بطرس الحلاقصفحات الثقافة

المعرّي.. الفلسفة رهان أخلاقي على الحق

بطرس الحلاق

لم تخطئ طليعة «النصرة» التي اقتحمت معرة النعمان منذ بضعة أشهر، حين بادرت إلى تحطيم تمثال شاعرها آبي العلاء. أعمى البصر، فكيف لا يكون أعمى البصيرة؟ يكفيه عمى أنه يلجأ إلى العقل للنظر في المنشأ والمآل، بينما الحق واضح وضوح النهار، أخذوه عن أئمتهم الذين فسّروا الكتاب الكريم بحرفيته معرضين عن روحيته ونسغه الحي. ولم يكن أهل «النصرة» أول من حاول اغتيال الشاعر الفيلسوف. لفّه النقد العربي، حتى مع طه حسين، في كفن منسوج من اعجاب بقدرته اللغوية المتجلية خاصة في «اللزوميات»، وبشجاعته الفكرية في مواجهة مسألة الوجود والإيمان، يخالطه استهجان بزهده في العيش ومتعة الجسد فضلا عن إنكاره للبعد الأنثوي في اكتمال انسانيته، ويمازجه تساؤل حول «تقية» منعته من التصريح بكل في نفسه. صحيح أن الفكر «التنويري» استطاب منازلته للفكر الديني والصوفي ونقده اللاذع للمؤسسات الاجتماعية وللتعصب الفكري والديني، كما إنه تغنى بمخيلته الابداعية في «رسالة الغفران» التي إوحت للكاتب الإيطالي دانته رائعته «الكوميديا الالهية». غير أننا سهونا – كعادتنا – عن جوهر نتاجه: مواجهة المصير الفردي بعيدا عن سلوان يسير يوفره الدين، وعن قناعة وهمية يوفرها العقل. إنه الفارس الفتى ينازل قدره وجها لوجه ويراهن على وجوده في ذلك النزال المأساوي.

«رهين المحبسين» لم ينزو في بيته المتواضع لا نتيجة فشل في بلوغ الشهرة والمال وقد كان حجة علماء عصره؛ ولا بغضا بالبشر وهو الحاني على الضعيف يساعده بما يتدفق عليه من هبات؛ ولا تحاشيا لعشرة الناس، وهو الجامع حوله مريديه يلقي عليهم دروسه؛ ولا نفورا من الخليقة وهو الرئيف بالحيوان نفسه – ألم يخاطب فرخ حمام وصفه له الطبيب قائلا: «استصغروك فوصفوك، هلّا وصفوا لي شبل أسد؟«؛ ولا ضغينة الناقم على مصيره، وفق تعبير تعبير نيتشه، وهو القادر على مجابهة قل نظيرها؟ يحاول باتريك مغربنه وهوا-هوي فيونع أن ينفذا إلى عالم المعري من خلال لزومياته التي قاما بترجمة نماذج منها، أرفقاها بدراسة موسعة صدرت عن دار أكت سود بعنوان »اللزوميات، قصائد الزهد» (2009). ينحّي المؤلفان بعض الأحكام الشائعة عن المعري. لا، لم يكن «دهريا»، أي بالتعبير الحديث ملحدا، بل مشككا بالمؤسسة الدينية وفي تفسيرها للعقائد كما في ممارستها الحياتية المليئة بالرياء وبشهوة السلطة والمال. لا، لم يعتمد التقية خوفا على نفسه من نقمة السلطات، لأن أجرأ مواقفه ضد الفكر الديني في كافة الأديان أتت صريحة لا لبس فيها. لا، لم يكن من أتباع الفكر الإسماعيلي ضد أهل السنة، فما أكثر مواقفه المنددة بفكرة الإمامة. لا، لم يطمئن إلى أهل الفلسفة في كافة تياراتهم، بسبب عطب واضح في منظوماتهم الفلسفية، من إخوان الصفاء إلى الراوندية وغيرها. وبطبيعة الحال، لم ينضم إلى مصاف الصوفيين، لاعتباره أنهم يبنون مواقفهم على رؤى ذاتية غير موضوعية. فأين يقف إذا هذا الغريب؟

الرهان الأخلاقي: مجاهدة النفس

إنه يقف في عين العاصفة، في جدلية حياة متشعبة متناقضة هياجة، لا يستطيع أن يحياها إلا وهو يصارع أمواجها، أو بالأحرى على قمة الموجة الأعتى، فعل رياضيي اللوحة العائمة (سكاي بورد). إن ركَن إلى الإيمان والحدس والقناعة الذاتية، هوى عن موجته إلى قعر المحيط، إذ «كذب الظن لا إمام سوى العقل/ مشيرا في صبحه والمساء». وإذا استسلم للعقل وحده، هوى إلى الجانب الآخر من الموجة: «إثنان أهل الأرض، ذو عقل/ بلا دين وآخر ديّن لا عقل له». وما العبرة من اعتلاء الموجة؟ – أن تحيا دون أية مساومة أو تنازل. فكرامة الإنسان الفرد في حركية تعبئ الطاقات وتلم شمل القوى النابذة والجابذة، بوعي لا يتخاذل لحظة، ليبقى الإنسان أمينا لحركته الذاتية العميقة، وجهته الخير لا خوفا ولا طمعا: «فلتفعل النفس الجميل لأنه/ خير وأحسن لا لأجل ثوابها». أخلاقية وجودية لا يبررها أي مبدأ خارجي ولا ماورائي: المرء في هذه المجاهدة بالذات. يرى الكاتبان أنه مؤسس الفلسفة العربية بالمعنى الحديث، كما ظهرت بعد قرون مع باسكال وكانت وكيركغارد. آمن بالحق، أي بوجود الله منزها عن كل معرفة: حقيقته لا يبلغها البشر، ولكن عجزهم لا يزيدهم إلا إصرارا على البحث. ولذلك لم يعتمد مفهوم «الإيمان» بل ركّز على «التقوى»، ذلك السعي الدؤوب موقف الحق والرحمة. قال بالعقل لا يوصفه وسيلة لمعرفة الحق -فالعقل والنقل عنده لا يترافدان كما عند الفلاسفة- بل بوصفه عاصما عن زلل يساور الإيمان الأعمى. هكذا يسعى إلى الحق تلمسا حذرا وهو يعرف أنه لن يدركه إلا مقاربة. تلك مأساة الفكر الإنساني، في جدلية يأس وأمل، يراهن فيها على صحة المسار. وإن عزف عن الدنيويات فليكرس كافة جهده لهذا المسعى، الذي يقتضي منه الوعي

شحذ الوعي في كل لحظة (الابتعاد عن المسكر والمسليات)، وتأليب الطاقات الجسدية والفكرية والروحية. فلا استسلام لأي لذة من لذائذ الجسد، حتى أكل اللحم والبيض. ولا احتماء بقناعات ذاتية. وخاصة إعمال الفكر والمخيلة والشعور في إبداع ناجز متقن مستمر. فليس من باب الصدفة أن أبا العلاء كدّس الصفائح المكتوبة، وتناول كافة الموضوعات المطروقة في زمانه، وكلّف نفسه «لزوم ما لا يلزم» في باب الشعر، حين قرر نظم «لزومياته». عاب على شعراء عصره تبذير موهبتهم في أغراض بخسة، من مديح وهجاء وفخر مبنية على الكذب، ونعى عليهم استسهال القافية بالأخذ بأحرف الروي الأكثر شيوعا. فراح ينظم قصائد محكمة في قضايا الأنسان الأساسية في نظره، ويتقيد باستعمال كافة حروف الأبجدية في الرويّ. بل زاود على نفسه فاستعمل كل حرف رويّ في حالاته الأربع: مرفوعا ومنصوبا ومجرورا وساكنا. فمجاهدة اللغة وأساليب النظم من مجاهدة النفس. وبقي حتى الرمق الأخير يؤلف وينشر. وفي أثناء ذلك، لم يتوقف يوما عن الدعوة لعمل الخير ولسلوك طريق التضامن والرأفة في سبيل بناء «مدينة فاضلة» لا تكتمل بنفسها بل بسعيها إلى الحق الذي لا يدرك. وكأن لسان حاله يقول: الحق هو في الطريق إلى الحق وفي المراهنة على وجوده.

لم يسع المعري إلى نظام فلسفي متكامل، كان أكثر من ذلك: خرج على جدلية ماورائية شغلت فلاسفتنا في التوفيق بين العقل والنقل، لم ينصع لسهولة الحدس وإيعازات «القلب» وحده، لم يطمئن إلى عذوبة إيمان رضي. بل أخذ على محمل الجد مسألة الوجود والحرية ليطرح بشجاعة نادرة الأسئلة الأساسية التي لا تزال تطالع كل إنسان. «ليس الإيمان فكرا، بل وجدا؛ أو بالأحرى إنه الفكر بوصفه وجدا: أي الفكر حين يواجه الفشل، الألم، الانفصال عن الحق. الإيمان، عند المعري، لا يخوّل العقل البشري من بلوغ المطلق، كما هي الحال عند هيغيل. الإيمان عنده امتحان لا ينتهي لمحدوديته، كما عند كيرغكارد. ولذا ندرك أن هذه المحنة الروحية هي بآن فلسفية؛ أو بتعبير أفضل: محنة الإيمان هي نفسها محنة الفلسفة حين تجابه ذاتها، تجابه الحقيقة»، بذا يختم الكاتبان بحثهما، قبل أن يبديا استغرابهما من عجز الفكر الاستشراقي الغربي عن فهم وعي أبي العلاء على ضوء فلسفة الإنسان في النهضة الأوربية، وكذلك من تكاسل الفكر العربي الحديث عن إدراك مواقفه الفكرية المتقدمة، ربما لأنه هذا الفكر شغف بالتطور العقلاني وطرح جانبا التساؤلات الإنسانية الكبرى. انشغلنا قديما بتوفيق العقل والنقل، وانشغلنا حديثا بالإصلاحات المؤسساتية والاقتصادية، وتركنا الفكر الاستهلاكي يجتاحنا بالتوافق مع الفكر الغيبي. أما قضية الإنسان، التي جابهها تراثنا كما الفكر الحديث، فأرجأناها إلى… ما شاء …

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى