صفحات العالم

المشرق العربي: من ترسيم الحدود إلى التجزئة ضمن الحدود

روجر أوين *

كتبتُ منذ بضعة أشهر مقالة حول انطباعي أنّ الحدود السوريّة والعراقية، التي رسمتها بريطانيا وفرنسا بعد الحرب العالميّة الأولى، لا تزال قائمة على حالها، بصرف النظر عن الطبيعة الراهنة للمشاكل الداخليّة في البلدين. غير أنّني بتّ أقلّ تأكّداً من انطباعي هذا، لا سيّما في أعقاب إبرام عقد نفطي جديد بين تركيا وكردستان.

في البداية، لا بدّ من أن أراجع ما يُعرَف بصورة أفضل على أنّه «الجغرافيا السياسيّة» للشرق العربي، وأن أعيد النظر في طريقة اختلافها عن الجغرافيا السياسية للدول العربية في شمال أفريقيا. ففي حين أنّ الدول العربية في شمال أفريقيا مستقرّة نسبيّاً، إذ تضمّ أعداداً ضئيلة من الأقليات العرقيّة والدينيّة، يشمل الشرق منطقتين جبليّتين بالغتي الأهمية، شكّلتا ملاذاً لعدد كبير من الجماعات الدينيّة المعرّضة للاضطهاد، التي لاذت بالفرار إلى هذا المكان، هرباً من المماليك في أواخر عهدهم ومن الحكم العثماني. وتقوم إحدى هاتين المنطقتين على سلسلة التلال الموازية للساحل اللبناني والسوري الجنوبي. أمّا المنطقة الأخرى، فهي عبارة عن المنطقة الجبليّة داخل مدينة كركوك في شمال العراق وفي محيطها. وخلال الفترة الحديثة، ولأسباب قدّ تمّ تفصيلها مراراً، حضّ انعدام الفرص عدداً كبيراً من الشبّان العلويين في سورية على الانضمام إلى صفوف الجيش، والأمر نفسه حصل بالنسبة إلى عدد كبير من الشبّان السنّة في العراق. وقد أدّت هذه العمليّة إلى قيام أنظمة استبداديّة نافذة في كلا البلدين. لكن ثمّة نقطة بارزة أخرى، تتمثّل بكون نظامَي الأقلية في عهد كلّ من حافظ الأسد وصدّام حسين كرّسا، في مرحلة لاحقة، أهمية كبرى للترويج لذاتهما على أنهما تجسيد للوطن، مع إيلاء اهتمام ظاهري لا يُذكَر للانقسامات الدينيّة أو الطائفيّة الكامنة.

وبالعودة إلى الاجتياح البريطاني – الأميركيّ العراقَ، الذي استند إلى معلومات خاطئة، في عام 2003، لا بدّ من القول إنّه خلّف تداعيات سلبيّة، من بينها التشجيع على إضعاف هذا النمط الحكومي بالتحديد، وذلك من خلال الترويج لعنصر طائفي معيّن، سرعان ما هيمن على الحياة السياسيّة، مع العلم أن الغموض لا يزال يشوب الطريقة المحددة التي تمّ بها ذلك. غير أنّ النتيجة تمثّلت باستبدال حكم ديكتاتوري غير طائفي نسبياً في العراق، بآخر أكثر تشرذماً بكثير، تعمل فيه الطائفة على تحديد الهوية السياسية. أمّا في سورية، فيتعرّض نظام استبدادي لهجوم عنيف تشنّه عناصر طائفيّة يسهل تحديدها. وبالنتيجة اندلعت سلسلة من الحروب شبه الطائفيّة، كان العنصر الأبرز الذي فرض ذاته فيها يقوم على انقسام كلّ بلد إلى كيانين منفصلين أو أكثر على الطاولة السياسيّة، مع العلم أنّ الأمر لا يشير إلى زوال سورية والعراق بهذه البساطة، بل إلى احتمال تحوّلهما إلى دولتين تتراجع سطوتهما تدريجاً على المناطق المحيطة بهما.

وعلى صعيد العقد النفطي بين تركيا وكردستان، رجّحت نظريّة أبداها ديفيد غاردنر في مقال نشره أخيراً في صحيفة «فاينانشال تايمز» البريطانية أن يكون هذا الاتفاق مبنيّاً على قفزة توشك عليها الدولة العراقية، إذ تسعى إلى تطبيق نوع من الحكم اللامركزي. وثمّة دليل آخر على ذلك، يتمثّل بالسلوك المفعم بالثقة لدى أفراد بعثة كردية أرسِلَت أخيراً إلى واشنطن. والأمر صحيح خصوصاً على خلفيّة أطلقوها تفيد بأنّ النظام الإداريّ المحليّ في المنطقة الكردية في العراق أفضل كثيراً من النظام القائم في بغداد، مع العلم أن إطلاق حجّة من هذا القبيل بالغ السهولة وسط الظروف الراهنة.

ولكن، كيف يتفق هذا كلّه مع المساعي الكبيرة لحماية سيادة الدول بعد الحرب العالمية الثانية، وهي المساعي التي بذلتها أنظمة ما بعد الاستقلال، التي تلقى دعماً من عدد كبير من المنظمات الدولية التي تنتمي إليها، إلى جانب الدور الذي تلعبه روسيا والصين، وهما من الدول الأكثر نفوذاً في العالم، بالنسبة إلى سورية والعراق؟ وفي هذا السياق، يُطرح مساران محتملان لتحديد المستقبل، ويستند كلاهما إلى سوابق سُجّلت أخيراً. أمّا المسار الأوّل، فيقوم على انقسام للدولة القائمة يلقى اعترافاً عالمياً. وهذا بالتحديد ما حصل في السودان، حيث إنّ حرباً عنيفة، لا غالب فيها ولا مغلوب، لم تكتفِ بالتحوّل إلى فرصة للانقسام، بل أصبحت أيضاً فرصة للتحكيم في شأن مصير الموارد المشتركة بين البلدين، ولا سيّما النفط، والاستفادة منها بطريقة تكون منصفة. وقد يزعم البعض أنّ هذه الخطّة قد تشكّل حلاً محتملاً في العراق من الناحية النظريّة. غير أنّه حلّ قد يتعارض مع شعور الأكراد بضرورة تأمين حماية لشبه السيادة التي يتمتّعون بها داخل الحدود العراقية القديمة، تكون أفضل من تلك التي قد تنتج عن إنشاء دولة جديدة لهم.

أمّا المسار الثاني، الذي تتجلّى معالمه بوضوح أكبر بكثير بالنسبة إلى سورية والعراق، فيقوم على مبدأ «الدولة المتدهورة»، حيث لا يعود العنف المشروع حكراً على الحكومة، وفق ماكس فيبر، فتواجه بالتالي صعوبات كبيرة للسيطرة على حدودها. وثمّة دول كهذه موجودة في أرجاء عدّة من العالم، وهي تتسبّب بمشاكل للبلدان المجاورة لها، وتهدّد في بعض الأحيان استقرار منطقة بأسرها. هذا إلى جانب أمر على المقدار ذاته من الأهمية، وهو أن إعادة بناء هذه الأنظمة الحكومية تتطلّب حلاً داخلياً، يتم تصميمه بدقّة ليتناسب مع الظروف المحلية. ولا شكّ في أنّ إعادة بناء أنظمة هذه الحكومات مهمّ. وفي هذا الصدد، يمكن على الأقلّ أن نتصوّر إمكان إحراز تقدّم لحل الأزمة السورية، يمرّ عبر تنظيم مؤتمر دولي يقترحه الأميركيون والروس، وتَحضَره الأطراف السورية المعنية كافة، وينتهي بانتخاب حكومة جديدة.

وبالنسبة إلى العراق، لم يتّضح بعد ما إذا كان الوضع الداخلي الراهن يشكّل خطراً إقليميّاً كافياً للمطالبة بأي أمر غير التوصّل إلى مواجهة فعليّة بين حكومة بغداد والأكراد. والجدير ذكره أنّ الطرفين يملكان أموالاً ناتجة عن مواردهما النفطية، ولعلهما يتحلّيان بالصبر الذي يتطلّبه الانتظار. غير أنّ وصول متطوعين جهاديين لتعزيز قدرات الطرف السنّي، والتحدّي الكردي الواضح للسيادة الوطنية، مع إقدام الأكراد على توقيع عقد نفطي مستقل مع الأتراك، هي أمور من شأنها أن تدفع بالأمور إلى المكان ذاته، بالنظر إلى أنّ قضايا كثيرة مرهونة بولاء الجيش العراقي وقدراته من جهة، وبالتفكير السائد حاليّاً في طهران من جهة أخرى.

وكما هي الحال بالنسبة إلى جوانب كثيرة من الحياة العصرية، قد تشكّل حماية السيادة هدفاً منطقياً إنما صعب التحقيق بصورته المطلقة، ولا سيّما مع التكاثر المتزايد للثغرات التي تشهدها الحدود على أنواعها. وعليه، تبقى إمكانية دائمة بتقسيم هذا النوع من الحدود أو ذاك، بصرف النظر عن حصول الأمر وفقاً لاتفاق متبادل، أو عن الإرغام على الموافقة عليه، أو عن تعرّضه لاعتراضات عنيفة.

وبالعودة إلى تسوية أوضاع الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى، من الممكن القول إنّها لم تخلق حدوداً اصطناعية إلى هذا الحد، بل أنتجت دولاً مصطنعة، لا يزال تحقيق الاستقرار فيها، في ظلّ أيّ نظام غير النظام الاستبداديّ، يُعتبَر مشكلة، وحيث تشكّل الانتخابات الشعبيّة حلاً يعترضه الكثير من المشاكل.

* أكاديمي بريطاني – جامعة هارفارد

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى