صفحات مميزة

المشرق العربي دول فاشلة ومجتمعات فاشلة للعيش معاً تأملات في اتجاه العاصفة السوداء/ فراس يونس

 

 

يستقر المشهد الختامي لمجتمعات ودول المشرق العربي على مآلاته الكارثية، بعدما انطوت مرحلة (ربيع الشعوب العربية) باحتمالاتها وممكناتها السياسية التي كان من شأن مفاعيل تلك المرحلة أن تفتح الدرب ولو مواربا في إمساك المجتمعات لزمام مصيرها، بأفق التقدم والتحرر من نير الطغيان الداخلي والإمبريالي، باختلاف استراتيجياته وتنوع لاعبيه.

يحترق المشرق العربي في أتون صراعات وتمثيلات القوى الاجتماعية بعناوين تشكيلات سياسية ما تحت الوطنية، من طائفية وعشائرية، إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى، في تغذية دولية – محلية متبادلة، للسير وفق قواعد اللعبة القديمة بغض النظر عن معارضات هنا وهناك في دول المتروبول، لمخاطر اللعب بمفردات المنطقة ( ومكوناتها).

تلك العودة النكوصية لم تكن ممكنة إلا بسبب إدارة النظم الديكتاتورية في المشرق العربي لمقدرات السياسة والاقتصاد والمجتمع، ومواجهة تلك النظم لمطالب المواطنين المحقة بالتعسف والتحطيم الجسدي والسياسي للاحتجاجات والانتفاضات العربية، من دون أية مساءلة ذاتية أو مراجعة أو قدرة على الإصلاح التدريجي.

أداة عمياء :

لم يكن حضور دولة الخلافة الإسلامية ومثيلاتها، ومخاطر تمددها، إلا تتويجا لظفر تلك النظم في تحطيم ثورات شعوبها. حيث داعش هي “بارومتر” وحدة قياس انسداد آفاق العملية السياسية، وعدم جدوى الخيارات الإقصائية المتبعة، مع كل ما ترتب على ذلك، من تحولها إلى دول فاشلة ومجتمعات فاشلة في (العيش معاً) عبر خلق بيئة صراعات لا تنتج خصوماً إلا على شاكلة داعش ومثيلاتها من جهة، وخلق صراعات اجتماعية وسياسية خارج ميدان الأسئلة الكبرى في التنمية والديمقراطية وبناء دولة القانون، وما يستتبعها، مما يؤهب ويؤهل لاستثمار القوى العظمى وفي مقدمها الولايات المتحدة، لإعادة صياغة وجه المنطقة، وآليات السيطرة على مقدراتها بخرائط جديدة، وأهداف متجددة، لتغدو (مكافحة الإرهاب) الاسم الغفل لإعادة تنظيم المشرق العربي وضبطه وفق قواعد هيمنة جديدة.

الأمن اللاسياسي:

وفق تلك الترسيمة لا تلبث هواجس الأمن اللا سياسي أن تخفي الأهداف المجهولة للتحالف الدولي العتيد، بقيادة الولايات المتحدة، تلك الأهداف اللامرئية بمرتسماتها الاقتصادية والسياسية، تُحَوِل المنطقة العربية بأسرها بقيادة الولايات المتحدة في بناء منظومة ديكتاتورية – ونظام بوليسي إقليمي ، على جثة المطالب الاجتماعية والسياسية العربية لشعوب المنطقة العربية المضادة للنيوليبرالية وأوهام الهويات فارغة الجدوى، فثورات 2011 وما تلاها يجب ألا تتكرر، للقرن الحادي والعشرين، لأن السياق النيوليبرالي في مدونته الإيديولوجية وتعبيراته الإعلامية، لا ينتج إلا خصوماً (هويات)، وإعادة إنتاج قوى دينية، الرسالة وصلت: إما الامتثال لعبودية الرأسمال وإملاءات مؤسساته الدولية والاقتصادية العالمية، والانخراط في أدوار الوكالة ووكلاء الوكالة (تابعو التوابع)، أو الوقوع في عبودية داعش وإٌقصائيتها وعبثيتها، وعلينا أن نختار.

طائفية سياسية في ملعب الصراع الدولي:

مستثمرة واقع وجود طوائف تكوينية في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، لم يكن ممكناً لإمبرياليات القرن التاسع عشر فرض سيطرتها، إلا بالاستناد إلى تلك المكونات و(تبني) مظلومياتها، ودغدغة مصالح النخب الارستقراطية لهذه الطائفة أو تلك، مستفيدة من أجواء صراعاتها الداخلية التي لم تكن ترمي إلا إلى تحسين مواقع تلك النخب الاجتماعية والسياسية في الهيمنة والسيطرة على جمهور الطوائف، في لعبة صراع ووحدة أضداد، وكانت تستفيد من صراع القوى الإقليمية (فارس والسلطنة العثمانية)، ومع تراجع نفوذ تينك القوتين، وأفولهما الإقليمي، لعب الغرب بقواه النافذة (بريطانيا وفرنسة) بورقة الطوائف، محولاً تلك البنى التكوينية بالمعنى الأيديولوجي، إلى بنى ارتكاز مصالح سياسية، وأدوات وجسور عبور لهذه الإمبريالية أو تلك، ولتمنح صراع الطوائف صراع هويات متجذرة، وكأنها غير قابلة للحل، وعبر استخدام الزعامات السياسية لتلك الصراعات في محاولاتهم للسيطرة السياسية، كما يشير بحق “جون الترمان” في مقالته المعنونة (الشرق الأوسط نسيج يتفكك بسلاح التعددية الطائفية).

ما الجديد في قديم لعبة صراع الطوائف؟:

في ظل الصراع الدولي، والتشبيك مع القوى الطائفية، في المشرق العربي، لم يكن (الاحتكار) سمة تطور الدول الرأسمالية في صيرورة توسعها الإمبراطوري فحسب، بل في (احتكار) صلاتها الوثيقة بالطوائف أو بالأدق مع نخب الطوائف في بلداننا العربية، وتنحية القوى الإقليمية عن الطريق، واحتكار تابعيتها، على أن هذا التركيب الدولي المعقد سيتحول أمام صعود القوتين الإقليميتين مجدداً (إيران وتركيا)، ليأخذ مساراً استقطابياً طائفياً متجدداً، وأما قابليات دول بمثل العراق وسورية ولبنان، كي تكون مؤقلمة وُمدَولَنَة (بكثافة حضور مصالح تلك الدول) بفعل تكوينها المبني على تقاسم دولي تاريخي نافذ، عبرت عنه اتفاقية سايكس ـ بيكو، وأثر المحيط الإقليمي الضارب في تدخلاته وتبعيته، ستكون صيغة ومقادير أي حكم أو هيمنة سياسية في بلداننا تلك، مصبوغة بمفاعيل ذلك التشابك، وصراع إرادات قواه المؤثرة دولياً وإقليمياً.

أين نحن من نهاية التاريخ؟

في حوار أجرته المجلة الفصلية الأمريكية (new perspective quarterly )، مع “أوكتافيو باث”، وهو يعلق على صخب نهاية التاريخ في تسعينيات القرن الماضي، بمنتجها الفوكويامي: (نذكر جميعاً أيام ما بعد الحرب الباردة، عن نهاية التاريخ بالمعنى الهيغلي التاريخ الذي تقدم في غمرة تناقضات زمنية وصراعات داخل روح العالم، وأنه اليوم يستريح في السلام النسبي للحاضر)، يعلق أوكتافيو باث بالسخرية الفلسفية استدراكاً لما سبق: لكنها نهاية هيغل أيضاً !!

وبالفعل لم ينته ماركس بنزعة تلامذته الخطاطية الصارمة للتاريخ فحسب، بل شاركه هيغل وتلامذته الأكثر رداءة في الإنشاء الفلسفي، فالعالم لم يسبق له أن واكب مثل تلك الأجواء العاصفة الملبدة بالحروب الباردة والساخنة، وعضال صراع الهويات، ذلك العضال الخبيث بالاستعارة من تعبير السيدة كلينتون في كتابها (خيارات صعبة)، وهي تتحدث عن الأزمة السورية، متغافلة عن قراءة جذر الأزمة السورية والعربية.

سماوات تتشظى وتقاسم الأجواء:

أمام مشهد المشرق العربي بدوله الفاشلة ومجتمعاته المنقسمة، مما يفضي إلى انهيار كيانات ما أطلقته سايكس – بيكو قبل مائة عام، ويضع المحيط غير العربي، أمام مخاطر ومجاهل جمة، ليس أقلها بروز صدوع في بنية تلك المجتمعات، من شأنها زلزلة دولها واستقرارها، مما يحفز على ضرورة الإسراع بحل الأزمة السورية جدياً بأفق السياسة وحدها، فلا مناص من التفاوض الدولي والإقليمي والداخلي، واستغلال أي اختراق مهم من شأنه مراكمة خطوات على طريق مخرج آمن من التفكك، أو تمدد الدولة الإسلامية، أو الفوضى العارمة والاستنقاع، كحال المشهد الآن الذي لا يكتفي بتقسيم بقاع أوطاننا، بل في تشظي سماواتها، وتقاسم أجوائها.

ماتزال الإمكانية قائمة، فما من وضع كارثي إلا وله مخرج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى