صفحات مميزة

المعارضة السورية إلى أين –مقالات مختارة-

 

 

موسم الأسئلة السوري/ عمر قدور

كانت الثورة إلى وقت قريب الإجابة التي يقدّمها أصحابها عن العديد من الأسئلة الشائكة، فما قبل إسقاط النظام لن يكون كما بعده. وفق ذلك، يمكن تأجيل الأسئلة المتولدة عن إسقاطه حتى يحدث ذلك، بخلاف قوى دولية وازنة تريد الحصول على إجابات قبل استحقاق السؤال. أي أن الثورة إجابة عن الأسئلة التي يطرحها نظام ألغى جميع الإجابات الأخرى، وعندما يكتسب الحدث مرتبة الضرورة القصوى سيكون من التعسّف وضعه في مرتبة السؤال والمساءلة.

الإجابة التي تمثلها الثورة كانت ممنوعة بمصالح متقاطعة أو متشابكة. اليوم، إذ يبدو الطريق ممهداً أكثر من أي وقت مضى أمام فرض تسوية، تبدو الأخيرة هادفة في الدرجة الأولى إلى منع الإجابة الأصل بإسقاط النظام. وإذا كانت أية تسوية لن تنجح في إعادة النظام إلى ما كان عليه فذلك لا يعني تلقائياً مكسباً للثورة، أقله على المدى القريب، مع وجاهة الانفتاح على احتمالات مستجدة تطوي صفحة سورية وثورتها معاً.

لقد كشفت الثورة وفضحت منظومة متكاملة من الادعاءات التي يقوم عليها النظام وحلفاؤه، تلك الادعاءات التي كانت من قبل تملك تماسك الخطاب. لكن، خلال مسيرتها المتشعبة، لا يجوز عدم الانتباه إلى الأسئلة التي باتت تحيط بالثورة من كل صوب، وهي أسئلة تنبع من مسارها حتى إذا تسببت بها قوى كبرى أعاقت المسار المتوقع. موسم الأسئلة السوري يعني انقضاء مرحلة، وإن لم يعنِ استهلال أخرى بسبب تراكم عوامل الخيبة والخذلان والحيرة، ولعل الحيرة تتأرجح بين البحث عن إجابة مريحة جديدة والعثور على الأسئلة المناسبة.

لم تنجح الثورة، بطوريها السلمي والمسلح، في كسر الانقسام المجتمعي، مثلما لم تنجح في الانتصار. هذا تساؤل لا يجيب عنه فقط التواطؤ الدولي مع نظام الأسد وتصوره كمعطى لا يتغير، ولا يجيب عنه أيضاً ذلك الابتذال الذي يختزل الإجابة بأن الثورة لم تنجح في طمأنة الأقليات. التساؤل سيبقى في مثابة تحدٍّ، طالما لم تُطرح قضايا السلطة وإعادة توزيعها على بساط البحث التفصيلي، وطالما لم تُطرح الأسئلة القانونية المتعلقة بحقوق الأفراد وحقوق الجماعات بلا مداورة.

القول بأن التحول الديموقراطي سيتكفل بحل جميع هذه الإشكاليات تعوزه الدقة والمصداقية معاً، ففي بلد مجاور مثل تركيا تُرى عثرات الديموقراطية، على عراقتها النسبية، وتُرى إمكانية تحجيم الديموقراطية عموماً، أو تهميش الغالبية مكوّناً مثل الأكراد. هذا يطرح أسئلة ثقافية وحقوقية على العقد الاجتماعي السوري، إذا قُيّض له رؤية النور يوماً، ولم يتبخر على الطريقتين العراقية واللبنانية لمصلحة دورات احتراب من أجل إعادة اقتسام السلطة.

على صــعيد متصل، كان يُنظر إلى سورية حتى سنوات قريبة بأنها بعيدة من الاحتراب الأهلي، بسبب وجود أكثرية سنية صريحة، من دون الانتباه إلى مفاتيح القوة التي يحتكرها النظام وحده. الآن، يمكن القول بأن الأكثرية الصريحة لم تعد كذلك، بفعل عمليات التطهير الديموغرافي من المرجح أن تكون نسبتها قد انخفضت إلى ما دون نصــف السكان، لذا عبّر بشار الأســـــد في حوارين متتاليين عن ارتياحه إلى النســيج الاجتماعي الجديد. لكن بعيداً من مبدأ الترجيــحات العددية الطائفية والتظلم منــها، لم تُطرح بعد الأسئلة الملائمة لثورة صارت كتلتها الأساسية في المنافي، بينما يُحمّل مَن بقي في الداخل المسؤولية الأكبر في استمرارها.

تالياً، بما أن الغرب تحمل وسيتحمل مستقبلاً قسطاً معتبراً من مسؤولية استيعاب المهجّرين، لم تنل العلاقة بالغرب الأوروبي اهتماماً كافياً، وبقي تناوله أسير شعارات تتعلق بتقصيره. لم تُطرح الأسئلة عن الأسباب التي تحدو بالغرب الأوروبي (إذا كان يستطيع حقاً) إلى دعم ثورة يتحالف بعضها مع أصولية يقع العداء للغرب من دون تمييز في جوهر تكوينها. لقد أُضعف موقف الغرب الأوروبي، فوق تهميشه أميركياً وروسياً، نتيجة تحالفات فصائل المعارضة المنسوبة إلى الجيش الحر، والأهم من ذلك مستقبلاً تلك الأسئلة التي يطرحها وجود سوري كثيف في الشتات الأوروبي على طبيعة العلاقة بين الطرفين، بدايةً من طبيعة التعامل الثقافي مع الغرب.

أما تحالفات الحرب مع فصائل إسلامية، فلا بد أنها تطرح أسئلة لا يفرضها الخارج وحده، وإذا لم يكن مقبولاً النظر إلى التجربة الإسلامية بمنطق الإقصاء، فواحد من الشروط الواقعية ألاّ ينظر الإسلاميون بالمنطق ذاته. تجربة الحرب كشفت ذلك النزوع الإسلامي إلى الغلبة، أحياناً تحت أقسى الظروف التي تفرضها المعركة على أبناء خندقين متجاورين. فتحت القصف الروسي بادرت فصائل إسلامية إلى مهاجمة فصائل ترفع علم الثورة، وقبل أن يتّبعها النظام لجأت فصائل إسلامية إلى سياسة قضم «المناطق المحررة»، فضلاً عما يُثار عن محاولات الهيمنة على المستوى السياسي. بهذا المعنى، لم يعد التعاطي مع مسألة الإسلاميين مرحّلاً إلى ما بعد سقوط النظام، صار في صلب الأجوبة المطلوبة من الثورة نفسها ولنفسها. لم تعد الإجابة الاعتباطية التي تجمع كل من يريد إسقاط النظام شافية، بلا اتفاق الحد الأدنى على ما يعنيه الشعار، ما يطرح أسئلة عن القوة أو مجموع القوى المطلوبَيْن لدفع الإسلاميين إلى اعتدال جذري لا لفظي.

قد يُقال بأنه ليس من شأن الثورة تقديم تصورات شاملة من هذا القبيل، ويكفي قيامها بفعل الهدم كي تمهد الطريق أمام الجديد. هذا يصح أكثر على الثورات التي تُسقط الأنظمة على نحو خاطف، من دون أن تتعرض لامتحان الخوض في البديل، وربما يصح على ثورات يكون فيها الانقسام المجتمعي على أسس مختلفة. في الثورة السورية، اتسع الوقت للحديث عن الجيش الحر كجيش وطني بديل، واتسع أيضاً لتشكيل حكومة موقتة في المنفى، وصولاً إلى الدخول في مفاوضات دولية حول ماهية البديل وما الذي سيبقى من النظام في البديل المقبول. ذلك يضعها في موقع طرح عدد ضخم من الأسئلة قد يفوق الإجابات المتاحة والسهلة. ومع أن هذا الامتحان بدا خارجياً فحسب، أو ربما اشتراطاً تعجيزياً من البعض، فإن عدد الضحايا الضخم أيضاً يستحق ثمناً أعلى من مجرد تنحّي عصابة من القتلة عن الحكم. ربما، في حالتنا، صارت المعرفة واجباً أخلاقياً أيضاً!

الحياة

 

 

 

البحث عن اليقين والقربان في «مراجعات» سوريا/ ياسين الحاج صالح

تتواتر دعوات إلى «المراجعة» في أوساط معارضين سوريين، بارتباط ظاهر مع إعادة احتلال حلب من قبل الدولة الأسدية، وأسيادها من الروس والإيرانيين، وإدراك منتشر بمنعطف كبير في مسار الصراع السوري، تزامن مع نهاية عام 2016 المنقضي. ومنذ الآن هناك نصوص ومشاريع في هذا الشأن.

لكن ما هو متاح من مقاربات يبدو أكثر تعجلاً من أن يكون مراجعة شاملة، وأقل بكثير من أن يكون مراجعة جدية. وهو في عجلة من أمره حتى أنه لا يخصص سطوراً لتقدير ما قد يعقب حلب: هل تترك إدلب مثلاً أكثر لتكون بؤرة قاعدية، يضفي وجودها الشرعية على الترتيبات الجديدة؟ والرقة التي بيد «داعش» هل تبقى موطناً آخر، محاصراً ومعزولاً، مخصصاً لمنبوذين لا يريد أحد عودتهم إليه، ما دام هناك فيتو أمريكي على دعم أبناء الرقة من أجل استعادة مدينتهم؟ وبعد تكتيف الأمريكيين وحكومة الأردن (وإسرائيل في الخلفية) للجبهة الجنوبية طوال ما يقترب من عامين، هل يجري تسليمها للنظام، ضمن ترتيب خاص يستبعد إيران وتابعها اللبناني إلى مسافة معينة؟ والغوطة الشرقية؟ والتفاوض الوشيك في كازاخستان مع فصائل مسلحة، وباستبعاد المعارضة السياسية؟

لا يبدو أن «المراجعين» يملكون من الإجابات ما هو أوضح من عموم السوريين. وهم لا يستخلصون من قلة المعرفة شيئاً يخص قلة التحكم، ليس تحكمهم بمسارات الأوضاع السورية، بل بمسار حركة المراجعة نفسها، وما يؤمل تحصيله منها من وضوح أكبر وتوجه أسلم. ليس في المتاح من مراجعات ما يقول لماذا يعتقد أصحابها أن محصلتها، أياً تكن، ستجد سبيلها إلى ترجمة سياسية أكثر إقناعاً وتأثيراً مما تجري مراجعته.

هناك ما يشبه هلعاً من الحيرة، من حال اللايقين الواسمة لأطوار التحول والانعطافات الكبيرة. وتحت وطأة هذا الهلع تجري المسارعة إلى اعتناق يقين جديد، هرباً من الفراغ وفقدان التوجه. اليقين الجديد لا يقول شيئاً يبنى عليه، ولا يصمد أياماً.

وغير البحث عن اليقين، يتخلل الدعوات السورية إلى المراجعة تلهف إلى البحث عن أكباش فداء، إلى مخطئين يتحملون المسؤولية، ومن شأن التخلص منهم أن يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح.

ويبدو أن هذين النازعين، إلى اليقين وإلى قرابين، مترابطان بصورة وثيقة. فمن شأن التخلص من الآثمين أن يطهر الجماعة أو «يزكيها» حسب التعبير الإسلامي، ويوفر اليقين بأننا على الحق، فيكون سنداً صلباً للأفراد، والعروة الوثقى لالتحام لا ينفصم لجماعة جديدة؛ ومن شأن اليقين، بالمقابل، أن يكون سنداً لإجماع صلب، ولإرادة قوية للأفراد، أي أيضاً إجماع أمر الواحد منا على معتقده. اليقين في الاعتقاد والذبيحة التضحوية مترابطان على نحو وثيق (حسب مؤدى تحليل رينيه جيرار في «العنف والمقدس»). عقائد اليقين تترابط مع عنف ضد من يرون مهددين للإجماع، بما في ذلك إجماع الفرد ضد تعدده الداخلي. اليقين لذلك مخيف. وهو في كل حال من مطالب الاجتماع وليس من مطالب المعرفة، وارتباطه بالإجماع وثيق.

في سوريا اليوم أزمة قربانية (أو تضحوية، أو افتدائية)، إن استخدمنا عبارة رينيه جيرار. هناك «نظام ثقافي» مختل اختلالاً عميقاً، أعني مجمل النظام الاجتماعي والسياسي والرمزي والفكري، تفجرت الثورة بفعل اختلاله وأظهرت مدى هذا الاختلال، وكان من شأن التخلص من بشار الأسد ونظامه أن يكون فعل تأسيس لنظام جديد. لم يحدث، بسبب ما تلقاه المذكور من دعم قوى باطشة ما كان يستطيع السوريون مجابهتها، أياً تكن سياستهم. وبفعل فشل الثورة، هناك اليوم أزمة متفجرة في الأوساط السورية المعارضة، يبدو أنها تحفز إلى البحث عن قرابين.

لكن أياً تكن أخطاء المعارضة السورية المنظمة، و«المراجعات» جارية في صفوفها حصراً وموجهة لها، فتأثيرها على مسار الثورة محدود بفعل انطلاق ديناميكية تجذر وعسكرة وأسلمة بعد إخفاق الاحتجاجات السلمية في إسقاط النظام أو دفعه في عام 2011 أو 2012 إلى تسوية تاريخية تغير البيئة السياسية في البلد تغيراً أساسياً. لم يكن للمعارضة السورية في أي وقت سيطرة أو حتى تأثير على هذه الديناميكية التي أطلقها تطرف النظام وعنفه وطائفيته. وهو ما تفاقم بعد دخولنا طور الصراع السني الشيعي في ربيع 2013، ثم طور المتحكمين الإمبرياليين، الأمريكيين والروس، الذين عملوا على إلحاق الصراع السوري ككل، بـ«الحرب ضد الإرهاب».

ومن باب ضرب مثال واحد شهير، فإنه ما كان لموقف المعارضة المنظمة من ظهور «جبهة النصرة» أن يحدث فرقاً بخصوص مسار الثورة على الأرض، ما دام الموقف المفترض غير ذي أثر على ديناميكية التشدد والعسكرة والأسلمة التي انطلقت تدريجياً بفعل الحرب على الثورة. جبهة النصرة ليست نتاجاً حصرياً لهذه الديناميكية، لكن الركن الأول في أية سياسة لمواجهة النصرة وعزلها هو تعطيل هذه الديناميكية. وما كان يمكن إنجاز ذلك بينما النظام يواجه الثورة بالعسكرة والطائفية، ويتوسع في حربه ضد بيئات الثورة، ويغلق باب السياسة طوال الوقت.

بالمناسبة، لا تكاد تتوفر كتابات «موضوعية» جدية من طرف المعارضة المنظمة حول الثورة في أي وقت، وخلال ست سنوات. أعني كتابات غير ظرفية، تستند إلى معطيات موثوقة بقدر الممكن، وتحاول الإحاطة بمجمل عملية الثورة. هذا أساسي كي يكون للكلام على المراجعة معنى. فلكي نراجع، يجب أن نعرف أين نحن اليوم، وكيف وصلنا إلى هنا، وما هي الأطوار الأساسية في الصراع، وما الديناميكيات التي حركت الوضع السوري في كل طور، وما كانت هوامش مبادرتنا ومساحات حريتنا، وتالياً دور أخطائنا المحتملة في فشل الثورة. دون هذا النظر «الموضوعي»، من المحتمل جداً أن يحرك المراجعة البحث اللجوج عن يقين وقرابين.

وتقدير كاتب هذه السطور أن النظر «الموضوعي» يفيد بأنه منذ أخذ ينهار الإطار الوطني للصراع السوري، في النصف الثاني من عام 2012، لم يعد لخيارات المعارضة تأثير مهم على الأوضاع العامة. فقد فاقم هذا الانهيار ما كان أصلاً تمايزاً في المنشأ والتكوين بين الثورة والمعارضة، تمايز كان من شأن سقوط مبكر نسبياً للنظام فقط أن يحد من آثاره أو يطلق ديناميكيات مغايرة تنزع نحو الاستيعاب والاعتدال والسياسة. ربما كان من شأن خيارات المعارضة أن تؤثر على أوضاع المعارضة بالذات، فتصون شيئاً من كرامتها أو تهدرها بمزيد من التبعية للاعبين مقررين، إقليميين ودوليين، لكن ليس على مسار الصراع ذاته. حين تشكل الائتلاف في أواخر عام 2012 كان سلفاً يلعب في الوقت الضائع، وكان ظاهراً منذ البداية أنه تعبير عن تقدم تبعية المعارضة الرسمية لفاعلين إقليميين ودوليين.

يمكن لوم المعارضة على أنها لم تصن كرامة «ثورة الكرامة»، لكن لعله مما لا يرضي الانفعالات الظامئة إلى اللوم اليوم القول إن نصيب أخطائنا ومخطئينا في أوضاع الثورة محدود، قياساً إلى قوة أعدائنا وفجورهم الإجرامي، الدولة الأسدية أولاً، ثم شركائها الطائفيين الإيرانيين واللبنانيين والعراقيين، ثم روسيا الامبراطورية، وعلى سندان نظام دولي تمييزي لا يقيم شأنا لحياة عموم السوريين. وليس في إطلاق عملية بحث عن المخطئين في كل اتجاه، وتوزيع الاتهامات في كل اتجاه، ما يمكن أن تبنى عليه سياسة مغايرة أو يثمر وضوحاً أكبر أو يصون كرامة المعارضين.

وكما أننا لم نهزم بسبب أخطائنا، لم تفز دولة الأسديين بفضل سياسة صحيحة، بل بفضل روسيا وإيران وأتباعهما. قول هذا ضروري لتجنب منطق أكباش الفداء النشط اليوم. وهو منطق يهدر كرامة الثورة السورية، وينزلق بهلع نحو تبرؤ ذاتي من شركاء في الضعف، ما يضعف الجميع أكثر، كما يشكل غطاء لانتهازيين متنوعين، ممن لم تكن الثورة قضيتهم في أي وقت.

ولعل من المفيد التذكير في هذا المقام بتفاعل جيل سابق من أجيالنا مع كارثة حزيران 1967.  بانفعال، نزع المثقفون إلى نسبة الهزيمة إلى تقصير ذاتي في بنانا الاجتماعية والثقافية، ومزج السياسيون بين مزايدة كاذبة، وبين قمع كل اعتراض. في واقع الأمر كانت إسرائيل مكفولة الانتصار على ما ظهر بعد ستة أعوام حين بذلت بلداننا أحسن طاقاتها المتواضعة. كانت خطة أسلم لو عملنا بتواضع على تحسين تلك الطاقات المتواضعة، وتقبلنا العمل على تطوير مجتمعاتنا، تعليمياً واقتصادياً وسياسياً، دون تجريح للذات تطور إلى مرض جمعي في العقود اللاحقة، ودون الأوهام السلطانية التي أفضت إلى خراب بلداننا وعودة بعضها، ومنها أول جمهورية عربية، والبلد الأقدم استقلالاً، سوريا، تحت احتلالات أجنبية وسيطرة طائفية. وإلى جانب ذلك معرفة أفضل بإسرائيل والعالم المعاصر، و«مراجعة» الحرب التي أذللنا فيها تلك المذلة الخارقة بالذات. في سوريا لم يصدر كتاب واحد مهم خلال خمسين عاماً يتكلم عن تلك الحرب، وهذا بارتباط ظاهر مع كون وزير دفاع الهزيمة، حافظ الأسد، هو الذي حكم البلد عقوداً بعدها بقليل، قبل أن يجعلها ملكا وراثياً في سلالته.

كان هناك كلام كثير على «الهزيمة»، لكن ليس أي بحث مدقق في الحرب التي انهزمنا فيها. هذه السيرة مرشحة للتكرر اليوم.

اليوم، أعداؤنا يخلقون شروط حرب مستمرة، مثلما خلقت عدوانية إسرائيل وعنصريتها شروط الحرب المستمرة في «الشرق الأوسط». وهذا مسوغ إضافي لأن لا نكون وقوداً لمعارك جانبية، ننساق إليها بقصر نظرنا، حين قد يكون النهج الأنسب التروي واستعداد للتحيّر، وأن نختار من بين الخيارات المتاحة ما يصون كرامتنا، بلداً وقضية وأفراداً.

وليس في ذلك ما يقول إن المعارضة السورية لم ترتكب أخطاء كبيرة، لكن ليس لهذا تفشل الثورة. كل نقطة مما يرد في المتاح من مراجعات تقتضي تناولاً مفصلاً، يحول دون انقلاب المراجعة إلى رجعة إلى أفكار سبق لوْكها، أو إلى محاكمة الثورة ذاتها من وراء قناع من الحرص عليها. ليس المراجعون سيئي النية حتماً، لكن المراجع المتعجل قد يكون متراجعاً غافلاً، وقد يخدم عدوه من حيث لا يدري. كانت معارضتنا غير محترمة وغير مستقلة، وهذا جعل الهزيمة أكثر مرارة. وتركنا مفتقرين إلى سند موثوق، في مواجهة وضع نحتاج فيه إلى أن نحول إخفاقنا إلى بداية لشيء جديد. لكن لا سند موثوقاُ ولا بداية مغايرة في دعوات المراجعة الحالية التي تبدو منذ الآن استمرارا للشيء نفسه، يتواتر أن يدعو إليه الأشخاص أنفسهم أيضاً.

القدس العربي

 

 

 

 

مبادرة في وقتها/ ميشيل كيلو

أصدر مثقفون سوريون ورقةً سياسيةً، تناولت مسار الثورة في السنوات الماضية، وما شابها من نواقص وعيوب، وأحاط بها من تحدّيات ومخاطر، ومورس عليها من تدخّل، واعتمده ممثلوها من مواقف، وتوفّر لها أو غاب عنها من مؤسسات وبرامج وخطط وقيادة ثورية، لو امتلكتها لتولّت توجيه خطاها بتبصّر وعقلانية، ولأمدّتها بمستلزمات النجاح، كتعزيز مواقع وأدوار حواملها المجتمعية، وتوحيد نخبها الثورية وتفعيلها، وإبعادها عن العسكرة القاتلة التي أخضعت السياسة لبندقيةٍ، قادها تمذهب قوّض هوية الثورة المجتمعية، فضلاً عن تنظيم مقاومتها، بما فيها إخضاع المقاتلين لقيادة سياسية، ينفذون خطها الاستراتيجي، وبرنامجها المدافع عن الحرية هدفاً وحيداً، لن يتم بلوغه من دون وحدة المجتمع والدولة، والبديل الديمقراطي وقيمه كالعدالة والمساواة، وتجريم نهج التأسلم الذي وزّع المواطنين إلى طوائف لا تنتمي إلى نسيج مجتمعي واحد، بل هي متعادية/ متنافية.

… وقد جاءت الورقة في وقتها، بينما تعلن قطاعاتٌ سوريةٌ واسعة من السوريات والسوريين انفكاكها عن مشروع التأسلم/ المتمذهب، وتمسّكها بالحرية هدفاً للشعب السوري الواحد الذي كان الحراك قد تبنّاه قبل أن يدمر النظام قطاعه المدني الحديث، ويُرغم، بعنفه المسلح وممارساته الطائفية، قطاعها الأهلي على هجر نهجها السلمي، وحمل السلاح دفاعاً عن نفسه، بينما ساعدت سياسات النظام الإجرامية تنظيم القاعدة على إبعاده عن مشروع الحرية وقبوله بالعسكرة والتمذهب والتطييف. في هذه الأجواء المعادية للثورة، تكامل عجز التنظيمات الفصائلية السياسي/ العسكري مع الانخراط الخارجي المتعاظم في الحرب، لتكون النتيجة إنزال سلسلة هزائم بـ”الثورة”، كان آخرها كارثة حلب التي كشفت فشل بنى الفصائل في التصدّي للأعداء أو الصمود ضدهم، وما يسم وعي أغلب قادتها من ضحالة، فضلا عن افتقارهم إلى العلاقات الصحيحة مع السوريين التي لو توفرت لهم، لما رفضوا عرضاً بإخراج مائتي عنصر فقط من جبهة النصرة إلى خارج المدينة، في مقابل بقاء قواتهم فيها، واستمرار مجلسها المحلي المنتخب في إدارتها، ثم وبعد إنجازاتهم في “ملحمة حلب الكبرى”، قبلوا بحماسةٍ خروجهم وخروج السكان، بشروط مذلة أجبرتهم على التخلي عن سلاحهم، وركوب باصات الأسد الخضراء، بشفاعة جيش روسيا الذي كانوا يعلنون، إلى ما قبل سويعاتٍ، تصميمهم على سحقه وإخراجه من سورية.

كانت هزيمة حلب سياسية أيضاً، وإلا لما انتقلت الفصائل من عداء روسيا إلى قبول خططها، بل والاحتماء بها، ومن الالتزام باولوية دور “الائتلاف” وهيئة التفاوض العليا في البحث عن حل سياسي، إلى شرعنة دورها هي جهةً تحل محلهما في هذا البحث. لا عجب أن أدّت فضيحة حلب إلى انفكاكٍ مجتمعي متزايد عنها، ومطالبتها بالخروج من المناطق المدنية، وتجدّد دور الشباب في تعبئة قدرات الشعب وراء مشروع الثورة الوطني/ الديمقراطي المعادي للطائفية، وحدوث استفاقةٍ وطنيةٍ يبشر استمرارها واتساعها باستعادة مرحلة الثورة الأولى، المجتمعية والسلمية، وتلاشي مرحلتها الثانية، المتأسلمة / المتعسكرة، جالبة الكوارث للسوريين.

تنضوي ورقة المثقفين في إطار محدّد هو: التصميم على تزويد الحراك بالبرامج والخطط والرؤى الاستراتيجية والتكتيكية التي سيحتاج إليها خلال تحوله المطلوب إلى ثورة على صعيدي السياسة والمقاومة، لم يمتلك ما يماثلها في المرحلة السلمية المجتمعية، ولعب غيابها دوراً خطيراً في انزياح التمرد نحو العسكرة والتمذهب والتطييف، ودورانه في حلقة مفرغة انحدارية الاتجاه. بهذا المعنى، هي ورقة أولى في مشروع سياسي/ فكري، يريد تزويد الحراك برؤية سياسية وعملية، يجنّبه امتلاكها الأخطاء التي يفيد منها عدوّاه: النظام وأتباع التأسلم المتعسكر المعادي للحرية. إذا كانت الورقة قد قدّمت جرداً أوليا لمسار الثورة ونقدته بموضوعية وعقلانية، فإن ما سيليها من أوراق سيذهب في منحىً مختلف، يمدّها ببرنامج وخطط تتيح، عند نقطةٍ معينةٍ، بلورة قيادةٍ ثوريةٍ يرتبط انتصار الشعب بها، كي لا يفتقر استئناف الحراك للطابع المجتمعي/ السلمي، ويخلو من نواقص مرحلة التمرد الأولى وعيوبها وشعبوياتها.

بهذه المقاصد، سينصبّ الجهد على بناء الوضع الذاتي للثورة الذي يتوافق وظروفها الموضوعية، ويفيد من إيجابياتها، ويستهدف إقناع الآخرين باستحالة تحقيق مصالحهم من دون قبول مطالب السوريين، وفي مقدمتها رحيل الأسد ونظامه، وقيام نظام ديمقراطي يضمن الحرية والوحدة للشعب السوري، وإقناعه أيضاً بأن فشل الحرية لن يكون كارثةً بالنسبة لسورية وحدها، بل سيكون كذلك بالنسبة لجميع شعوب وبلدان العالم، لن ينجو أحد من عواقبها الوخيمة.

العربي الجديد

 

 

 

 

في ضرورة مؤتمر وطني سوري/ صلاح بدر الدين

قبل كل شيء، ومن دون تعقيدات وألغاز، علينا طرح التساؤلات: لماذا هذا المؤتمر؟ ولماذا ازدياد الدعوة إليه الآن؟ ولماذا انضمام بعضهم إليها من مسؤولي كيانات المعارضة السورية، وخصوصا المجلس الوطني و”الائتلاف” متأخرين خمس سنوات؟ وهل المؤتمر المنشود من أجل تصحيح مسار وأداء من فشل وأخفق وأضرّ بالثورة والقضية، وإعادة إنتاج الشخوص نفسها المسؤولة عن الهزيمة تحت عنوان “المؤتمر الوطني” من دون قيامهم (وهو أضعف الإيمان) بمراجعةٍ في العمق، وتشخيص مكامن الخطيئة والانحراف، ومن ثم الاعتذار للسوريين؟ ثم هل ستكون وظيفة المؤتمر العتيد بمثابة إعادة الاعتبار للفاشلين أم منصة لمساءلتهم، وترميماً لما هدموه؟ وتاليا هل سيكون على غرار الاجتماعات والمؤتمرات السابقة مدفوعة الثمن السياسي المسبق من إحدى الجهات الداعمة، ومقرّرة سلفا من سيقود، ومن سينتخب، ومن سيعيّن؟ وهل سيرسم لهذ المؤتمر القفز فوق العملية التقييمية النقدية الشاملة للعامل الذاتي الضعيف الهش، على صعيد من تصدّروا الثورة والمعارضة من مدنيين وعسكريين ومقاتلين، وادّعوا “التمثيل الشرعي والوحيد” أو تفادي الوقوف العلمي الواقعي على تعقيدات العامل الموضوعي، بما يحمل ذلك من تأنيب لضمائر “أصدقاء الشعب السوري” وعتاب للنظام العربي الرسمي، وتحميلهم جميعا جزءاً من مسؤولية الأزمة الراهنة؟ وغير ذلك من تساؤلات عديدة.

سيبقى أي عمل بخصوص المؤتمرات واللقاءات الوطنية السورية قاصراً، وقد يكون مضرّاً كما أرى، إذا لم ينطلق من مفهوم المراجعة العميقة النقدية الشاملة للانتكاسة التي يجب الاعتراف بحصولها للثورة، وإخفاق المعارضة التي تتحمل المسؤولية الرئيسية، والإيمان بوجوب إعادة بناء الثورة وهيكلة جسمها وعمودها الفقري المتقطع، وأقصد ما تبقى من الجيش الحر والحراك الثوري العام، وصولاً إلى صياغة البرنامج السياسي الجديد المناسب المتوافق عليه، وانتهاء باختيار مجلس سياسي – عسكري مجرّب وذي كفاءة.

سيبقى أي عملٍ في هذا الاتجاه ناقصاً، بل مبتوراً، إذا لم يستند إلى حقائق تاريخية، رافقت الأيام الأولى لاندلاع الانتفاضة الثورية السلمية السورية، وأولها أن المجلس الوطني السوري لم ينشأ بطريقة ديمقرطية سليمة، وخضع للآيديولوجيا الحزبية، وألبسوه طربوشاً إسلامياً، ليكون عنواناً زائفاً للمجتمع السوري متعدّد الأقوام والأديان، ما أثار الريبة والخوف وحرمان

“أي عمل صوب تحقيق المؤتمر الوطني السوري يجب حتى يكون ناجحاً أن لا يتصدّره المسؤولون في المجلس الوطني السوري والائتلاف والمجلس الوطني الكردي وسائر تشكيلات المعارضة الوطنية” المعارضة من قطاعاتٍ واسعة من مختلف الأقوام والأديان والمذاهب، كما قدّم ذلك هديةً على طبقٍ من ذهب لنظام الاستبداد الذي استغل ذلك، ونجح في الإساءة للثورة، وتشويه صورتها أمام المجتمع الدولي.

سيبقى أي عمل قادم بخصوص المؤتمر الوطني دون المستوى إن تجاهل أمرا آخر، وهو أن سبب الهزيمة أن “المجلس” و”الائتلاف” والمعارضات كلها والثوار، اتفقوا على إسقاط النظام واختلفوا على النظام البديل، كما يروج ذلك بعضهم، والحقيقة أن المعارضات بدون استثناء لم تكن مع إسقاط النظام كمؤسسات أمنية وعسكرية وإدارية وحزبية ذات قاعدة اقتصادية واجتماعية وخطاب، فقد رضيت علناً ومواربةً بالتحاور مع النظام والعمل معه، ووقعت على اتفاقيات وبيانات جنيف وفيينا وغيرها التي نصت على الحفاظ على مؤسسات النظام، وقد أخفت المعارضة (الائتلاف والهيئة العليا) خطيئتها بالتركيز على رحيل الأسد، وكأن رحيله سيزيل كل مؤسسات النظام التي تتأسس وتترسخ منذ عقود.

أما بشأن البديل عن الاستبداد، فلم يكن هناك سبب للاختلاف، حتى بداية 2012، وكنا، نحن الوطنيين، نرى أن الأولوية لإسقاط النظام، من دون طرح ما نؤمن به من نظامٍ قادمٍ وتفاصيله وأسسه، وذلك درءاً لأي خلاف بين صفوف الثوار والمعارضين، ولكن جماعات الإسلام السياسي هي من بدأت بتعميم الشعارات وبثها، ومنها استفزازية، لحوالي نصف المجتمع السوري، كما رفعت الرايات السود، وتردّد، من مطلعين عديدين، أن جماعة الإخوان المسلمين السورية كانت ترسل عاملين فنيين مع آلات التصوير، مكلفين بترديد شعاراتها مع تصوير نشاطات المحتجين ومقاومة الثوار في الميدان، وذلك كعمل دعائي حزبي صرف.

أي عمل صوب تحقيق المؤتمر الوطني السوري يجب حتى يكون ناجحاً أن لا يتصدّره المسؤولون في المجلس الوطني السوري والائتلاف والمجلس الوطني الكردي وسائر تشكيلات المعارضة الوطنية، لأنهم فشلوا وأضرّوا، ويتحملون المسؤولية التاريخية، وعليهم الاعتراف بذلك أمام الشعب. وبإمكانهم دعم المشروع عن بعد إن أرادوا، والدور الأساسي يجب أن يكون للمستقلين، وتنسيقيات الشباب وحراكهم ومنظمات المجتمع المدني، مضافاً إليهم الثوار الديمقراطيون، وخصوصا ما تبقى من تشكيلات الجيش الحر وأفراده.

هناك وطنيون مستقلون كثيرون، وكنت من بينهم، بدأنا بطرح فكرة المؤتمرالوطني السوري الجامع منذ بدايات 2013، من أجل إعادة بناء صفوف الثورة وتعزيزها، والحفاظ على وجهها الوطني ومضمونها الديمقراطي وأهدافها النبيلة، وصيانة قدرات الجيش الحر وتعزيز وجوده وقدراته عموداً فقرياً، لتحقيق المشروع الوطني في تحقيق الحرية والكرامة والتغيير، وصولاً إلى سورية الجديدة التعدّدية التشاركية، ولكننا جوبهنا من كيانات المعارضة بشتى أنواع الضغط السياسي والتشهير والتشكيك. والآن، لن نبادلهم الأمر بالمثل، بل نقول لهم بهدوء: ارفعوا أيديكم ووصايتكم عن مشروع المؤتمر الوطني السوري الجامع.

نجاح المؤتمر المنشود متوقف على جدية اختيار اللجنة التحضيرية التي من المفيد أن تعبّر عملياً عن مختلف المكونات والتيارات السياسية المؤمنة بالثورة، وأن يغلب عليها العنصر الشبابي من النساء والرجال، ومطعمة بمناضلين وطنيين نزيهين، خبرتهم سنوات في مواجهة نظام الاستبداد.

العربي الجديد

 

 

 

 

آلية لإصلاح الثورة/ علي العبدالله

أثارت هزيمة فصائل المعارضة المسلحة في معركة حلب ردود فعل غاضبة بين حواضن الثورة ومجتمعاتها على خلفية شعورها بالخذلان وضياع تضحياتها والأثمان الباهظة التي دفعتها على طريق استرداد الحق في الحرية والكرامة، تجسدت في توجيه اللوم والنقد الحاد الى المعارضة، بمستوييها العسكري والسياسي، وتحميلها المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع (هزائم عسكرية، قادت الى تآكل المكاسب الميدانية، ترتب عليها هوان سياسي أدى الى تحوّل في المواقف العربية والإقليمية والدولية قاد الى تغييب جذر القضية وتجويف مطالب الثورة ضمن الحلول المقترحة من قبل بعض الدول والقوى المحلية) ومطالبتها بتغيير شامل في هياكلها وطرق عملها وأدائها.

جاءت استجابة المعارضة المسلحة للضغوط والمطالبات نمطية: دعوات محلية لتوحيد فصائل منطقة هنا وأخرى هناك، ودعوات لتوحيد شامل لفصائل الجيش السوري الحر، بالإضافة الى مشروع حركات السلفية لتجيير المناخ والمطالبة بالعمل على توحّدها في جسم عسكري وسياسي وتبرير العملية شرعيا، حلول طرحتها الفصائل مرات سابقة دون أن تنجح في تنفيذها، ما يعكس حالة جمود فكري وانعدام الخيال وضعف القدرة على إبداع الحلول.

استجابة المعارضة السياسية لم تخلو هي الاخرى من النمطية، ناهيك عن الغرابة والشذوذ حيث جنح البعض الى الاستقالة من مواقعهم السياسية والإدارية، في تصرف صبياني ينم عن ذاتية فجة تحاول التبرؤ من المسؤولية وتحميلها للآخرين، أفرادا ومؤسسات، بينما تنطح البعض الآخر الى تبني الدعوة الى عملية إنقاذ للثورة وإعادتها الى عنفوانها الأول عبر تصور أساسه استبدال مؤسسات عسكرية وسياسية بالمؤسسات القائمة، وطرح آلية لتحقيق الهدف: لجنة تحضيرية وإعداد أوراق سياسية وخطط لتحويل الفصائل الى جيش وطني، والمستوى السياسي الى قوة جادة ومسؤولة وفعالة .

لاشك ان مؤسسات المعارضة القائمة (الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، الهيئة العليا للمفاوضات، المجلس العسكري .. الخ) ليست على مايرام، فهي، لاعتبارات بنيوية وعملية، تعاني من هشاشة وترهل مزمنين بسبب الدوافع والتصورات التي وقفت خلف إقامتها والقوى التي تتحكم بها، تديرها أو توجهها، إن من خلال آلية الدعم او الاختراق، ما جعلها عاجزة عن المبادرة ودفعها الى حالة استسلام لتوجيهات الدول الراعية. لكن استبدالها بأخرى لايضمن نجاعة الجديدة في ضوء معطيات الوضع الراهن على الصعيدين العسكري والسياسي فالفصائل المسلحة لم تخسر آلاف المقاتلين ومساحات جغرافية واسعة وحيوية لوزنها ودورها فقط بل واعتادت نمطا من العلاقات والممارسة أفقدها القدرة على التحرك المستقل وتحدي رغبات القوى الصديقة قبل العدوة. المؤسسات السياسية، التي يعيش معظم عناصرها خارج سوريا يقيمون في  دول وتحت إشراف ورقابة أجهزة سياسية وأمنية في إطار علاقات زبائنية وتبعية مباشرة اضطرتهم لها ظروف المنفى، تتحسس مواقع أقدامها قبل التفكير في أي خطوة سياسية او إدارية تعتزم القيام بها في ضوء تشابك القوى والعلاقات والمصالح وانعكاسها المباشر على أوضاعها كأفراد وجماعات ومؤسسات، وما ترتب على كل ذلك من ضياع للاستقلالية والصدقية الفردية والمؤسساتية.

غير أن وجود مبررات لدعوة الإصلاح لا تكفي لنجاح العملية ما لم ترتكز الى أسس وتصورات منطقية وعملية في آن، خاصة أن محاولات جرت في السابق دون أن تنجح في إنقاذ الثورة بتحريرها من نقاط ضعفها وإخراجها من حالة الجزر التي تعيشها، ما يستدعي دراسة المحاولات السابقة وكشف العوامل التي قادت الى فشلها ووضع تصورات وخطط نسبة نجاحها عالية. لعل استعادة ثقة حواضن الثورة وكسب تأييدها ومباركتها أول مستدعيات نجاح دعوة الإصلاح، وهذه تتطلب أكثر من مجرد الدعوة الى الإصلاح والحديث عن ضرورته وأهميته، تستدعي آلية عمل توفر فرصة لاستعادتها، وهذه تبدأ من الخطوة الأولى: إطلاق الفكرة، بحيث يتم التشاور مع جمهور الثورة وكوادرها حول ضرورة الإصلاح، وعدم الاكتفاء بالحديث عن العملية والبدء بالتنفيذ دون موافقة حواضن الثورة ودون مشاركتها، فاستعادة الثقة تقتضي الشفافية والانفتاح على الحواضن بالتشاور والحوار الجاد والمسؤول. بعد خلق رأي عام حول الاقتراح يتم تشكيل لجنة تحضيرية عن طريق دعوة القادرين من كوادر الثورة على الترشح، دون اعتبار للتنظيم أو الجهة التي ينتمي إليها، وعدم حصر الترشح بأصحاب الدعوة ومحازبيهم، كما جرت العادة، هنا قد نواجه مشكلة عدد المترشحين فيتم اختيار لجنة تحضيرية بالانتخابات المباشرة من قبل المترشحين أنفسهم، يليها تحضير التصورات والاقتراحات، هنا أيضا يتم اعتماد آلية منفتحة بدعوة الكفاءات الى تقديم تصوراتهم وأفكارهم الى اللجنة التحضيرية والابتعاد عن التفكير الحزبي أو النخبوي، وإحالة التصورات والاقتراحات الى اللجنة التحضيرية التي تكلف كفاءات من داخلها لتبويب الموضوعات والاقتراحات وتنسيقها وإخضاعها الى عملية غربلة أولية وإحالتها بعد الغربلة الى لجنة صياغة، لتعود على شكل أفكار وخطط تعرض على اللجنة التحضيرية مجتمعة قبل طرحها على الحواضن الشعبية والرأي العام الوطني. وأما ثانية وسائل استعادة الثقة فالتفاعل مع الداخل عبر الزيارات الميدانية الدورية والالتقاء مع حواضن الثورة في جلسات مفتوحة والالتقاء بالكوادر الفاعلة في لقاءات مغلقة، والتواصل مع جمهور الثورة في المناطق التي لا تسيطر عليها المعارضة عبر الزيارات السرية أو عبر وسائل الاتصال الحديثة، علما ان الإقامة الدائمة على الأرض السورية ذروة التفاعل والتعايش والاندماج.

تحتاج عملية استعادة الثقة الى فرشة ترطب الأجواء وتفتح الطريق بقيام أصحاب الدعوة بحملة علاقات عامة تكسر حالة القطيعة والمفاصلة والعزلة تبدأ بتقديم كشف حساب من كوادر الصف الأول، وخاصة الذين تسلموا مسؤوليات قيادية، عن المرحلة السابقة والاعتراف بالتقصير والأخطاء الفردية والمؤسساتية وبنقد ذاتي علني للممارسات العصبيوية والنخبوية غير الشفافة وغير الديمقراطية.

المدن

 

 

 

 

 

المعارضة السورية بعد سقوط حلب/ بكر صدقي

في أحد الاعتصامات اليومية التي كانت تنظم في مدينة غازي عنتاب، جنوب تركيا، تعبيراً عن التضامن مع مأساة حلب إبان حصارها القاسي، حدث توتر بين السوريين المجتمعين وصل حد التدافع بالأيدي، على مرأى من الشرطة التركية التي كانت تراقب الوضع. فقد حاول بعض ممثلي أحزاب سياسية إلقاء بيان سياسي، فارتفعت أصوات رافضة ومستنكرة، لينتهي الأمر بمنعهم من تلاوة البيان.

كان هذا مشهداً معبراً جداً عن حال العلاقة بين التشكيلات السياسية وعموم الجمهور، وخاصة جمهور الشباب، جاءت مأساة حلب ومشاعر الغضب والإحباط المواكبة لفصولها كعود كبريت أشعل فتيلها. وتنسحب حال انعدام الثقة نفسها على الإطار الأهم للمعارضة السياسية، الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، وربما بدرجة أقل الهيئة العليا للمفاوضات التي جمعت إلى ممثلي الائتلاف ممثلي مجموعات معارضة أقل شأناً كهيئة التنسيق وغيرها.

لا فائدة من تكرار المآخذ الكثيرة والكبيرة التي سبق، لي ولغيري، التعبير عنها مرات، في إطار نقد الحريص من الموقع المعارض نفسه، لا في إطار النقد العدائي من مواقع النظام أو «المعارضات» المحسوبة على النظام. سيركز النقد هنا على ظواهر جديدة ترافق ظهورها مع حصار حلب وسقوطها، أي في لحظة مفصلية تتطلب مراجعة مسار الثورة والمعارضة السياسية التي تنطحت لتمثيلها.

كل المعارضين اليوم يتحدثون عن ضرورة المراجعة وإعادة النظر ومحاولة رسم استراتيجيات جديدة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من سوريا، قبل أن تسقط في أحد الاحتمالين الكارثيين: سيطرة النظام التامة على كل سوريا، أو تفكك الكيان السوري. وإذا كان الاحتمال الأول أقرب إلى الاستحالة، فالثاني متحقق عملياً وإن لم يتكرس بعد بصورة رسمية. كما أن استحالة سيطرة النظام على سوريا لا تعني استحالة تعويض ذلك بقوى الاحتلال وبالتغيير الديموغرافي اللذين يتقدمان على الأرض باطراد. فمنذ الآن لدينا ربع سكان سوريا أصبحوا في المنافي، ويتم تجريف السكان في مناطق عدة، من المحتمل أن يحل محلهم فيها أجانب من جنسيات مختلفة هم قوام الميليشيات الشيعية التي تقاتل دفاعاً عن النظام.

كانت الثورة السورية، في جانب منها، ثورة تحرر واستقلال وطني، منذ البداية، وذلك بسبب بنية النظام القائم على قهر استعماري لـ»السكان المحليين» كما على تراتبية طائفية – طبقية أقرب إلى نظام التمييز العنصري. فكان على المعارضة أن تفكر وترسم سياساتها انطلاقاً من هذا الواقع، أي أن تشكل قيادة تحرر وطني جامعة، لا تمثيلاً لأحزاب سياسية من طبيعتها أن تكون مختلفة ومتنافسة وربما متناحرة. بكلمات أخرى: كان من شأن إقامة إطار صغير نسبياً من شخصيات وطنية تحظى بقدر معقول من الإجماع الوطني، بصرف النظر عن انتمائها إلى أحزاب من عدمه، تضع برنامجاً سياسياً وخطة عمل قابلين للتنفيذ ويتمتعان بالمرونة الكافية، بحيث يكون أعضاء هذا الإطار على قلب رجل واحد، يتمتعون بوعي لدورهم الوطني والتاريخي، ويكون ولاؤهم وطنياً، وليس حزبياً أو شخصياً أو لدول أخرى.. كان من شأن ذلك أن يصنع فارقاً، على رغم كل الشروط الموضوعية غير المؤاتية.

كان واقع حال المعارضة وأطرها الرسمية بخلاف ذلك على طول الخط، إلى حد قد يسمح باعتبار الوصف الافتراضي أعلاه لما كان يجب أن يكون، طوباوياً. ولكن بما أن الزمن هو زمن المراجعة، وباتت المهمة مهمة تحرير وطني، بأكثر مما كانت في السابق، فلا بأس بالتوكيد على وجوب مطابقة الأداة للمهمة، أي تشكيل قيادة حركة تحرر وطني، بهذا الاسم والمضمون. وذلك بصرف النظر عما إذا كان للأطر القائمة نفسها أن تتحول بهذا الاتجاه، إذا كان هذا ممكناً، أو إنشاء إطار جديد وحل القديم. ولا يعني الإبقاء على الأطر القائمة ضرورة بقاء الأشخاص أنفسهم في عضويتها، بل المرجح أن يتطلب الأمر استبدالهم كلياً أو جزئياً.

في هذا الإطار يمكن التعليق على مبادرة قدمها، مؤخراً، عدد من المعارضين بعنوان «نداء من أجل سوريا». فالمأخذ الأول الذي واجههم به جمهور المتابعين لشؤون المعارضة هو أن القائمين عليها هم أنفسهم الذين قادوا المرحلة السابقة في إطار «الائتلاف»، وينصب عليهم غضب جمهور الثورة باعتبارهم مسؤولين، شخصياً أو بالتضامن، عما وصلت إليه الأوضاع. ولم يقدم «النداء» نقداً ذاتياً أو اعتذاراً يحقان عليه، بقدر ما حاول إلقاء المسؤولية على الآخرين. وعلى رغم صحة كثير من الملاحظات النقدية التي تضمنها، كرر «النداء» تقديم تصورات إيديولوجية لا سند لها في الواقع عن تصوره لسوريا المستقبل. أي أن المفهوم النظري الذي يقوم عليه «برنامج النداء» لم يتجاوز سقف التصورات التقليدية للمعارضة السورية التقليدية منذ ثمانينات القرن الماضي في أقرب تقدير. وهي تصورات منقطعة الصلة بالواقع وبتطوراته قبل الثورة وأثناءها. وإذا أردنا الإيجاز في عرض تلك التصورات لقلنا: (هناك شعب سوري واحد، له تطلعات مشتركة في الانتقال من النظام الأسدي إلى نظام جمهوري ديمقراطي، يتكون من مواطنين أفراد متساوين أمام القانون، يؤمنون بعلمانية الدولة وحيادها تجاه الأديان والمعتقدات.) والحال أن الأمر يتطلب، لكي تشكل هذه التطلعات برنامجاً للعمل، وجود شعب يتكون من المواطنين الأفراد الموصوفين أعلاه، بصورة مسبقة! وإلا تحول «النداء»، وكل برنامج سياسي مشابه، إلى برنامج انقلابي لنخبة صغيرة منفصلة عن الناس العيانيين، يتم فرضه بالقوة. بحيث لا يختلف برنامج من هذا النوع عن برنامج السلفية الجهادية مثلاً: كلا الفريقين يؤمن بصحة النموذج النظري الذي يدعو إلى تطبيقه، إيماناً يبلغ بأصحابه إلى فرضه بالقوة إذا تطلب الأمر.

مثال على ذلك هو تقديم تصور يعتبره أصحابه «متوازناً» عن حل المسألة الكردية في سوريا، فقط لأنه يبدو لهم كذلك، بدلاً من استشارة الشريك الكردي نفسه عن الموضوع، للوصول إلى قواسم مشتركة يتم التوافق بشأنها. وينطبق الأمر نفسه على مسائل خاصة بالمكونات السورية الأخرى، ليس فقط الاثنية أو الدينية ـ الطائفية، بل كذلك ما يتعلق بالأطر الأهلية والجهوية. ويبرز موضوع البيئات الموالية بوصفه الأشد صعوبة في البحث عن معالجات وطنية لها. لكنه، في الوقت نفسه، الموضوع الحارق الأشد إلحاحاً.

لا يتسع المكان هنا لتناول المعارضة المسلحة، وهي تحتاج نقداً جذرياً بقدر حاجة المعارضة السياسية نفسها إن لم يكن أكثر.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

 

 

القطيعة مع الرهانات الخاطئة للسوريين/ سميرة المسالمة

تركت المآلات الكارثية التي وصلت إليها المعارضة السورية، بشقيها السياسي والعسكري، أثرها البالغ في أكثر من اتجاه، طارحةً أسئلةً عديدة يمكن أن تبدأ من تساؤلات السوريين حول ماهية المشروع الوطني الذي خرجوا من أجله، في ظل الصراع العسكري الذي تصدّر المشهد واقعاً وتفاوضاً؟ وما هي الأخطاء التي أثبت الواقع تفاقمها، في ظل إداراتها المتعدّدة؟ وكيف بدّدت السنوات الست رهانات الكيانات المعارضة الخاطئة، لتجد نفسها أمام استحقاق المصارحة والاعتراف، وربما المطالبة الشعبية بتنحّي الشخصيات المهيمنة في هذه المؤسسات عن العمل السياسي؟

في هذا المناخ السياسي المتخبط، ظهرت وثيقة على شكل نداءٍ، أصدرته مجموعة من المعارضين السوريين، تضمن مراجعة نقدية لأداء المعارضة وخطاباتها السياسية والإعلامية، ومصارحة صادمة حول الرهانات التي ثبت خطؤها وضررها على السوريين وثورتهم.

وبشكل موجز، بدأت هذه الوثيقة بتمهيدٍ عرضت فيه للمبادئ الأساسية التي انطلقت من أجلها الثورة السورية، والمتمثلة بإنهاء نظام الاستبداد، ومن أجل الحرية والكرامة والمواطنة والديمقراطية والعدالة والدستور، واستعادة الدولة، فهذا هو معنى الثورة. ثم تحدّثت عن التعقيدات التي اتسمت بها الثورة السورية، والمداخلات الخارجية التي أثرت عليها، سلباً، والأهوال غير المسبوقة التي تعرّض لها السوريون، والتي اعتبرت أن النظام هو المتسبّب الرئيس فيها. وأكدت الوثيقة أن النظام ما كان له أن يفعل كل ما فعله، لولا تساهل النظام الدولي، وسكوت الدول الكبرى أو تلاعباتها، وخصوصاً الولايات المتحدة، وبعض الدول الإقليمية والعربية التي حرصت على تخريب الثورة، وحرفها عن أهدافها، خشيةً من تأثيراتها في محيطها، في المشرق العربي، وعلى إسرائيل ذاتها. والفكرة الأساسية التي طرحتها الوثيقة في مقدمتها أن الثورة السورية، وعلى الرغم من أنها لم تستطع تحقيق أهدافها، إلا أنها لم تنهزم، ولم تستسلم، بسبب روح الحرية التي أطلقتها في عقول معظم السوريين وقلوبهم، وأن الذي انهزم هو الأوهام والمراهنات التي انبنت عليها.

ضمن هذه الرهانات، بحسب الوثيقة، التعويل على الخارج، وطغيان العسكرة على حساب

“نداء أصدرته مجموعة من المعارضين تضمن مراجعة نقدية لأداء المعارضة” المظاهرات الشعبية، وتصدّر الخطابات الطائفية والدينية، ودخول المنظمات المتطرّفة والإرهابية والتكفيرية على خط الصراع الدائر في سورية.

أما بالنسبة للمعارضة، السياسية والعسكرية والمدنية، فأخذت عليها الوثيقة أنها “مفتّتة، وأنها تشتغل بمعزلٍ عن حواضنها المجتمعية، ومن دون أية توسّطات أو شبكات متبادلة، كما تتمثل بضعف إدراكاتها لمكانتها ودورها وانضباطها للدور المرسوم لها، من الفاعلين الدوليين والإقليميين، وعجزها عن تطوير أحوالها، بتوسيع هيئاتها، على قواعد مؤسّسية وتمثيلية وديمقراطية، وقواعد تنظيمية سليمة”.

من حيث البدائل، حاولت الوثيقة طرح مجموعة أفكار، منها: “استعادة ثورتنا خطاباتها أو مقاصدها الأساسية التي انطلقت من أجلها، بتأكيد طابعها ثورةً وطنية ديمقراطية… من أجل التحرّر من نظام الاستبداد والفساد، وإقامة دولة مؤسسات وقانون ومواطنين أحرار ومتساوين في دولةٍ مدنية، تنتهج النظام الديمقراطي، وتوفر العدالة الاجتماعية في الحكم، وفي العلاقة بين سائر مكونات المجتمع والدولة”. و”الاشتغال على بناء كيان سياسي جمعي جبهوي للسوريين، تعترف الأطراف المشكلة له ببعضها، بمشتركاتها واختلافاتها، وتجتمع على الهدف الأساسي للثورة، بغضّ النظر عن الخلفيات الفكرية، وبعيداً عن العصبيات الأيديولوجية أو الهوياتية أو الدينية”. و”بلورة تيار وطني ديمقراطي في الثورة السورية”، عبر “خطوات مدروسة ومتدرّجة” مع تثمين “كل المبادرات والتصورات التي تشتغل في هذا الاتجاه، بعقليةٍ منفتحة، بعيداً عن الاستئثار والاحتكار، وعن ادّعاءات المركز والأطراف، أو فوق وتحت، أو النخبة والقواعد”. وبالنسبة لأشكال الكفاح، اقترحت الوثيقة ضرورة إعادة تنظيم الشعب، وبناء كياناته السياسية والمدنية، لإطلاق موجةٍ جديدة من الكفاح الشعبي، وبحسب الإمكانات، بما يقلل من أكلاف الصراع، ويحقق أفضل الإنجازات، ولو على المدى الطويل. وأكّدت الوثيقة أهمية بذل الجهود لإنشاء كياناتٍ أو ممثليات شعبية في الداخل والخارج، عبر تنظيم مؤتمراتٍ، ينبثق منها ممثلون على أساس الكفاءة والنزاهة والروح الكفاحية وبوسائل الانتخابات، حيث أمكن ذلك. وبخصوص المسألة القومية، وخصوصاً الكردية، انحازت الوثيقة إلى تبني منهجٍ ينبثق من قيم الحرية والمساواة والعدالة في الثورة السورية، وأن حل المسألتين، الكردية والقومية، لبقية المكونات حلاً عادلاً، في هذه المرحلة، يأتي ضمن الثورة الوطنية الديمقراطية. وضمن ذلك مثلاً الاعتراف للكرد بحقوق المواطنة المتساوية كسوريين، وبحقوقهم الجمعية والقومية،

“أحد أهم أسباب تعقد المسألة السورية ناجمٌ عن وجود إسرائيل التي ترى في النظام بمثابة حام لأمنها” كشعب، في إطار الوطن السوري. وبخصوص العلاقة مع الخارج، أكدت الوثيقة على “توسيع معسكر الأصدقاء، ووعي المعطيات المحيطة بها دولياً وإقليمياً وعربياً، لإيجاد مقاربةٍ سياسيةٍ بين أهدافها والقيم العالمية، قيم الحرية والمساواة والمواطنة والديمقراطية والعدالة”… وتأكيد حق شعبنا “المشروع في استعادة الجولان السورية المحتلة، ومساندة حق الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه، علماً أن أحد أهم أسباب تعقد المسألة السورية ناجمٌ عن وجود إسرائيل التي ترى في النظام بمثابة حام لأمنها، فضلاً عن كونها كياناً استعمارياً واستيطانياً وعنصرياً، يتناقض مع ثورة الحرية والكرامة والمواطنة، ومع قيم العصر، فالحرية لا تتجزأ”.

لكن، كما أي نص موضوع، لا يمكن تجاهل بعض الملاحظات النقدية حوله، منها مثلا استرساله بشرح مسهب عن تقييم المرحلة السابقة، ونقد رهاناتها وأوهامها، في حين ترك باب الحلول التي يمكن من خلالها معالجة الأخطاء، مختصرة، كأن واضعي الوثيقة ينتظرون، أو يعدون بوثيقة ثانية مكملة، في مرحلةٍ لاحقة، لتقديم تصورهم للمهام المقبلة.

وفي ما يتعلق بالمسألة الكردية، كان يفترض بالوثيقة مخاطبة المكوّنات الكردية للتوافق على تصور معين لحل المسألة الكردية، وإنهاء الخلافات الكردية الكردية، بما يضمن وحدة سورية، وحقوق الأكراد، أفراداً وجماعة قومية. أيضاً، ثمة سؤال يمكن طرحه هنا، فما الذي تعنيه الأسماء الموقعة، والتي يقارب عددها الأربعمئة، ضمت نخبةً كبيرةً من المثقفين والسياسيين والنشطاء، إذا لم يكن لدى واضعي الوثيقة تصوّرا محدّداً وعملياً، لبلورة تحرّكهم، أو لتقديم أنفسهم في كيانٍ سياسي، يمكن أن يسهم بتشكيل واقع معارضاتي جديد، يلبي تصور هذه المجموعة، والتي كنتُ ممن وقّع عليها، لصراحتها وشفافيتها، واتساع صدور من كتبوها في تحمل عبء الاعتراف الذي يكاد يرتفع إلى منزلة الاعتذار؟

العربي الجديد

 

 

 

تكون المعارضة السورية أو لا تكون/ معن طلاع

مضت عجلة الحراك الثوري السوري إلى الأمام خلال ست سنوات طاحنة، تغيرت فيها ثوابت كثيرة، وشهدت تغييرات عديدة، وعلى المستويات كافة. ودخلت هذه العجلة في مراحل متعدّدة، اختلطت فيها لحظات الانتعاش مع الانكسار، الوجع مع الأمل، التمدّد والتقلص …إلخ، وشهدت انعطافات وانتقالات متسارعة في مستويات عملها، واتسمت مآلاتها باحتمالات ظهور متغيّر، يمنحها هوامش عمل جديدة، يعيد خلط الأوراق، ويؤجل الحسم لأي طرفٍ كان، إلا أنه، وبعد زلزال حلب أخيراً، والتداعيات السلبية المتدحرجة على بنية المعارضة وتوجهاتها ووظائفها، وما لحقها من استثمار سياسي روسي، أنتج ما عرف بإعلان موسكو الذي يعرّف الملف السوري بالاتساق مع المخيال الروسي الصرف، فقد بات لزاماً على المعارضة السورية إدراك أزمتها العميقة، وطبيعة امتحاناتها الحالية والمؤجلة. حيث إنه، وعلى الرغم من أن أحد أهم قراءات نتائج معركة حلب بأنها نتاج طبيعي لتضافر (وتنامي) عدة سياقات، تتعلق بمفهوم “إدارة الأزمة”، أفرزت استفراداً روسيّاً أخلّ “التوازن النسبي” الذي كان متحكّماً في المعادلة العسكرية خلال سني الصراع المسلح، إلا أن أهم هذه القراءات وجوهرها يؤكد على العوامل الذاتية الكامنة وراء الخسارة الاستراتيجية لحلب، وفقدان عنصر التأثير في جيوب وجبهات كثيرة، لا سيما في الجنوب وحول العاصمة، وتتمثل في سياسة معظم فعاليات المعارضة (السياسية والعسكرية والمدنية والدينية) في دفع استحقاقاتها إلى الأمام، بغية التهرّب منها، لعدم امتلاكها القدرة على مواجهة تلك الاستحقاقات على المستوى البنيوي تارةً، ولعدم امتلاك القرار الوطني المفضي إلى مواجهة التحديات والامتحانات الداخلية تارات عدة.

وأمام أسئلة واقع “ما بعد حلب” التي لم تعد تقبل التأخير والتسويف والمماطلة، تتدافع ثلاث دوائر مهمة في المجال العام للمعارضة والثورة للإجابة عنها، فالأولى أتت من داخل الجسد العسكري، ولا سيما شقه الفصائلي “الإسلامي”، باحثاً عن “توحيد عابر للفصائلية”، إلا أنه يتجاهل قصداً تحديات الاندماج والتوحيد الفكري ومتطلبات مراجعة المستندات الناظمة لهذا العمل، فنجدها لا تزال تتجاوز الثورة لصالح مشاريع سلطة عقدية سياسية بديلة، ولا تراعي ما تكتنفه الجغرافية السورية من ارتكاساتٍ تتحمل بوصلات عمل هذه الفصائل الجزء الأهم منها، هذا البحث عن صيغ جديدة، بالمضامين الفكرية والسياسية نفسها، لا يخرج عن كونه حركة براغماتية ضيقة الأفق، ستجعل أسباب الحريق والتشظّي السوري مستمرة.

“بات لزاماً على المعارضة السورية إدراك أزمتها العميقة، وطبيعة امتحاناتها الحالية والمؤجلة”

أما الدائرة الثانية فتنبع من الحواضن الشعبية المثقلة بالغضب والألم، وباتت تحت نصل “المصالحات” التي تبتزهم بملفات إنسانية مغرقة في البساطة، في وقت يصدّر النظام هذا التطويع والتجويع والتركيع على أنه “نصر مبين”، أو أمام فوهة البندقية المسلطة عليها من كل الأطراف الفاعلة أرضاً وبرّاً، إذ تجهد هذه الحواضن لتوسيع هوامش فاعليتها عبر الضغط باتجاه مأسسة العمل العسكري الثوري، وضرورة تماهيه مع الثورة ومطالبها؛ والدفع باتجاه اتباع استراتيجيات عمل بديلة، تجنب البنى المحلية أكبر قدرٍ ممكن من الأضرار، عبر تركها للفاعلين المدنيين، وتغيير طبيعة العناصر العسكرياتية المتبعة في “إدارة العمليات”، كتعزيز مفهوم التحصين والهندسة العسكرية، واتباع نهج المهام الخاصة وتكتيك التموضع المتبدل/ المرن، وتبقى سياسة الضغط تلك رهينة فواعل عسكرية، تتحمّل مسؤوليتها التاريخية في “استيعاب المرحلة” والانسجام وظيفياً مع متطلباتها، ويتحكّم بها هامش الزمن الضيق جداً لسياسة الاقتلاع والتهجير التي قد تطاول تلك الحواضن، وتلغي أثر أي ضغط لها.

والدائرة الثالثة، والتي تعد حركيّتها الأكثر خجلاً، والأقل إدراكاً لمآلات المشهد التي تنبئ بتجاوز سكة الحل التي ترتسم لبنيتها، وللأدوار المحتملة كافة، وهي دائرة الممثلين السياسيين، كالائتلاف والهيئة العليا والأحزاب والتيارات التقليدية على سبيل المثال، إذ اتسمت تلك الحركية بالتثاقل، نظراً لأسبابٍ تتعلق بكمون العطالة التي تكتنف هياكلها من جهة، والتسليم لمبدأ استلاب القرار الوطني من جهة أخرى. وكانت ردة فعلها محصورةً ما بين تنظير عبر الفضاء الإلكتروني بشكل يكرس فقدانهم آليات تفعيل الرؤى، أو الاستقالة الشخصية في محاولةٍ منهم للتبرئة من مسؤولية ما جرى، أو لفقدان الأمل في أية فعاليةٍ، ترتجى من تلك الأجسام. وفي المقابل، غاب عن هذه الدائرة أن هذه الأحداث فرصة حقيقية للبدء بامتلاك أدوات التمكين والمبادرة، وتصحيح التشويه الحاصل في العلاقة بين السياسي والعسكري، وإعادة تعريفها بشكلٍ يضبط الحركة العسكرية بعقارب القيادة السياسية، إذ كان متوقعاً منها أن تتبنى مبدأ “حسن إدارة الأزمة”، عبر تشكيل غرف عمليات مستمرة، تستطيع بها توظيف الإنجاز العسكري سياسياً، أو تقلل من تبعات الخسارة، عبر جولات تفاوضية تتيح لها هوامش حركةٍ ما، وتلك هي أبجديات العمل السياسي. أما الاستسلام الكلي لزخم الأحداث وعدم امتلاك القدرة على هضمها وإنتاج مقاربات مواجهةٍ ناجعة فيجعل شخوص هذه المؤسسات غير مؤهلين لقيادة مدرسة ابتدائية، وليس إدارة ملفات وطنية.

وما بين تلك الدوائر وصعوبة الآتي، ينتظر من المعارضة السورية في هذه المرحلة أن تدرك خطورة بقائها كما كانت عليه (سياسةً وأدوات وهياكل)، وأن تجهد في اتباع استراتيجيات ثلاث. الأولى استيعاب الأزمة، والعمل على احتوائها عبر إبداء “التوازن” السياسي للحركة العامة، وعدم الإغراق بجلد الذات بهدف جلد الذات فقط، والتمسّك بأوراق القوة المتبقية في حوزتها، كالشرعية التمثيلية، سواء على المستوى السياسي الدولي والإقليمي، أو على المستوى المحلي ونماذج الحكم المحلي الناشئة، أو حتى ما هو متعلقٌ بتوازن الردع في دمشق ومحيطها، والابتعاد عن اندماجات غير متسقةٍ ومتسرعةٍ، تحمل في طياتها أسباب الانحلال والتصدّع النهائي، وذلك كله بالتوازي مع تفويض مجموعة ورش عمل مغلقة للتقييم والمراجعات والحسم في تعريف العلاقة مع كل المشاريع العابرة للثورية، وللتباحث أيضاً في آليات التغيير، وتذليل كل أسباب العطالة، وامتلاك مقومات الصمود والاستمرار.

“ينتظر من المعارضة السورية في هذه المرحلة أن تدرك خطورة بقائها كما كانت عليه سياسةً وأدوات وهياكل”

تنبع الاستراتيجية الثانية أولاً من ضرورات صد استراتيجية النظام التي تطمح لتركيع مناطق سيطرة المعارضة في الوسط والجنوب السوري، عبر سلاح المصالحات، وذلك بإعداد خطةٍ متكاملةٍ لتحويلها إلى هدن تتوازن فيها شروط كل الأطراف، وتقوم على عنصرين رئيسيين، تثبيت جبهات الصراع بإشراف دولي، ووحدة مصير المناطق المهادنة، والتي ستضمن عرقلة سياسة الاستفراد التي ينتهجها النظام، كما ترتبط هذه الاستراتيجية عضوياً بخيار المواجهة الوجودي مع المشروع الإيراني، والعمل على الاستمرار بضربه سياسياً وعسكرياً. بينما تتعلق الاستراتيجية الثالثة بخيارات المواجهة الدبلوماسية، وقبول كل التحديات المفروضة، وعدم ترك أي شاغر في سياق أي مفاوضات محتملة، واستكمال أي أعمال تتعلق ببرامج ورؤى وآليات تنفيذية، تسهم في التغيير والانتقال السياسي. وهذا نابعٌ من ضرورات الحضور التي تفرضه الواقعية أولاً، والانتقال إلى أدوات النضال السياسي، بحكم التقهقر العسكري ثانياً.

ولعلي أختم بالقول إن كتب مؤرخي التاريخ في صفحاتهم أن المعارضة السورية استطاعت عبور هذا النفق المظلم، فذاك حكماً سيكون مردّه تبلور مفهوم الارتقاء إلى مستوى الحدث ومسؤولياته، ولقدرتها على العودة، والالتحام مع ثورة شعبٍ، يستحق العزة والحرية والكرامة. وإن لم يكتب أولئك المؤرخون ذلك، فلا تلومن المعارضة إلا نفسها، لأنها أضاعت الفرصة، وفشلت في امتحانها الوجودي، وساهمت، بشكل أو بآخر، في مأساة الوطن والمواطن السوري.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى