صفحات الثقافة

الرواية والكعب العالي وسرقة الحقوق/ محمد حجيري

 

 

حين ذهبت الى معرض بيروت العربي الدولي الكتاب، في المرة الأخيرة، جلست في جناح احدى دور النشر الصديقة، في لحظة كان أحد المقاولين الطامحين لموقع سياسيّ أو نيابي يوقع كتابه التنظيري في جناح قريب منا، وحوله جمهور عريض يتسابق للتبريك له وتقديم الورد والتحيّات. من يرى الزحمة المحيطة به يحسب أنه يقدم برنامجاً انقاذياً للأمة اللبنانية، أو “برويسترويكا” يتلهف الجمهور على تبنيها لتحقيق “الحلم الإصلاحي” في لبنان. وعلى مقربة من المقاول وصاحب الشركات، كان أحد الإعلاميين الممانعين يوقع كتابه الذي قال انه “وثائق سرية” وحوله زحمة أيضاً. وما بين المقاول والإعلامي سرب كبير من نساء بثياب “سواريه”، سكربينة بكعب عالٍ مع بنطالٍ من الجلد.. الخ، كأنهن في حفلة زفاف أو عرض أزياء، أيقاع الكعب العالي كان جميلاً ولافتاً وتهكمياً في الوقت نفسه… الزحمة في هذه اللحظة، بحسب احد الناشرين، لا تدلّ على فعل القراءة ومتعتها وناسها، بل على النفوذ ومن يقوم بـ”الواجب الاجتماعي” والمصلحي لإرضاء رب عمله أو صديقه أو ابن عائلته أو ابن حزبه، وربما ناشر أخباره وتصاريحه.

هذه الكتب يمكن وصفها بكتب العلاقات العامة، وأصحابها وظيفتهم ليست الكتابة بل أمور مختلفة، والتوقيع “كرنفال” لتجديد التواصل بين صاحب الشهرة او المقاول او صاحب المنصب الرسمي أو الأمني مع الجمهور والجيران والموظفين والأصدقاء والزبائن… لا نريد الكلام كثيراً عن موضة التواقيع، فالكلام في نقدها بات مملاً ورتيباً وغير مجدٍ، والأمر نفسه في نقد المعرض. كنت أقصد من الجولة الأخيرة بين الكتب سؤال بعض الناشرين، هل الرواية عموماً نجمة لهذا الموسم؟

على أن الحماسة للسؤال تبددت أولاً أمام مشهد اندفاع الجمهور لشراء كتب المشاهير، مع أن هناك مجموعة لا بأس بها من الروايات العربية، في دور نشر مثل “الساقي” و”الآداب” و”التنوير” و”رياض الريس” و”الشروق” المصرية و”ضفاف” و”الجمل” و”مكتبة انطوان”، منها روايات للياس خوري وعباس بيضون ورشيد الضعيف وإيمان حميدان وزينب شرف الدين وحسين الموزاني وشريف مجدلاني وخالد خليفة… ويتزامن ازدهار الرواية مع الاندفاعة في تشجيع الروايات من خلال الجوائر الثمينة (كتارا، بوكر)، وانتقال الكثير من الشعراء الى كتابة الرواية أيضاً (عباس بيضون، أنطون الدويهي)، وانشاء بعض المحترفات المهتمة بهذا الأمر(مشروع آفاق، ومحترف الرواية – نجوى بركات)، فضلاً عن يقين لدى الكثير من الكتاب الجدد أن الرواية نوع أدبي يمكن من خلاله قول أي شيء (بعكس الشعر القائم على الاختزال)، سواء الأمور الجنسية أو اللغوية أو السياسية أو الأدبية.

الرواية فضفاضة وقابلة لابراز التفاصيل في مختلف المجالات والتوجهات، وبرغم ذلك، وبرغم التشجيع، لا “ثورة” بالمعنى الحقيقي في الرواية العربية، وإن كانت وجهتها ايجابية، ويسعى الكثير من كتّابها إلى إيجاد سياقات جديدة لها… أحد المهتمين بالقراءة في المعرض يبدو أكثر تفاؤلاً مني، قائلا إن بعض كتب “المشاهير” التي تجد زحمة عليها الآن، سرعان ما ينتهي دورها بعد أيام، هي فرصة استهلاكية ولا تعيش طويلاً بعكس الرواية التي تبقى حاضرة لسنوات وأجيال، والأمر يتعلق بضمون الرواية قبل كل شيء.

والتبدد اكتمل حين سألت الناشر حسن ياغي، صاحب “دار التنوير”، عن أحوال الرواية الأجنبية المترجمة العربية، فظهر ما يمكن تسميته بـ”فضيحة ثقافية”. ويقول ياغي لـ”المدن”: “إن الدور اللبنانية لا تترجم كثيراً، فالأمر مكلف”، وحين ذكّرناه بالدور السورية، قال بما معناه “إن الأمر مختلف هناك، فأكثرية الترجمات تتم من دون حقوق، وبطريقة سيئة لا تراعي حتى أدنى المستويات الترجمة، وبعض دور النشر السورية تكثر من الترجمات لأنها أولاً لا تستطيع الوصول الى الكثير المؤلفين العرب (خصوصاً الروائيين)، وتجد سهولة في الترجمة بلا حسيب أو الرقيب لأن سوريا لم توقع على الملكية الفكرية المعروفة دولياً.. بمعنى آخر، الناشر لا يحاسب على تعديه على حقوق المؤلفين باستثناء بعض الدول العربية الخليجية التي تمنع مشاركة هذه الدور في معارضها”.

يتحدث ياغي عن العلاقة السيئة بين الناشرين العرب والكتّاب الأجانب بسبب سرقة حقوقهم، فحين عقد العزم على إبرام اتفاق مع الروائي الافغاني خالد الحسيني، لترجمة أعماله إلى العربية، مقابل مبلغ لا بأس به، اكتشف أن كتبه مترجمة لدى أكثر من دار عربية من دون أي اتفاق، فتراجع عن الأمر، وهذا أزعج الحسيني، وبات يرفض توقيع اي عقد مع أي جهة عربية، والأمر نفسه حصل مع الروائية التشيلية ايزابيل الليندي، التي استغربت كيف تترجم مؤلفاتها من دون علمها مع انها تحب البلاد العربية، وكتبت سرداً عن بعضها في رواياتها. ويلمح ياغي الى أنه حاول التواصل مع جهة تهتم بحقوق كتب غابرييل غارسيا ماركيز، من اجل شرائها وترجمتها، وجاء الرد سلبيا من ماركيز قائلاً إنه “يرفض التعاون مع الناشرين العرب لأنهم يسرقون حقوقه”، وحتى الروائي الياباني هاروكي موراكامي، بحسب ياغي، يسخر من النشر في العالم العربي قائلاً إن اعماله ترجمت الى لغة الأوردو وتلقى مستحقاته، أما النشر في العالم العربي فيغلب عليه طابع الاستهتار…

يوضح ياغي “أن المنافسة غير الشريفة في النشر ستكون قضيته في المستقبل”، يضيف: “أشعر بسعادة حين أجد منافسة على ترجمة “1984” لجورج اورويل، فهذه الرواية بعد خمسين عاماً على صدورها أصبحت مشاعاً، والمهارة في من يقدم الترجمة الأجمل، أما عملية  الترجمة من دون حقوق، فهي منافسة غير شريفة، فأنا أدفع ثمن حقوق الروايات الأجنبية آلاف الدولارات، ويأتي من يترجمهم دون اذن او دستور”.

ومشكلة سرقة الحقوق مزمنة في العالم العربي… في سوريا تحديداً، معظم الدور لا تدفع أي حقوق وتترجم كل ما يحلو لها وتحصل الإشكالات مع الدور اللبنانية، سواء المشكلة حول ترجمة روايات أمين معلوف أو كتاب “السجينة” لملكية أوفقير. وحتى في لبنان هناك إشكالات، حول ترجمة أعمال التركية أليف شافاك والفرنسي ألبير كامو، وفي مصر يفيد بعض الأصدقاء أن معظم الدور تترجم بلا حقوق، وحين زار حامل نوبل للآداب أورهان باموق القاهرة، فوجئ بترجمة أعماله لدى بعض الدور من دون اذن أو ثمن.

للتذكير، في ذلك اليوم الذي زرت فيه المعرض بحثاً عن الرواية، غصت قاعة البيال بالجمهور ورواد القراءة، وحتى خارج القاعة وصلت زحمة السيارات لمسافات طويلة وامتلأت بعد اكتظاظ المرائب… بعض الناس عادوا الى بيوتهم ولم يكملوا رحلتهم الى المعرض، وهنا اشتعل “النق” وبدأ البحث عن أسباب الزحمة، بين من يشتم المقاول المسيطر على الواجهة البحرية، وبين من يقول إن مجيء أحد السياسيين سبب الزحمة، وبين من يقول ان المعرض لم يؤمن مرائب للسيارات… وبالتالي “النق” جزء من العادات اللبنانية، سواء اكان المعرض في ابهى حلته، أو في أردأ مشهدياته.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى