانت الأسباب المعلنة لهجرتهم، فإن سياسة النظام ونهجه القائم على المحاباة والمحسوبية والاستئثار بكل شيء وغياب حكم القانون، هو من أهم العوامل التي غربت المواطن السوري وبشكل خاص المسيحيين منهم في بلدهم مما دفع بهم إلى التغرب في بلدان المهاجر. فهل هذا النتيجة هي حماية أم تهجير للمسيحيين سواء بقصد أم بغير قصد ففي الحالتين كانت النتيجة واحدة؟؟

 لم تكن للمسيحيين في سوريا قط مطالب خاصة كمجموعة دينية. فقد توزع أفرادها على مختلف الأحزاب والتيارات العلمانية واليسارية السائدة في المجتمع السوري بما فيها حزب البعث. والتنظيم الوحيد ذات الصبغة المسيحية الذي وُجِدَ هي (المنظمة الآثورية الديمقراطية) التي تسعى للاعتراف بالتعددية القومية وتدافع عن حقوق (السريان-الكلدان- الآشوريين) كمجموعة قومية أصيلة في سورية ولها تميزها الثقافي واللغوي الخاص في إطار الوحدة الوطنية الشاملة. ولكن حتى هذه المنظمة هي تنظيم علماني لاعلاقة له بالدين وإن شاءت الظروف التاريخية أن تكون هذه المجموعة القومية من أتباع الدين المسيحي ومن مختلف الطوائف. وللعلم فإن هذه المنظمة عضو أساسي وفعال في إعلان دمشق، التجمع الأكبر للمعارضة السورية. وهي بموقفها المعارض هذا تعبر عن تطلعات شريحة هامة من مسيحيي سوريا في بناء وطن ديمقراطي ومواطنين أحرار يتساوون بالحقوق والواجبات في ظل سيادة القانون عوضاً عن تأليه الشخص.  وإن كان بين المسيحيين من يعتقد بعد أن النظام بعجره وبجره مازال الضمانة لحماية الوجود المسيحي في سورية، فإن الأسابيع والأشهر القليلة القادمة كفيلة بدحض هذه الفكرة من أساسها بعد أن يضطر النظام إلى الرحيل، وبعد أن يكون للشعب السوري الحرية في بناء مستقبله وتقرير سياساته الداعمة لهذا المستقبل. وحينذاك ستنجلي وتنكشف الكذبة الكبيرة التي روجها النظام واستعملها كفزاعة طوال عقود عندما سعى لإحاطة نفسه بالمسيحيين وغيرهم من الأقليات الأخرى مدعياً حمايتها في الوقت الذي كان في الحقيقة يحمي نفسه بها.

فالمسيحيون كما غيرهم من المواطنين السوريين لم يكونوا يوماً بحاجة لحماية من أي نظام عندما يساوي النص الدستوري بشكل لالبس فيه بينهم وبين غيرهم من المواطنين وعندما تتجسد روح تلك النصوص الدستورية سلوكاً يومياً في الممارسة العملية. وهذه كانت غائبة طوال العقود الأربعة الماضية.

فهل من شك بعد في أن النظام وطوال هذا الوقت، هو من كان يحتمي بالأقليات التي ادعى على الدوام بأنه يحميها؟؟؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى