سمير العيطةصفحات سورية

المصلحة العامّة السوريّة/ سمير العيطة

 

 

إدارة الشأن العام هي بالتحديد إدارة مصالح خاصّة من أجل المصلحة العامّة. وكلّ إشكاليّة الحكم الرشيد تقوم على بناء التوازن بين ضرورة تحفيز الاستثمار وريادة الأعمال، ومهمّة صون وتنمية الحقوق العامّة للمواطنين كافة، والحيلولة دون هيمنة أصحاب المصالح، خاصّة الكبرى منها، على الحكم. تتخطّى هذه المعادلة الأساسيّة في منطقها قضايا الفساد ومكافحته، لأنّ الأمر ليس في الأساس أمراً أخلاقيّاً بقدر ما هو صلب الاقتصاد السياسيّ لإدارة الشأن العامّ والتنمية.

هذه الإشكاليّة متواجدة في سوريا منذ نشوء الدولة المستقلّة. في البدايات، عمل كثيرون على تثبيت منطق «المصلحة العامّة»، وأقاموا مؤسّسات ساهمت في إحداث تغييرات جوهريّة في لعبة المصالح الخاصّة الموروثة من الحقبة العثمانيّة والفرنسيّة. لقد تمّ مثلاً تقليص دور «خانجيّة» حلب في سياق تنمية الزراعة، وأيضاً قضم المصالح الفرنسيّة والبريطانيّة انتهاءً بتأميمها إبّان العدوان الثلاثي على مصر. كان العماد الأساسيّ لهذا كلّه هو أبناء أثرياء المدن الذين آمنوا بمنطق الحداثة والدولة، وانتهى بهم الأمر بالمشاركة في تأميمات الحقبة الناصريّة أو تطبيق الإصلاح الزراعي في حكومة «يساريّة» خلال فترة «الانفصال». تميّزت تلك الفترة بتسارع التنمية الاقتصادية كما الاجتماعيّة، برغم كلّ الانقلابات والتقلّبات الهيكليّة وكوارث الجفاف.

ثمّ تغيّر الاقتصاد السياسي في سوريا جوهريّاً في حقبة «رأسماليّة الدولة» التي أقامتها نُخبٌ جديدة، أغلبها ريفيّة، انطلاقاً من 1965. أضحت المصالح الخاصّة الكبرى جزءاً من آليّة تكوّن واستمراريّة سلطة فرضت هيمنتها دون منازع. لم يكُن مثل هذا التطوّر استثنائيّاً بين الدول العربيّة، بل كان هو النموذج السلطويّ الريعيّ «للمصلحة العامّة» الذي ساد بعد طفرة أسعار وأموال النفط إثر حرب 1973 من العراق والخليج وحتّى المغرب العربيّ. إلاّ أنّ سوريا عاشت حصاراً اقتصاديّاً من جرّاء الخيارات الجيوستراتيجيّة للسلطة، انتهت بإفلاس الدولة العام 1986، ولم تحلّ تداعياته سوى في أوائل الألفيّة الثالثة.

انحسرت المصالح الخاصّة المحليّة منذ منتصف الستينيات بانتظار أيّامٍ أفضل. ثمّ عادت لتنمو من جديد مع بداية الانفتاح الاقتصادي في نهاية الثمانينيات وأوائل التسعينيات. بدأ الأمر مع اتفاقية التبادل مع الاتحاد السوفياتي في نهاية عهده، ثمّ تطوّر القطاع الخاصّ بشكلٍ ملحوظ في ظلّ سياسات حكومية تشجيعيّة لاستبدال الاستيراد. إلاّ أنّ السلطة عجزت في منتصف التسعينيات عن إيجاد توازنٍ بين مصالح طبقة «رجال الأعمال» الصاعدة ومصالح الطبقة الأُخرى التي رسّخت موقعها على قاعدة الاستفادة من العقود الحكوميّة في ظلّ «رأسماليّة الدولة». وبرزت حينها المطالبة بـ «الإصلاح السياسيّ» بمساهمة «معارضين» من «رجال الأعمال» تضاربت مصالحهم مع مصالح القائمين على أجهزة أمنيّة كانت قد ساعدتهم إلى حين في تنمية أعمالهم.

ثمّ عادت هذه الإشكاليّة بقوّة في بداية الألفيّة الثالثة مع توريث السلطة إلى الابن، في ظلّ انفتاح البلاد على «الحداثة» والعولمة. ظهرت حينها صراعات مصالح خاصّة كبرى، تحديداً للسيطرة على قطاعات ريعيّة منها الهاتف الخلويّ والتطوير العقاريّ واستيراد السلع الاستهلاكيّة، بل لتحويل بعض القطاعات الإنتاجيّة إلى قطاعات ريعيّة. وانخرطت في هذه الصراعات أطراف متعدّدة: أبناء «رأسماليّة الدولة» السابقة الباحثون عن آليّات جديدة لتثبيت الهيمنة، وأبناء المهاجرين السوريين الذين ترعرعوا في ظلّ التطوّرات الكبيرة في الخليج والغرب وفي المنظومة السوفياتيّة السابقة، ومن خلفهم المصالح العالميّة الكبرى للشركات العابرة للدول، والقطاع الخاصّ المحليّ في التجارة والصناعة. رفضت السلطة حينها إجراء «إصلاحات سياسيّة» توازياً مع ما سمّته «إصلاحات اقتصاديّة»، أي أن يتمّ عبر بعض الحريّات السياسيّة إيجاد حدٍّ أدنى من الضوابط لصراعات المصالح الخاصّة هذه، فضلاً عن تعريفٍ جديدٍ «للمصلحة العامّة» ينطلق من انهيار استثمارات الدولة في الخدمات العامّة والبنى التحتيّة. هنا أيضاً لم يكن الأمر استثناءً سوريّاً أو «بعثيّاً»، بل إنّ «رأسماليّة الأقرباء والأصدقاء» التي أتت بآثار كارثيّة على الفئات الشعبيّة، والشبابيّة منها خاصّة، كانت هي النموذج العربيّ العامّ الذي كان أحد أسباب انتفاضات «الربيع العربيّ».

الخصوصيّة السوريّة كمُنَت في شروخ وضغائن راكمتها هذه الصراعات بين أطراف ما يُسمّى «القطاع الخاصّ» السوريّ، ولكن الذي أضحى معولماً. وتعمّقت تلك الصراعات لتُضحي تصدّعات جوهريّة في تحالفات المصالح الكبرى الخاصّة السوريّة ـ الإقليميّة، وتقهقرت ضمن غياهبها «المصلحة العامّة». كما كمُنت الخصوصيّة في أنّ سياسة الهروب إلى الأمام الانفتاحيّة جرت في ظروف عودة سوريّة من جديد للعقوبات الاقتصاديّة على خلفيّة احتلال العراق وأزمة الوجود السوريّ في لبنان.

هكذا ظل الأمر حتّى انفجار الانتفاضة الشعبيّة الشبابيّة في 2011. عندها انخرط بعض «رجال الأعمال» في «الثورة» وفي ترتيب «المعارضة» السياسيّة ودعمها الإعلاميّ. هذا بسبب سحب رخصة تسويق سيارات منه، وذاك لأنّ أجهزة أمن كانت قد رفعت عنه الغطاء، وآخر لأنّ السلطة لم تستمع لنصائحه في «الإصلاحات». ربمّا النقطة المشتركة بينهم أنّ مصالحهم الرئيسة لم تعد في سوريا حتّى ولو كانت «مراكمتهم» الأولى قد أتت منها. على العكس، ساند «رجال أعمال» آخرون ترتبط أعمالهم بالريوع الرئيسة السلطة القائمة حتّى «العظم». أمّا «القطاع الخاصّ» المحليّ، وهو الأغلبيّة، فقد بقي خارج هذا الاصطفاف، ودفع الثمن الأكبر مع الكارثة الاقتصاديّة التي حلّت، ومن ضمنها تفكيك المعامل في حلب وغيرها، وكان هو حامل العبء الأكبر في دعم صمود المواطنين المعيشيّ طويلاً حتّى استنفدت غالبية إمكانيّاته. «إلاّ من فقد الأمل منهم ورحل.

مع انطلاق الحرب الأهليّة في صيف 2012 ظهر «رجال أعمال» جدُد. أمراء حرب تغذّوا من مآسيها، وأضحوا مع المقاتلين هم «سلطة الأمر الواقع». وهذا عبر استغلال العقوبات الاقتصاديّة لتهريب البضائع، وذاك عبر أموال تُصرَف للمقاتلين أو المساعدات، وآخرون لعبوا دور صلة الوصل بين الطرفين لتمرير المؤن للمناطق المحاصرة، وغير ذلك. هيمن هؤلاء على محليّات سوريا المشرذمة، واختلط الاقتصاديّ بالعسكريّ والسياسيّ، لتضيع «المصلحة العامّة» لأبعد الحدود.

لا مصلحة لأمراء الحرب في انتهائها. فالحرب أصلاً تعيد توزيع الثروة. ولكن ماذا لو توقّفت بقرارٍ إقليميّ ـ دوليّ؟ وكيف تكون إعادة الإعمار والدورة الاقتصاديّة على صعيد صراعات المصالح الخاصّة؟ تلك الموروثة من مرحلة ما قبل «الثورة» وتلك التي صعدت بين طيّات الحرب. ومَن يدافع عن «مصلحة عامّة» وكيف يُمكن له العمل من أجلها؟

تمتلئ أدبيّات وخطابات الفعاليّات السياسيّة السوريّة بالأحاديث عن إعادة الإعمار والدور الرائد «للقطاع الخاصّ». وكذلك الأمر بالنسبة لأدبيّات المؤسسات الدوليّة. بل يذهب البعض إلى أنّ «رجل أعمالٍ» سحريّاً هو الذي يجب أن يقود «المرحلة الانتقاليّة» في سوريا، عندما تدقّ الساعة لذلك. لكنّ أسئلة أساسيّة تغيب عن جميع هذه الأحاديث. أيّ فئة من فئات القطاع الخاصّ يجب دعمها وأيّ فئة أخرى يجب ضبط طموحاتها؟ وماذا يجب عمله مع القطاعات الريعيّة وفي ما خلّفته الحرب من انتهاكات لـ «المصالح الخاصّة»؟ وما هو الثمن الاقتصاديّ الذي ستدفعه سوريا كي تُرفَع العقوبات الاقتصاديّة والماليّة عنها، وفي أيّ مهلة زمنيّة؟ وكيف تُعاد شرايين الحياة الاقتصاديّة للعمل كي لا تبقى سوريا رهناً لمساعدات خارجيّة، حُكماً ستكون أقلّ من الاحتياجات؟ وكيف يتمّ ضبط إعادة عمران ما تخرّب وكذلك التنمية المتوازية مناطقيّاً بعيداً عن الريع والمزايدات الطائفيّة والعرقيّة؟ أسئلة كثيرة يمكن اختصارها بسؤال واحد: أين تكمُن المصلحة العامّة لسوريا ما بعد الحرب ومَن يُمكن أن يقوم عليها بشكلٍ حياديّ؟

بكلّ الحالات، لا ينبغي نسيان قاعدة جوهريّة مفادها أنّ الإصلاحات الكبرى تأتي بعد الحروب. هكذا تقول دروس التاريخ.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى