صفحات الرأي

البدايات الأولى: دمشق والجامعة الأميركية ببيروت ومقاصد صيدا الإسلامية/ حازم صاغية

 

 

(إلى فادي الأمين)

في أواخر الأربعينات، بعد عام على «النكبة» الفلسطينية وفيما المشرق يبحث عن معناه، ظهر «حزب البعث العربي الاشتراكي» في لبنان. كان ذلك بعد سنتين على التأسيس الرسمي لـ «حزب البعث العربي» في سورية، حزب ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، وقبل أربع سنوات على الاندماج مع «الحزب العربي الاشتراكي» لأكرم الحوراني.

وكان علي جابر، المولود في 1923، أول المقبلين على الدعوة وأول الأمناء القُطريين، وفق القاموس العقائدي والتنظيمي للحزب. وجابر ابن عائلة من التجار والأعيان المتوسطين في مدينة النبطية، درس الطب في دمشق، وبصفته هذه حضر مؤتمر 1947 التأسيسي. فحين عاد إلى لبنان، أقام عيادته في النبطية واستقطب إلى البعث فلاحين شباناً منها ومن قرى محيطها المجاور.

ولما كانت الجامعة الأميركية في بيروت مقصداً لطلاب عرب، بينهم بعثيون كالعراقي سعدون حمادي الذي اضطلع بدور نشط في نشر الدعوة في لبنان، والبحريني علي فخرو، والأردني جمال الشاعر، والسوري عاطف دانيال، فقد انجذب إليهم اللبناني الصيداوي وطالب الاقتصاد، ثم الاقتصادي، محمد عطاالله، وكلهم ولدوا على ضفاف 1930.

والحال أن الجامعة الأميركية كانت، بعد دمشق، المهد الأول للبعث اللبناني، وإن قل دورها هذا عن دورها في انبثاق «حركة القوميين العرب». ففي وقت يرقى إلى 1952، دعا بعثيو الأميركية إلى «مهرجان جماهيري» بمناسبة «عيد الشهداء» في السادس من أيار (مايو)، على أن يقام في مدرسة المقاصد الإسلامية في صيدا تحت عنوان «شهداء العرب». هناك رُفعت شعارات الحزب الوليد وكان الخطباء هم طلاب الجامعة الأميركية البعثيون إياهم.

وغدت مقاصد صيدا، بعد المهرجان المذكور، مهداً آخر. ففي المقاصد انتمى طلاب كمصطفى الدندشلي من صيدا، وعاصم قانصوه من بعلبك، وفؤاد ذبيان من مزرعة الشوف، ورياض رعد من ضاحية بيروت الجنوبية. لكن لولب البعث في المقاصد كان الصحافي والمحامي اللاحق غسان شرارة من بنت جبيل. وبعثية الأخير، المولود في 1933، جاءت ثمرة البيت أيضاً. فوالده الشاعر موسى الزين شرارة الذي عُرف بقصائده المنددة بعهود الاستقلال، كان يرعى في منزله حلقات ذات طابع أدبي وسياسي ينسجم مع توجهاته العروبية. هكذا مال غسان إلى الرسالة العفلقية، ومثله فعل ابن عمه طلال، المحامي ورجل الأعمال اللاحق، ومعهما آخرون من الأقارب، حتى عُد البعث، في بنت جبيل، حزب آل شرارة.

لكنْ، إذا كانت الجامعة الأميركية وسمت البعث بميسم طبقي وثقافي ما، فإن عالم المدارس التي كان يكثر تلامذتها كما يتضاعف معلموها، وسمه بميسم طبقي وثقافي آخر. وهذا ما لم يُعدم مضموناه الطبقي والطائفي اللذان خرجا لاحقاً إلى النور، ولو بمقدار من التحوير والمداورة.

وقد يجوز القول أن تاريخ البعث اللبناني هو تاريخ محاولات التوفيق بين مصالح ورؤى متضاربة لم يكن البعث، بخطابته العروبية والوحدوية البسيطة، كافياً لتذويب تضاربها. أما قيام نظامين بعثيين في سورية والعراق، ابتداء بـ1963، وتناحر البعثين المتروبوليين ابتداء بـ1966، فلم يتأتَّ عنه سوى تفجير ما تبقى من وحدوية الحزب الوحدوي، بل من وجوده ذاته.

طلاب وأساتذة

على أية حال، فمنذ البدايات الأولى راح الوزن الذي يشكله المعلمون الرسميون وتلامذتهم يتنامى. وقد نشط إنعام الجندي في مجال نشر الدعوة في الوسط هذا، وهو الكاتب البعثي السوري المقيم في لبنان، والعامل في التدريس والصحافة معاً.

كذلك حضر أساتذة البعث الكبار. فقد جاء انتقال عفلق والبيطار والحوراني إلى بيروت، أوائل الخمسينات، هرباً من ديكتاتورية أديب الشيشكلي، بمثابة تأسيس لمحطة مرجعية يحج إليها المحازبون الأوائل ويسألونها فتاواها. وعلى مدى سنوات لاحقة، استُخدمت بيروت مطبعةً للبعث في سورية، ومكاناً للقاء «الأساتذة» بالصحافيين الأجانب، فضلاً عن توفيرها البيت والفندق والمقهى لبعثييها حين يهربون من حكامهم العسكريين. وهذا ما جعل عفلق وصحبه يتباهون بفهم الخصوصية اللبنانية، ويحرصون على توكيد المرونة في معاملتها.

على أن هذا الطور التأسيسي نفسه سجل استقبال الحزب قياديين شابين وفدا من «الحزب التقدمي الاشتراكي»، الجنبلاطي، هما المحامي البيروتي جبران مجدلاني، المولود في 1928 لأبرز العائلات السياسية الأرثوذكسية في منطقة المزرعة، والذي كان ابن عمه نسيم مجدلاني يتهيأ لوراثة حبيب أبو شهلا وتزعم مسيحيي بيروت الغربية، وموريس صقر، الكاتب الصادر عن الجرود الوسطى لجبيل المارونية، والذي امتهن الصحافة وعمل في «الأوريون» الناطقة بالفرنسية. فهذان، ومعهما كلوفيس مقصود، اعتبروا أن عروبة كمال جنبلاط أقل من المطلوب فيما لبنانيته أكثر من المرغوب، فانشقوا عنه واتجهوا بعثاً.

مراتب وطاقم حكم

وفي مناخ شكله الصعود الناصري عربياً ما بين حرب السويس في 1956 والوحدة المصرية – السورية في 1958، معطوفاً على الافتقار التقليدي إلى حزب يلتف حوله مسلمو لبنان، ولا تلبيه «النجادة» و «الطلائع» وما يماثلهما من أحزاب حانوتية، حضر البعث في معظم مناطق لبنان المسلمة ولم يُعدم الوجود في طوائفه المسيحية. هكذا، ظهر في بيروت وطرابلس وصور وبنت جبيل والنبطية وبعلبك، كما ضم مئات الشبان الصيداويين ممن عبروا مطهر المقاصد، وخاطب شبكة واسعة من أساتذة التعليم الرسمي، ليس في صيدا فحسب، بل في الجنوب كله.

وكان ممن انتسبوا من طرابلس الطبيب العائد من سويسرا عبدالمجيد الرافعي، وهو من مواليد 1927، ومن بيروت الجامعي عبدالوهاب شميطلي، الذي تخرج في اليسوعية وكان يصغر الرافعي بثلاث سنوات فيما يشاركه الانتماء إلى عائلة مشايخ دينيين. كذلك انتسب من بعلبك الوجيه والمحامي وابن العائلة السياسية غالب ياغي، المجايل لشميطلي، ومن صور طالب العلوم السياسية العائد من الولايات المتحدة علي الخليل، المولود في 1933، وهو قريب الزعيم الصوري كاظم الخليل وخصيمه، وكذلك المحامي خالد العلي من عكار، المولود في السنة ذاتها لأسرة أعيان قرويين صغار. أما في صيدا، بعد محمد عطاالله، فقد استقطب البعث وجوهاً من عائلاتها السياسية والتجارية المؤثرة، كالمحامي خالد لطفي، نجل شفيق لطفي، أحد مؤسسي «حزب النداء القومي» وصديق آل الصلح، والاقتصادي هشام البساط، وكذلك النقابي حسيب عبدالجواد، المولود في 1935 لأب فلسطيني الأصل وأم هي أخت صلاح البزري، أحد أبرز وجهاء صيدا عهدذاك. وكان مما يُلاحَظ في نسبة عالية من الصيداويين البعثيين أنهم درسوا في مصر بعد المقاصد الإسلامية، جرياً على تقليد تملكَ المسلمين، السنّة والشيعة، الحداثيين والقوميين في الخمسينات. وبالفعل، ومن خلال غسان شرارة، سيطر البعثيون، حتى 1960، على رابطة الطلاب اللبنانيين في القاهرة.

وجعل الحزب يضوي أفراداً من ذوي الخلفيات الأهلية والعائلية المتينة، على تعددها واختلافها، كالدكتور بشير الداعوق، سليل العائلة البيروتية المعروفة ومؤسس «دار الطليعة» للنشر وصاحبها، والطالب ثم المحامي فايز قزي، ابن العائلة الكبيرة في الدامور والجية، وجهاد كرم، من حامات المحيرة بين الكورة والبترون، المولود في 1935، والذي تخرج أيضاً في الجامعة الأميركية. وبمجدلاني وصقر وكرم وقزي، غدا للبعث، فضلاً عن وجوهه المسلمة، وجوه مسيحية. وإلى فؤاد ذبيان، انضم وجه درزي آخر هو عصام نعمان، المحامي والوزير اللاحق، المولود في 1937، والذي درس في الجامعة الأميركية أواخر الخمسينات، مثله مثل ليلى بقسماطي، التي اقترنت لاحقاً بالرافعي، وباسل عطاالله ونقولا الفرزلي، المهندس المدني المولود في 1938، والذي أكمل دراسته في أميركا، وابن العائلة الأرثوذكسية الموزعة على الفرزل والقرعون وجب جنين. ولئن غدا شقيقه الياس الفرزلي أقرب المقربين إلى عفلق، فابن عمهما المحامي أديب الفرزلي ما لبث أن دخل البرلمان نائباً عن البقاع الغربي، وصار بعد ذلك نائباً لرئيسه. كذلك انتسب طالب الاقتصاد السياسي في الجامعة الأميركية، ثم أستاذه، زيد حيدر، المولود في بعلبك في 1934. وفي عداد المنضوين المبكرين كان المهندس الفلسطيني – اللبناني خالد يشرطي، ابن الأسرة المشيخية والشاذلية المعروفة وخريج الجامعة الأميركية.

فحين انعقد المؤتمر التأسيسي الأول للحزب في لبنان، عام 1956، والذي هيأت له قيادة مركزية موقتة على رأسها علي جابر، كان أكبر البعثيين في أوائل ثلاثيناتهم وأصغرهم على تخوم العشرين. وقد انبثقت من المؤتمر المذكور قيادةٌ كان جابر أمين سرها، فيما الأعضاء شميطلي وياغي ومجدلاني والسوري إنعام الجندي والطرابلسي حسان مولوي. وكان الكثيرون من البعثيين من أبناء أعيان ووجهاء ومشايخ باتوا أصحاب مهن حديثة، لا سيما محامين، يليهم المهندسون والأطباء. وقد توزع هؤلاء الجامعون بين «الأصالة» و «الحداثة» ريفيين ومدينيين، سنّةً وشيعةً، مع قليل من المسيحيين ذوي المنابت الاجتماعية الوسطى والوسطى – العليا، معظمهم من خارج جبل لبنان ومن أطرافه.

وبفعل هذه الخلفية الطبقية، ولكنْ أيضاً بسبب تقديم البعثيين أنفسهم ورثةً لـ «عصبة العمل القومي» ولـ «حزب النداء القومي» معاً، نموا على مقربة من مواقع ومؤسسات ووجوه ليسوا عديمي الصلة بالنظام السياسي واحتمالاته ولا بالمراتب العائلية وفُرصها.

فقد رعاهم واحتضنهم آل الصلح، حتى عُد الكاتب والسياسي منح الصلح واحداً منهم، يقترح عليهم ويتتلمذون عليه. وكانوا في بنت جبيل وثيقي الصلة بالنائب علي بزي، صديق موسى الزين شرارة، يتجندون لحملاته الانتخابية، وهي العلاقة نفسها التي ربطتهم في صور بالنائب جعفر شرف الدين، نجل المرجع الشيعي البارز عبد الحسين شرف الدين، والذي عُدت مدرسته «الجعفرية» معقلاً بعثياً منيعاً بدأ، مطالع الستينات، يحل محل مدرسة المقاصد في صيدا التي غزتها «حركة القوميين العرب».

ومثلما كان تلامذة المقاصد من غير الصيداويين ينقلون الدعوة إلى أريافهم في الإجازات وفرص الصيف، غدا تلامذة الجعفرية غير الصوريين يفعلون الشيء نفسه فيشع نور «الرسالة الخالدة» في قرى قلقة على غدها المُسرع والملتبس.

وكمثل العلاقة ببزي وشرف الدين، مُدت، في منطقة النبطية، جسور أخرى بين البعثيين والشيخ علي الزين، المؤرخ الحِرَفي وابن العائلة الموزعة على شحور وجبشيت وكفر رمان، حيث زعامة يوسف الزين وأنجاله، فتعاطف معهم وحض المدرسين والمتعلمين الجدد على اعتناق عقيدتهم. وفي الحزب انضوى المحامي الجنوبي المتخرج في دمشق مالك الأمين، سليل الأسرة الدينية ذات الملكيات الزراعية، فضلاً عن توزع إقامتها على قرى شقرا والصوانة ومجدل سلم ودير كيفا. وبسبب زيد حيدر وصل البعث مبكراً إلى بيوت من آل حيدر البقاعيين، الموزعين على بدنايل وبعلبك واللبوة، وكانت للعائلة المذكورة زعامة سياسية بدأت بإبراهيم حيدر ثم توّجها على صعيد القضاء النائب والوزير سليم حيدر. وبين بقاعيين، أعيان وأشباه أعيان، وفدوا إلى الحزب، كان عبدالله سكرية من الفاكهة في البقاع الشمالي، وحسين دلول من شمسطار، وما لبث أن سلك طريقهم حسين عثمان الذي رأس لاحقاً المجلس البلدي في مدينته بعلبك، وألبير منصور المولود في 1939، والذي مارس التعليم الجامعي والوظيفة قبل أن يغدو نائباً ووزيراً، وهو من جهة الأم حفيد لفارس غنام، أحد وجهاء بلدته رأس بعلبك وجوارها.

ولم تنقص البعثيين الصداقاتُ المتينة مع طامحين سياسيين جاؤوا من خلفيات طبقية مشابهة، كأحمد سويد في حاصبيا، وخالد صاغية في عكار، وشكيب جابر في عاليه. ولئن كان الثلاثة محامين، فإن نقيب المحامين التاريخي في الشمال، شوقي الدندشي، الصادر عن منطقة حدودية في عكار، رعى البعث هو الآخر.

وليس من المبالغة القول، في نظرة إجمالية، أن الحزب العفلقي امتلك، حتى مطالع الستينات، ما يشبه الطاقم الحديث مهنياً والمرشح مبدئياً أن يكون بديلاً عن الطاقم الحاكم، وكان في عداده الكثيرون من أبناء العائلات السياسية المقصية عن السلطة، ومن الأشخاص في العائلات المتربعة في السلطة أو الزعامة.

وكما في حالات الخليل وحيدر والفرزلي ومجدلاني وسواها، ظهر الحزب بين عشائر البقاع، حيث انتسب إليه ابنا العم مفلح ومفضل علو، وهما نجلا وجيهين يحلان في المرتبة الثانية بعد وجيه العائلة الأول حسين محمد علو. والشيء نفسه يقال عن الخيام، حيث انتسب محمد العبدالله، نجل المفتي، وهو حفيد الزعيم السياسي لعائلته قبل أن يبدد نجله ووالد محمد، المنصرف إلى الدين والإفتاء، هذه الزعامة التي استقرت في بيت آخر من بيوت آل العبدالله.

ويُلاحَظ في نمو البعث أمر آخر. فالأفراد الذين انتموا إليه يشملون بعضاً من الصادرين عن عائلات تعددت مراكز إقامتها، كعائلات حيدر والأمين والزين والفرزلي وقزي. وربما في شَبَهٍ ما مع تجربة آل الأشقر المتنيين و «الحزب السوري القومي الاجتماعي»، تراءى لهؤلاء، على نحو غير واع بالضرورة، أن الحزب إنما يوحد أطراف العائلة المشتتة السكن ويمكنها كقوة سياسية.

أما أيديولوجياً، ففي هذه البيئات جميعاً وعلى أطرافها، زود البعثيون المحافظين المناهضين للشيوعية مادةً سجالية «تقدمية» بات المحافظون في أمس الحاجة إليها. فالشيوعيون، المطعونون أصلاً في عدائهم لإسرائيل، ما لبثوا أن انتهكوا المحرم الثاني حين عارضوا وحدة 1958 المصرية – السورية، ثم تحالفوا مع عبدالكريم قاسم في العراق، خصم عبدالناصر وعموم القوميين العرب.

عبدالمجيد الرافعي

عهدذاك، في أواخر الخمسينات، كان التحالف مع الناصرية يُغني عن قاعدة جماهيرية اقتصرت على آلاف قليلة بدت كافية لأن تفيض عن قدرة الحزب على التأطير. وهؤلاء استمدوا تثقيفَهم البسيط من كتب عفلق ومن صحيفتين عابرتين حملتا اسمي «صوت الطليعة» و «الأمان»، قبل أن يصدر البعث في 1958 صحيفة أسبوعية سمّاها «الصحافة»، كان مجدلاني وشميطلي صاحبي امتيازها، وصقر رئيس تحريرها. وقد درجت «الصحافة» على تعريف نفسها، على جاري اللغة المستعارة من القاموس الشيوعي، بأنها «جريدة الطليعة العربية».

وبالفعل شارك الحزب في سائر النشاطات السياسية والعنفية في الخمسينات بوصفه جزءاً لا يتجزأ من الكتلة الناصرية العريضة. فبالصفة هذه تظاهر أفراده ضد حلف بغداد ومشروع آيزنهاور، وبالصفة ذاتها سقط لهم جلال نشوئي في طرابلس في مواجهات 1958.

وعموماً، عج الحزب بوجوه شابة ومتعلمة وطامحة تبوأت زعامته ولم يَفد أيٌّ منها تقريباً من شرائح الهرم الاجتماعي الدنيا. وبين هؤلاء الشبان حظي عبدالمجيد الرافعي بوضع مميز. فهو طبيب إنساني يقدم الخدمات لفقراء الأحياء الشعبية، وسليل عائلة دينية وثقافية في مدينة طرابلس التي كانت تغلي ضد كميل شمعون وعهده، رافعةً عالياً رايات العروبة واسم جمال عبدالناصر. فوق هذا، أوحت زعامة آل كرامي، وهو إيحاءٌ لا يلبث في الوهلة الثانية أن يبدو مضلِّلاً، أن عِتقها آيلٌ بها إلى موت وشيك، ما شجع الطامحين على التجرؤ عليها.

وقد رشح البعثيون الرافعي لانتخابات 1957، فعاد بنتيجة متواضعة، إلا أنه في انتخابات 1960، ولم يكن الخلاف مع عبدالناصر قد ظهر إلى العلن، هدد بخرق لائحة رشيد كرامي في سابقة طرابلسية. وقد تردد يومذاك أن الطبيب البعثي فاز بالنيابة فعلاً، كما هنأه محافظ الشمال بفوزه، إلا أن تدخل «المكتب الثاني» لدى فرز الأصوات أدى إلى إسقاطه.

بيد أن المنافع التي درها على البعثيين تحالفهم مع عبدالناصر ما لبثت أن انقلبت أكلافاً باهظة بسبب الخلاف بين زعيم العروبة الذي كان يحكم سورية إبان الوحدة في 1958 – 1961 وحزب العروبة في دمشق.

وثمة أساس صلب للجدل بأن النزاع مع الزعيم المصري بدأ يحد من النمو البعثي بين السنّة فيما يوسعه بين الشيعة، الأمر الذي أحل جعفرية صور محل مقاصد صيدا، مؤدياً في منتصف الستينات إلى رجحان الوزن الشيعي في الحزب على ذاك السنّي.

أما على جبهة أخرى، فكان للخلاف مع عبدالناصر أن فتح الباب لبعض شبان البعث كي يُبدوا تأثرهم بخلائط انتقائية من الأفكار الماركسية واللينينية. وهذا ما سبق أن مهدت له مقدمتان سوريتان: ذاك أن خروج جلال السيد «الرجعي» والمعتد بـ «القبيلة العربية» من الحزب، وحلول أكرم الحوراني «الاشتراكي» والزعيم الفلاحي محله، أطلق تعاطفاً غامضاً مع يساريةٍ كان الحزب يكتفي بزعمها لفظياً. ثم وجه انفصال 1961 السوري عن دولة الوحدة ضربة للصوفية القومية والوحدوية الفقيرة، فتسلل إلى خطاب «الأمة الواحدة» البعثي تركيب وتعقيد نسبيان تستوقفهما طبيعة النظام وانحيازات السلطة وتضارب المصالح.

وبالفعل أصدر البعث اللبناني في 1961 نشرة سمّاها «الاشتراكي»، كما تعاظم اهتمامه بالمسائل المطلبية لقطاعات اجتماعية تقيم في النصف الأدنى من الهرم الاجتماعي. لكنْ في ذاك العام نفسه، ووفق «إحصاءات جزئية» جمعها «مكتب العمل القُطْري بالاســـتناد إلى تقارير مكاتب العمل»، تبين أن الطلاب لا يزالون أكثر من نصف أعضاء الحزب. ولئن شــكل «العمال» ما بين الربع والـــثلث، بقي أن تعـــبير «عمال»، في استخدامه البعثي، شمل المستخدمين في المحال التجارية والأُجراء في المكاتب.

تحدي الناصرية والشهابية وتفجر الطبقات والطوائف داخل الجسم الواحد

بعد أن تناولت حلقة الأمس البدايات الأولى في دمشق والجامعة الأميركية ببيروت ومقاصد صيدا، هنا التتمة:

منذ فجر الستينات، راح يحتدم التنافس القائم أصلاً بين البعثيين و «حركة القوميين العرب» ويتحول إلى عداوة، تبعاً لالتحام الحركة بالناصرية وابتعاد البعث عنها. والحال أن التنظيمين العروبيين، اللذين تجمع بينهما الدعوة القومية والوحدوية، اختلفا في أمور أخرى. فبفعل النشأة، كان طريق البعث إلى العروبة سورياً، وبالتالي كانت حساسيته الأولى سورية، فيما، وبفعل النشأة أيضاً، كان طريق الحركة وحساسيتها فلسطينيين. وقد عرف البعث من بداياته، إلى سُنّته والقلائل من مسيحييه، حضوراً شيعياً لم يقل مرةً عن الحضور السنّي، قبل أن يبزه لاحقاً. كما وُجد في المناطق الحدودية المحاذية لسورية، كالهرمل وعكار وشبعا، لا سيما بعد «ثورة» 1958 التي متنت صلات تلك المناطق بمدينة حمص على حساب الصلة الهشة حتى ذلك التاريخ بالمركز البيروتي.

أما «الحركة» فطغى عليها الوجود السنّي، البيروتي والطرابلسي والصيداوي، وإن أحدثت اختراقات شيعية في صور خصوصاً، وفي باقي الجنوب، بفعل تأثير الموضوع الفلسطيني هناك.

ثم إن البعثيين كانوا، طبقياً واجتماعياً، أعلى كعباً من الحركيين، وأوثق صلة بمؤسسات التعليم الأجنبي كما ببيوت القرار السياسي. وهم، إلى ذلك، بدوا أقل تشدداً في إسلامهم وفي الالتزام الأخلاقي والسلوكي الذي يُفترض أن يترتب عليه. وأخيراً، لم يشارك البعثيون الحركيين، القائلين بالدم والحديد والنار والثأر، إعجابهم بالقوة والعسكرة المستوحى، ولو عبر ترجمات متعثرة، من النماذج الفاشية، مفضلين التشديد على «اشتراكيتهم العربية».

وفي التنازع هذا حاول بعض رموز الحركة، كمحمد الزيات في صور، وبدرجة أقل مصطفى الصيداوي في طرابلس، أن يقدموا لـ «الشارع المسلم» قيادات بديلة عن القيادات البعثية، كالرافعي في طرابلس، أو القريبة من البعث كجعفر شرف الدين في صور.

غير أن الحركة لم تكن مؤهلة، بفعل الشروط اللبنانية، لاستثمار الضربات التي كالتها الناصرية للبعث، إذ عزلته وحولت البعثيين طائفةً صغيرةً مسدودة الآفاق، لا سيما أن البيئة المسيحية التي شاركوا في قتالها عام 1958، واستمروا يصمونها بالانعزالية، كانت موصدة تماماً في وجوههم.

وفي الغيتو هذا، وتحت وطأة الشعور بالإهانة والإلغاء، تعاظم العداء لعبدالناصر واحتقن، فكان لافتاً أن ينجذب بعض البعثيين ومعظم قادتهم إلى أطروحات أكرم الحوراني الذي انشق عن البعث وأيد بحماسة الانفصال السوري عن مصر وصار من أقطابه. هكذا، وبالتضامن مع خلافات تنظيمية ومطالبات بتوسيع صلاحيات القيادة القُطرية حيال القيادة القومية، عرف البعث اللبناني، بعد المؤتمر القومي الخامس أواسط 1962، والذي انعقد في مدينة حمص، انشقاقه الأول أو زلزاله الأول، بحيث حل عفلق «قيادة قُطر لبنان» مُبعداً «المتآمرين» عن الجسم الحزبي.

فعلى الضد مما كان يحصل في البلدان العربية، حيث راح ينشق «ناصريو» البعث عنه، ارتبط الانشقاق في لبنان بتوكيد أولوية الديموقراطية على الوحدة العربية، والتحفظ عن عبدالناصر وطرقه الديكتاتورية في الحكم. وكان من قادة الخط هذا غسان وطلال شرارة وغالب ياغي وعبدالوهاب شميطلي وفؤاد ذبيان وحسيب عبدالجواد وألبير منصور وفؤاد شبقلو وحسين عثمان. وكان للخط هذا أن خاطب مَن هم أوثق صلة بالقواعد، وأقل انشداداً إلى الصالون البيروتي، كالقيادي النقابي علي حوماني، رئيس نقابة عمال المرفأ، وخليل بركات، رئيس بلدية كفر دونين الجنوبية، وإن عاد أدراجه لاحقاً إلى البعث، مثله في ذلك مثل حسين عثمان.

ضد عبدالناصر

والحال أن صورة التعارض تزداد وضوحاً لدى مقارنة الوجهة التي اختطها البعث اللبناني بوجهة البعثين الأردني والعراقي اللذين انشق وطُرد قائداهما المنحازان إلى الرئيس المصري، عبدالله الريماوي وفؤاد الركابي. ولم يكن بلا دلالة أن البعثيين العرب المتحولين إلى الناصرية، بمن فيهم السوريون الذين أنشأوا «حركة الوحدويين الاشتراكيين»، لم يتركوا أثراً ملحوظاً على رفاقهم اللبنانيين يتعدى انشقاق مَن لم يتجاوزوا عدد أصابع اليد الواحدة، وقف على رأسهم سامي الرفاعي، شقيق نائب بعلبك السنّي حسن الرفاعي.

أكثر من هذا، سجل المؤتمر القومي الخامس صراع الخط الأردني، ذي الغلبة الفلسطينية، المُطالب بإعادة الوحدة مع مصر فوراً، والخط اللبناني المتشدد حيال عبدالناصر والرافض التعاون معه، فيما وقف عفلق بين الخطين لا يؤيده من أصل أحد عشر مندوباً لبنانياً حضروا المؤتمر سوى علي جابر وجبران مجدلاني.

وأغلب الظن أن ما حكم وجهة البعث اللبناني كان تضافراً بين عاملين، أحدهما موقع «الحرية» من الثقافة السياسية اللبنانية عموماً، والذي تعزز في أجواء الصدام مع الدولة الشهابية وأجهزتها، والثاني توسع الحضور الشيعي في الحزب، والذي أوصل البعث إلى بعض النقابات وضاعف حضوره في أطراف جنوبية وبقاعية كان الشيوعيون يحتكرون محاولات تسييسها.

لكنْ، إذا كانت ناصرية البعث حتى أواخر الخمسينات مصدر الاحتضان السنّي له، فقد اختلفت المؤثرات العميقة، العاطفية أو المصلحية، عند الشيعة. ففي بعلبك والبقاع كان بادياً أثر الجوار مع سورية، وهو متعدد الوجه يسنده ماضٍ «وحدوي» قريب. أما في الجنوب، فخاطبت سورية الحزب العفلقي إحساس جبل عامل بأن جبل لبنان همشه في «لبنان الكبير». إلا أن تلك السورية كانت أيضاً تستحضر دمشقيةَ الارتباط الشعوري بفيصل الأول، بوصفه ابن أهل البيت، هو الذي دغدغت دولته العربية السريعة الزوال مشاعر التحفظ الصلب عن لبنان. ولئن كانت «العصابات» الجنوبية علامة على متانة الصلة هذه، فإن عائلات جنوبية كثيرة رحلت مع فيصل وانتهى بها المطاف إلى الاستقرار في الأردن، في ظل شقيقه عبدالله، الأمير ثم الملك. ولما كان البعث «تمرداً على الحدود»، فإنه تراءى دواءً يسكن الجرح النرجسي للشيعة، إن لم يعالجه كلياً.

أما في وقت لاحق، فكان لإقامة أحد أبرز مراجعهم الدينية، اللبناني والجنوبي محسن الأمين، في العاصمة السورية، وعلى مقربة من مقام السيدة زينب، أن عزز تلك المشاعر. ولأن الأمين حرم اللطم في عاشوراء، واستحق بفعله هذا عداء المؤسسة الشيعية الإيرانية، الموغلة في المحافظة، بدا سهلاً أن يعاد تأويله داعيةً عروبياً وتقدمياً في وقت واحد.

ولئن لم تملك الناصرية أصولاً حميمة كهذه، هي المصرية البعيدة والسنّية «الأُخرى»، فإن الشيوعية كانت لا تزال تئن تحت وطأة إعاقاتها. فلقد وسعها أن تناشد من هم أفقر وأكثر استبعاداً، لكنْ بدا من الصعب أن تلــبي التطلب الثقافي والروحي لأُسَر تعــــتد بموقع نافذ لها في السياسة أو الثقافة والدين أو في العدد والمكانة. وإلى ذلك فالموقفان الـــسالبان للشيوعيين، من تقسيم فلسطين في 1947 ثم من وحدة 1958، رتبا سلــــفاً على معتنق الشيوعية دَيناً ليس المقبل على السياسة مضطراً إلى استدانته.

ولم تتردد القيادة العفلقية في «اتهام» المنشقين والمطرودين بعد المؤتمر القومي الخامس بالماركسية، مركزةً بصورة خاصة على غالب ياغي وغسان شرارة وعبدالوهاب شميطلي، فضلاً عن الروائي اللاحق، السعودي – العراقي، عبدالرحمن منيف. أما الأخيرون الذين استدرجت بعضَهم الجاذبيةُ الشعبية للحوراني، فأخذوا على عفلق ما اعتبروه ميولاً تسووية وانتهازية، كما لم يغفروا له حل الحزب في سورية كرمى للوحدة مع مصر الناصرية.

وعلى مستوى القواعد، بدأت تتردد تعابير تتصل بـ «الصراع الطبقي» ومتفرعاته مُطبَقةً على البعث نفسه، فشاع هجاء «التقليديين» و «الرجعيين» و «الانتهازيين» الذين لا ينوون إلا بلوغ البرلمان على جسر الحزب، أو على جثته. وانتشر استهجان مشوب بالسخرية الريفية حيال بيوت القادة الحزبيين الأغنياء، بل قصور قلة منهم في بيروت.

8 آذار والسنوات السود

لئن أدى انقلاب 8 آذار (مارس) 1963 البعثي في سورية، بعد شهر على انقلاب مشابه في العراق، إلى انفراج نسبي في وضع البعث اللبناني، فإن انشقاقات صغرى تلاحقت بنتيجة الموقف من الانفصال السوري، ثم بسبب تناقضات السلطة البعثية الجديدة في دمشق. فكان للأطروحات اليسارية التي حملها المؤتمر القومي السادس، أواخر 1963، والمعروفة بـ «المنطلقات النظرية»، أن استقطبت شباناً انحازوا إلى علي صالح السعدي في بغداد ضداً على «اليمين العفلقي»، كما تأثروا بأفكار ياسين الحافظ الذي كتب «المنطلقات» وأحل «الاشتراكية العلمية» الماركسية محل «الاشتراكية العربية» لعفلق. وعقد هؤلاء مؤتمراً قُطرياً في شباط (فبراير) 1964، لكن القيادة القومية التي لم تُقر بشرعية المؤتمر المذكور، عينت، للمرة الثانية في أقل من عامين، قيادة قطرية بديلة تشارك في التحضير للمؤتمر القومي السابع. وإذ كُلف المحامي البعثي والبيروتي محمد خير الدويري أمانة سر القيادة البديلة، خرج عن الجسم الحزبي رياض رعد وهشام عبدو والمهندس والوزير اللاحق الفضل شلق، لينتهي بهم المطاف، بعد سنتين، في «حزب العمال الثوري الاشتراكي العربي». والأخير، الذي لا يندرج إلا تجاوزاً في «اليسار الجديد»، بسبب حقبة الولادة المشتركة وكونه خارج الشيوعية الرسمية، كان بالغ الإيجابية حيال عبدالناصر الذي تحفظ عنه، أو عاداه، معظم المتمركسين من خارج الحزب الشيوعي. وأغلب الظن أن العامل هذا هو ما جعله يخاطب بين البعثيين عناصر يغلب سنّتهم، كالكوراني شلق والطرابلسي عبدو، على شيعتهم.

بيد أن ضبط البعث بات مهمة تفوق قدرات الدويري وكفاءاته. فهو، أصلاً، أحد المتَهمين باليمينية وتوسل الحزب للوصول إلى البرلمان. ثم إن المؤتمر السابع الذي أريد منه الرد على المؤتمر السادس ويساريته، جاء مثقلاً بالهم العراقي تبعاً لانقلاب أواخر 1963 الذي قاده عبدالسلام عارف وبموجبه أزيح البعث عن السلطة.

وفي استغراقه العراقي لم يكترث المؤتمر الذي انعقد في «المسرح العسكري» بدمشق بهموم التنظيم اللبناني فتُرك لتصدعاته وانشقاقاته. هكذا، غادره عدد من الشبان الباحثين عما يملأ «فراغ البعث النظري» في هذا الطرح الماركسي أو ذاك. وفي عداد المغادرين كان مدرسون كالشاعر عصام العبدالله من الخيام، ومثقفون كالجامعي والكاتب اللاحق فواز طرابلسي، من مشغرة، الذي ساهم بعد ذاك في تأسيس مجموعة «لبنان الاشتراكي»، ثم أكمل طريقه في قيادة «منظمة العمل الشيوعي».

أبعد من هذا أن الانفراج الجزئي الذي نجم عن انقلاب 1963 السوري لم يعمر طويلاً. ذاك أن الصراع الناصري – البعثي ما لبث أن تجدد بحدة غير مسبوقة، خصوصاً مع انهيار مشروع «الاتحاد الثلاثي»، المصري – السوري – العراقي، وتصفية البعثيين الدموية للمحاولة الانقلابية التي قادها الضابط الناصري جاسم علوان صيف 1963. وأمام حائط التحالف الناصري – الشهابي، معطوفاً على عزلة البعث الجماهيرية، استنكف الرافعي عن الترشح لانتخابات 1964، ووقف بعثيو صيدا في صف المعارضة الشمعونية والسلامية فأيدوا نزيه البزري بدل معروف سعد، ما بدا مستهجَناً جداً في حزب عروبي.

جلال مرهج وجلال كعوش

وانشغل البعث اللبناني، بين 1963 و1964، بما عُرف يومذاك بـ «قضية جلال مرهج». ففي بيروت ألقي القبض على هذا الضابط السوري بتهمة نقل متفجرات للسياسي الشمعوني والشوفي قحطان حمادة هدفها «القيام بأعمال تخريبية» في لبنان. ولما كانت محاولة الانقلاب القومي السوري لا تزال طرية في الأذهان، وكان السفير المصري عبدالحميد غالب الرجل الأقوى في بيروت، ارتسمت صورة عجيبة عن حلف يجمع النظام البعثي في دمشق إلى كميل شمعون و «الانعزالية المسيحية»، هدفه مقاومة النفوذ الناصري والعهد الشهابي معاً. وما زاد في صعوبات الحزب، وقد أضيف إليها استهداف الأجهزة الشهابية المركز، صلاته بما أصبح لاحقاً حركة «فــــتح». ففي 1965 تلاقت مصالح البعث في سورية ومصالح الفتحاويين الأوائل عند صد النفوذ الناصري وتحالفه مع الشهابية، ووجـــــد التلاقي تعبيره في ازدواج الولاء لفتح وللبعث عند قياديين فتحاويين كفاروق القدومي وعبد المحسن أبو ميزر وكمال ناصر، لكنْ خصوصاً عند خالد يشرطي، القيادي الناشط والمقيم في بيروت. وقدم البعـــثيون الشابَ الفلسطــــيني – اللبناني جلال كعوش الذي حاول تنفيذ إحدى العمليات الفدائية المبـــــكرة، ثم قضى مطالع 1966 في ســـجن لبناني، بوصفه مناضلاً وشهيداً بعثياً أردته «السلطة الرجعية» في بيروت.

وإذ انهار علي جابر في إحدى جلسات محاكمة الضابط جلال مرهج، وعُدّ متخاذلاً وانهزامياً، بدأ جيل جديد، أمتن في جذوره الريفية، يتقدم إلى الواجهة القيادية للبعث، وكان من رموزه الجنوبيان عبد الأمير عباس والمدرس محمد عواضة، والبقاعيان عاصم قانصوه، المهندس الذي تخرج في رومانيا، وسهيل سكرية، المحامي وابن قرية الفاكهة الذي تخرج في جامعة بيروت العربية، والطرابلسي عبدالله الشهال. ولئن كان الأخير ابن تاجر أدوية متوسط الحال وصهراً لعبدالمجيد الرافعي، فسكرية ابن مختار قريته، وقانصوه نجل مغترب.

وفي تلك الغضون كان البعثيون يعتمدون صحيفتي «الكفاح» اليومية و «الأحد» الأسبوعية لصاحبهما النقيب رياض طه منبرين لهم. لكنهم أنشأوا جريدة «الأحرار» اليومية، في آذار 1964، والتي عاشت حتى أيار (مايو) 1967، بوصفها صوتاً حزبياً يستأنف ما كانته «الصحافة» الأسبوعية، فتولى رئاسة تحريرها الصحافي جان عبيد، الموصوف حينذاك بالقرب من البعث، والذي بات لاحقاً نائباً ووزيراً، والصحافي ذو الأصول السورية والشيوعية رفيق خوري، وكلٌ من الياس الفرزلي وسليمان الفرزلي ورغيد الصلح.

Vغير أن الضربة القاصمة للبعث اللبناني، كما للبعث في كل مكان، كانت ما حل إثر انقلاب 23 شباط 1966 في سورية، حيث أقصى «اليسارُ» العسكري للقيادة القُطرية «اليمينَ» المدني للقيادة القومية. وهنا أيضاً لم يُعدم الانشقاق دلالات اجتماعية أعرض: فأغلب السنّة والمسيحيين والَوا قيادة عفلق «القومية»، يصح هذا في الرافعي ومجدلاني والفرزلي والعلي وكرم والداعوق، فيما والَت غالبية الشيعة، لا سيما الجنوبيين منهم، خط صلاح جديد «القطري»، وهو ما ينطبق على الأمين وقانصوه وعواضة وعباس. ثم إن الأكثرية كانت مدينية في جبهة «القوميين»، معظم أفرادها من أوائل البعثيين، بينما غلبت على «القُطريين» أكثرية ريفية يقل متوسطُ أعمارها سنواتٍ قلـــــيلة عن متوسط أعمار الجـــبهة الأولى. وبشــيء من الترميز يصح الـــكلام، عند المنـــعطف هذا، عن إتمام الطلاق بين بعث الجامعة الأميركية في بيروت وبعث المدارس والمعلمين في الأطراف.

وبالفعل نبذ «القُطريون» كتابات عفلق وتوقفوا عن استظهار محفوظاته، معتمدين برنامج تثقيف ماركسياً ولينينياً، ضم إلى «البيان الشيوعي» ومدرسيات الماديتين الجدلية والتاريخية «منطلقات» ياسين الحافظ. وبدا واضحاً، في المقابل، أن أجواء التطرف السوري، بعد 23 شباط، لن توفر أية فرصة لطموح طامحي البعث اللبناني الكثيرين ممن سارعوا إلى إصدار بيان يدين الانقلاب «القُطري».

وفي الوضع المستجد هذا مضى الفرعان، اللذان صارا حزبين، ينتجان كوادر قيادية جديدة، فبرز بين «القطريين» عبدالله الأمين، قريب مالك، والمدرس المتفرع من أب متوسط الحال عمل موظفاً في المحاكم الجعفرية، كما ظهر قياديون يعيش بعضهم في بيئة الهجرة الجنوبية إلى النبعة وبرج حمود، كالحِرَفيين علي نادي وإبراهيم عيسى من بنت جبيل، أو المدرس أمين سعد، وهو أيضاً من بنت جبيل، تطوع في منظمة «الصاعقة» وحمل اسم «الأخضر العربي»، وباسمه هذا قضى في العرقوب في إحدى المواجهات مع إسرائيل.

أما بين «القوميين» فظهرت أسماء الباحث والكاتب اللاحق رغيد الصلح، والناشطين معن بشور وهاني سليمان حيدر، والنائب والوزير في التسعينات بشارة مرهج، والناشر اللاحق عماد شبارو، ومنصور حريق، والشاعر موسى شعيب، وأكثرهم باشروا الشأن العام بوصفهم قيادات طالبية في الجامعة الأميركية ببيروت.

لكن كلاً من البعثين راحت تواجهه أوضاع شديدة التغير والدرامية. ففي 1970، انقلب حافظ الأسد على رفاقه «القُطريين» الموصوفين بالتطرف اليساري، فانشطر مؤيدو دمشق اللبنانيون بين من التحقوا بالأسد، وعلى رأسهم قانصوه والشهال وعبدالله الأمين، والذين تمسكوا بولائهم للجناح الذي أطيح، يتقدمهم مالك الأمين وبيضون وعواضة، ممن عُرفوا بـ «جماعة الراية»، تبعاً للمجلة التي كان يصدرها التنظيم ويرأس المحامي والصحافي فضل الأمين تحريرها، والتي استمر اليساريون يصدرونها إلى حين.

أما أنصار «القيادة القومية» الذين أنعشهم الانقلاب البعثي العفلقي الثاني في العراق عام 1968، كاسراً من حولهم الحصار المزدوج السوري والناصري، فرشحوا للانتخابات النيابية عامذاك كلاً من الرافعي في طرابلس ومحمد حرب في بعلبك. بيد أنهم نجحوا ابتداءً بـ1970 في أن يستثمروا رغبة رئيس الجمهورية سليمان فرنجية في توسيع علاقاته العربية. ذاك أن الأخير سعى إلى الجمع بين صداقة حافظ الأسد والتمايز النسبي عن سياساته العربية، بالاتكاء على صلات جيدة ببغداد. كذلك عول فرنجية على العراق غطاءً عربياً لنهجه المناهض لمنظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، المستظلة يومذاك بتشجيع سوري. وكان للفترة تلك أن سجلت فتوراً فلسطينياً – عراقياً بسبب امتناع القوات العراقية في الأردن عن إنجاد المقاومة الفلسطينية في مواجهات أيلول (سبـتمبر) 1970 مع الجيش الأردني.

وعبر وسطاء كتقي الدين الصلح وجان عبيد، وبالإفادة من رغبة فرنجية في تحجيم النفوذ الشمالي لرشيد كرامي، اصطحب الرافعي على لائحته في انتخابات 1972 مرشحاً مسيحياً مُزكى من فرنجية، هو غبريال خلاط، كما حصد غالبية أصوات المسيحيين ودخل الندوة النيابية بأرقام تفوق ما أحرزه كرامي. هكذا بات للبعث، وللمرة الأولى في لبـــنان، عضو في البرلمان.

وفي الانتخابات نفسها رشح البعثيون «القوميون» حسين عثمان في بعلبك، متحالفاً مع الشيوعي زكريا رعد، كما رشحوا موسى شعيب عن النبطية، ثم أعادوا الكرة في الانتخابات الفرعية عام 1974، لكنه جاء ثالثاً بعيداً، بعد مرشح الإمام موسى الصدر الذي فاز ومرشحَي كامل الأسعد والحزب الشيوعي اللبناني.

أما البعثيون الموالون لدمشق فسلكوا هم أيضاً طريقاً مشابهاً، فتمكنوا من ترشيح المحامي محمد زكريا عيتاني على لائحة عبدالله اليافي، منافس صائب سلام، في دائرة بيروت الثالثة، داعمين لائحة خالد صاغية في عكار ومعركة محمود طبو في المنية – الضنية.

ولم يتردد بعث «الراية»، على رغم صعوباته الكثيرة، في ترشيح أحد كوادره، المدرس علي يوسف، في بنت جبيل، حيث حصد ما يفوق الألف صوت.

النهايات السود بين اجتثاث مَن لا يرحم واستصغار مَن لا يحتاج

بعد أن تناولت حلقة الأمس تحدي الناصرية والشهابية وتفجر الطبقات والطوائف داخل الجسم الواحد، هنا التتمة الأخيرة:

في موازاة ذلك التمرين العارض على الديموقراطية اللبنانية في 1972، كان المرجل يغلي على نطاق وطني، فشارك البعث بأطرافه جميعاً في مناسبات دعم المقاومة الفلسطينية ضد الجيش، لا سيما مع وجود جبهتين بعثيتين هما «الصاعقة»، الأكثر افتعالاً للتوتر انطلاقاً من موقعها في العرقوب، و «جبهة التحرير العربية» التي نشأت في 1969 كمقابل لـ «الصاعقة»، تأتمر بأمر «القيادة القومية» في بغداد. كذلك شارك البعث في «انتفاضة مزارعي التبغ» في الجنوب، ونشط «القُطريون»، أكانوا من أنصار الأسد أو من أنصار جديد، في دعم «ثورة فلاحي سهل عكار».

ولم تكن دمشق حينذاك، وفي ضوء ما بينت التجارب اللاحقة، تقتصد في العمل على إضعاف قبضة السلطة المركزية اللبنانية وإظهار هشاشة سيطرتها، لا سيما على مناطق الأطراف. وفي سعيها إلى تجميع أوراق الضغط على بيروت، ألجأت الضباط الشهابيين إليها إثر وصول سليمان فرنجية إلى الرئاسة، ثم ألجأت عشرات من أفراد عائلة البعريني في فنيدق بعكار بعد تصفيات دموية متبادلة بينهم وبين عائلة علي ديب المؤيدة زعيمَ عكار التقليدي سليمان العلي.

لكن الحضور السوري في المنظمات الفلسطينية المسلحة، خصوصاً «الصاعقة»، هو ما وفر الأداة التي تفوق المسائل المطلبية والاجتماعية قدرةً على اعتصار السلطة المركزية اللبنانية والضغط عليها.

غير أن السنوات الممهدة لاندلاع الحرب في 1975، جعلت تبث عنصر الرعب في حياة «القوميين» الموالين للعراق، إذ شرع يُقلقهم تمدد اليد الأمنية السورية واستطالاتها، بدلالة اغتيال المعارض البعثي السوري ومؤسس «اللجنة العسكرية» محمد عمران في مدينة طرابلس عام 1972.

إلا أن هذا لم يحل دون استمرار المنافسة بين «بعث العراق» و «بعث سورية» على استقطاب المحازبين، وهو ما عرفته مناطق عدة استخدم فيها البعث الأول المنح الدراسية في العراق وبعض البلدان الاشتراكية السابقة، فيما استخدم الثاني قرب سورية الجغرافي بما ينطوي عليه من ترغيب وترهيب في آن واحد.

لكنْ، قبيل اندلاع تلك الحرب، خصوصاً مع انتهائها في 1976، متّن بعثيو العراق موقعهم في «الحركة الوطنية اللبنانية»، مستفيدين من حاجة ياسر عرفات وكمال جنبلاط إلى موازنة النفوذ السوري بعلاقات جيدة مع بغداد. أما بعثيو سورية فكان طبيعياً أن يذهبوا في الاتجاه المعاكس، منضوين في «الجبهة القومية» التي ضمت «حركة أمل» و «اتحاد قوى الشعب العامل» وجناح «الطوارئ» الموالي لدمشق في «الحزب السوري القومي الاجتماعي». وإذ حل التصادم المفتوح بين سورية ومنظمة التحرير الفلسطينية المتحالفة مع جنبلاط، فر قادة «الجبهة القومية»، وفي عدادهم قادة البعث السوري، إلى دمشق. غير أنهم ما لبثوا أن عادوا، بعد فترة قصيرة، عودة المنتصرين المظفرين، تؤازرهم قوات «الردع العربية».

في المقابل، انتقل الرافعي إلى بغداد عام 1976، في ما بات لجوءه الأول، فلم يعد منها إلا في 1979، حين وُقع «ميثاق العمل القومي» السوري – العراقي المشترك في مواجهة مصر الساداتية ومعاهدة كامب ديفيد. إلا أن شهر العسل بين عاصمتي البعث لم يدم طويلاً، ما فتح الطريق لحروب صغرى بينهما، دموية وتآمرية لا تعرف الرحمة، في غير بلد وساحة.

أمن وانشقاقات وتصفيات

بعد «حرب السنتين»، وبنتيجة خلافات كثيرة تفاقمت بين جيل المؤسسين وجيل القادة الشبان، من مواليد أواسط الأربعينات، انشقت عن البعث «القومي» مجموعة كان في عدادها بشور ومرهج ورغيد الصلح. فهؤلاء ممن بدأوا يستخدمون لفظية أكثر يسارية، سبق أن تحفظوا عن انقلاب 1968 البعثي في بغداد، بذريعة أنه لم يكن «ثورة شعبية» سبق للحزب أن أقرها، ثم كرروا التحفظ عن عدم تدخل القوات العراقية في الأردن عام 1970 لنصرة المقاتلين الفلسطينيين، ليبلغ اعتراضهم أشده على إقصاء البعثي العراقي المنافس لصدام حسين، عبدالخالق السامرائي، واعتقاله في 1973، هو الذي أُعدم بعد ستة أعوام. وفي ما بعد آثرت المجموعة هذه، التي سمّت نفسها «اللجان والروابط الشعبية»، توليف خلطة مفيدة لها تضعها على مسافة واحدة من بغداد ودمشق ومنظمة التحرير الفلسطينية الناشطة حينذاك في بيروت. ولئن عُرفت «اللجان» بجرعة ترحّمٍ أكبر على كلٍّ من جمال عبدالناصر وميشيل عفلق، فإنها لم تتنكر لرفاقة أيٍّ من حافظ الأسد وصدام حسين.

وعلى الضفة الأخرى، ضمنت الرعاية السورية المباشرة التي لم يكف طابعها الأمني عن الاستفحال، استمرار وحدة «القُطريين» بعيداً من تأثيرات «جماعة الراية» التي سُحقت. ذاك أن مالك الأمين آثر، منذ انقلاب حافظ الأسد في 1970، العيش بعيداً في الجزائر ثم فرنسا، كما هاجر محمد عواضة، فيما خطفت المخابرات السورية محمود بيضون في مدينة طرابلس، وانتهى به الأمر لسنوات مديدة في سجونها.

ومنذ أوائل السبعينات كان «القُطريون» قد عثروا في صحيفة «الشرق» التي يملكها آل الكعكي على منبر لهم، بينما أسس «القوميون» صحيفة «بيروت» التي تولى محمد طي رئاسة تحريرها، قبل أن تنسف القوات السورية مقرها بُعيد دخولها إلى لبنان.

ومع الحرب كان الفرز قد اكتمل، فانتهت الوحدة الاسمية بين الحزبين: ذاك أن «البعث العربي الاشتراكي» بات يدل على «جماعة العراق» وحدها، فيما أصبحت «منظمة حزب البعث» ترمز إلى «جماعة سورية» حصراً.

بيد أن الدخول السوري في 1976، واقتلاع صحيفة «بيروت» كان فاتحة لاجتثاث البعث «القومي»، بعد اجتثاث البعث «اليساري» أو «جماعة الراية». وهي وجهة ما لبثت أن وجدت تعزيزها، بعد ثورة الخميني عام 1979، في الحضور المستجد لإيران وشبكاتها في بيروت.

والحال أنه منذ ما قبل الثورة الإيرانية كان التنافر واضحاً بين موقفي البعثين الحاكمين. ففي 1978 مثلاً أُبعد آية الله الخميني من العراق الذي لجأ إليه في 1964 مقيماً في النجف، بعد انتفاضته الأولى في 1963. وقد جاء قرار إبعاده نتيجة التوافق العراقي – الإيراني الذي أعقب معاهدة شاه إيران وصدام حسين، نائب الرئيس العراقي حينذاك، في الجزائر عام 1975. أما سورية، وعبر وساطة تولاها الإمام موسى الصدر، فقدمت تسهيلات لمعارضي الشاه عُرف منها، كمثل غير حصري، تأمين بطاقة لصادق قطب زاده، وزير خارجية الثورة الأول ثم أحد ضحاياها، بوصفه مراسلاً لجريدة «البعث» السورية في باريس.

ولم يكن خفياً أن الحرب الإيرانية – العراقية على مدى الثمانينات شكلت الحضن والكنف للمضي في الاجتثاث. فابتداءً بـ1980 تولت «حركة أمل»، لا سيما الجيوب الإسلامية فيها التي جهرت لاحقاً بانتسابها إلى «حزب الله»، محاصرة البعث وتصفية «جبهة التحرير العربية»، ومن ثم إلغاءهما كقوتين سياسية وعسكرية. وفي العام نفسه اغتيل موسى شعيب بعد عودته من بغداد، حيث ألقى في حضرة صدام حسين قصيدة عُرفت بعنوانها «أسرج خيولك»، كانت مديحاً له وتشهيراً بالخميني. وعلى فترات متقطعة حصد الاغتيال قيادات «قومية» كان منها المحامي تحسين الأطرش والدكتور عدنان سنو.

أما العام 1981 تحديداً فشهد حدثاً هيولياً لا يقل عن تفجير السفارة العراقية في بيروت التي أزيلت تماماً من الوجود، مثلها مثل «جبهة التحرير العربية»، وقد عُد التفجير ذاك واحداً من الأعمال المنسوبة إلى القيادي اللاحق في «حزب الله»، عماد مغنية. وإذ اعتقلت الأجهزة السورية عشرات البعثيين «القوميين» ممن ساقتهم إلى أقبيتها، انتقل آخرون من قيادييهم للعيش في المناطق المسيحية في تكرار موسع للاستقواء بالمسيحيين في الستينات، إبان مواجهة الحلف الناصري – الشهابي. وهاجر الرافعي، في 1983، للمرة الثانية إلى أوروبا، ومنها إلى بغداد التي استقر فيها عام 1990، ومثله فعل رفيقه العكاري خالد العلي. وهناك في بغداد بقي القيادي الطرابلسي حتى إسقاط القوات الأميركية صدام حسين عام 2003.

أما الذين بقوا في لبنان من البعثيين «القوميين» فأقاموا، منذ الثمانينات، في المناطق الشرقية من بيروت، ضيوفاً على القوى المسيحية المناهضة لسورية ونفوذها، وهمزات وصل بين عراق صدام وكل من العونيين والقواتيين.

وفي الأحوال كافة، استمرت لسنوات وجهة القمع في أشكاله الكثيرة، فلم ينجُ منها قيادي البعث «القومي» وابن العاقورة، رفيق أبي يونس، على رغم انكفائه على المناطق الشرقية، إذ خُطف ولم يطلق سراحه من السجون السورية حتى 1997.

لكنْ، على عكس تعامل دمشق مع بعثييها الذين اعتبرتهم تحصيلاً حاصلاً، كوفئ البعثيون الموالون لبغداد بأشكال شتى، منها المكانة المرموقة التي حظي بها الرافعي في ملجئه، وتعيينها سفيرين لبنانيين للعراق من قدامى البعثيين، هما زيد حيدر وجهاد كرم، ما استفز بعض المشاعر الوطنية العراقية.

انتفاء الحاجة

وإذ أوشك البعث المؤيد لبغداد على الاندثار، فيما مُنح الترخيص الرسمي باسم «حزب البعث العربي الاشتراكي» لمؤيدي دمشق، واجه الأخيرون اجتثاثاً من نوع آخر. ذاك أن الحاجة انتفت، ما عدا في الشكليات، إلى تنظيم هزيل كتنظيمهم في ظل وجود سوري، عسكري وأمني، مباشر في لبنان، ناهيك عن وجود أحزاب موالية لدمشق أكفأ وأقوى بلا قياس من هذا الحزب. ولئن بات بعثيون يصلون إلى البرلمان على لوائح «حزب الله» و «حركة أمل»، فضلاً عن تمثيلهم في حكومات ما بعد اتفاق الطائف، فهذا ما لم تكن له أية دلالة أو أثر على واقع الحزب نفسه.

وأغلب الظن أن ما كان يملي أعمال التوزير علاقاتُ الموزَرين بالقيادات الأمنية السورية، فضلاً عن استخدام اسم البعث لدلالته الرمزية ولما قد تمنحه من شرعية مخترَعة في ظل فرض «عروبة لبنان» أيديولوجيةً رسميةً. أما المنافع والخدمات المنجزة عن التوزير فكان معظمها يعود على الوسط الأهلي والعائلي لأولئك الموزَرين أنفسهم.

ووراء هذه الهشاشة التي حولته جاليةً سورية أو عراقية في لبنان، جمع البعث اللبناني دائماً بين صفتين سالبتين لجهة الحضور والشعبية: فهو ليس ناطقاً باسم طائفة بعينها، وهو الافتقار الذي ضخمه توجه الطوائف كلها إلى امتلاك أحزابها الخالصة الصفاء. إلا أن البعث، على عكس الشيوعيين والقوميين السوريين بوصفهم أحزاباً «غير طائفية»، لم يملك أي برنامج لبناني فعلي ولا كان لديه همٌّ لبناني جدي.

ولما كان النظامان البعثيان في الجوار نظامين أمنيين قبل أي شيء آخر، فهذا ما حرم البعث اللبناني كل ادعاء استقلالي أو زعمٍ ذي صدقية أو جدارة.

فوق هذا، وعلى امتداد عقود من تاريخهم، لم يحتل البعثيون أي موقع يُذكر على خريطة إنتاج الكتب والمعارف أو في ميدان النشاط الثقافي، فبقيت القصائد المنبرية والحماسية القناة الأمتن في تسييس قاعدتهم وفي مخاطبتها. ولئن حاولت «دار الطليعة» التي يملكها بشير الداعوق، ومجلة «دراسات عربية» الصادرة عنها، أن تروجا فكراً بعثياً ما، فقد غلبهما على أمرهما فيضان الكتابات والترجمات الماركسية التي تظاهر البعثيون بحَضنها، فيما هم يتلصصون عليها مبهورين وحاسدين.

مصائر بائسة

لقد عاد عبدالمجيد الرافعي من العراق إلى لبنان في 2003 ليؤسس «حزب طليعة لبنان العربي الاشتراكي» امتداداً للحزب «القومي» الذي انتُزع منه ترخيص البعث واسمه. وبالفعل عقد الحزب القديم – الجديد مؤتمراً وانتخب قيادة له، لكن الوجه الطرابلسي الذي اختير على رأس هذه القيادة، كما ترشح لانتخابات 2005 النيابية، صار له من العمر 88 عاماً، وغدا من المستغرب الربط بينه، أو بين حزبه، وأية طليعة كانت. هذا فضلاً عن صعوبة العثور على رأي له، ولمن انضوى تحت مظلته، يتعدى الهجاء الخطابي لـ «العدوين» الأميركي و «الفارسي»، وهو هجاء منفعل بما حدث في العراق في 2003 وبعدها.

أما على المقلب الثاني، فمنذ 2005 تحول التنظيم التابع لدمشق جزءاً ثانوياً في تحالف 8 آذار، إلا أن الأخبار عنه باتت تقتصر على مناسبات إعلان الولاء للقائد والقيادة السوريين والتشهير بخصومهما اللبنانيين. ومع اندلاع الثورة السورية، تحول بعض بقايا البعثيين من «جماعة سورية»، ومعهم أفراد من «الحزب السوري القومي الاجتماعي» ومن المخابرات السورية، إلى «بلطجيين» و«شبيحة» يهددون المعتصمين اللبنانيين والسوريين المؤيدين للثورة ويعتدون عليهم.

ولا يزال الغموض يشوب طبيعة الحزب هذا، خصوصاً إذا ما حملنا على محمل الجد قانون الأحزاب الجـــديد في دمشق الذي يمنع أي حزب سوري من أن يكون له فرع خارجها، أو أن يتبع حزباً في الخارج.

وقبل أشهرٍ انفجر خلاف بين عاصم قانصوه وفايز شكر على من يكون الأمين العام للقيادة القطرية، إثر قرار للقيادة القومية في دمشق بإقالة شكر من الأمانة العامة وتعيين قيادة قطرية جديدة يرأسها معين غازي المقرب من قانصوه. لكن أياً من المعلقين والمراقبين اللبنانيين لم يُبد ما ينم عن اكتراث بالخلاف هذا، وعما إذا كانت وراءه أسباب وجيهة أو لم تكن. وفي هذه الغضون تطايرت اتهامات لشكر تطعن بشرعية انتخابه وتمثيله، قابلتها اتهامات لقانصوه مفادها أنه يربط الحزب ربطاً كلياً ومطلقاً بالأجهزة الأمنية السورية.

ولم يظهر، على مدى أعوام مديدة، ما يذكر بالبعث وتاريخه، وبأنه كان حزباً واحداً ذات مرة، سوى كتاب مشترك حمل عنواناً ستينياً هو «العروبة ولبنان»، صدر أخيراً عن «شركة الشرق الأوسط لتوزيع الصحف والمطبوعات»، وضم مقالات لنقولا الفرزلي ورغيد الصلح وعاصم قانصوه وواصف شرارة.

وعلى العموم، فإنه على رغم سيطرة الحزب لعقود على بلدين عربيين كبيرين، هما سورية والعراق، وعلى رغم التجاور اللبناني – السوري، لم يحظ البعث في لبنان باهتمام يُذكر. والمفارقة، هنا، أن هذا القرب من سورية والتأثر النسبي بالعراق كانا من أسباب تراجع الاكتراث به بدل أن يؤديا إلى العكس. فهما عملا، بالتضامن مع عناصر أخرى تم التطرق إليها، على رسمه مجرد جالية من الناطقين بلسان خارجٍ يحكمه الخوف وضعف الجاذبية على عموم اللبنانيين.

وإنما بالمعنى هذا، يبقى تناول هذا الحزب أغنى بدلالاته المحلية السلبية، من حيث هامشيته وانعدام تأثيره، مما بدلالاته البعثية الإيجابية التي تطاول مساهمته كجزء فاعل من تنظيم «قومي».

وفي مسيرتها الطويلة تلك، أنجبت هذه التجربة البائسة والمكلفة في وقت واحد كثيرين من الخاسرين، بالموت اغتيالاً أو بالموت المجاني، وبالسجن أو النفي أو الوقوع في العوز والفاقة، كما عرفت الكثيرين ممن خرّجهم البعث ليغدوا كوادر عليا في مؤسسات سياسية أو مهنية، أو ممن أثْروا أو صاروا زعماء أو وجهاء، إما عبر بغداد وريوعها النفطية أو في بيروت عبر نفوذ دمشق عليها ويدها الطولى فيها تقريباً وتبعيداً. أما البعث في هذا كله فكان ولا زال يحب المحسنين.

* فضلاً عن الذاكرة، ومواد مبعثرة في الإنترنت، كان أبرز ما اعتمدت عليه الأسطر أعلاه:

– كتاب مصطفى دندشلي «حزب البعث العربي الاشتراكي 1940 – 1963 – الأيديولوجيا والتاريخ السياسي، ج. 1»، 1979، لا ذكر للدار.

– كتاب مصطفى دندشلي «قراءات في الفكر القومي والماركسية والسياسة الدولية» (منتدى المعارف).

– كتاب «نضال البعث، ج. 11. القطر اللبناني 1961 – 1968. النضال من أجل وضع حزبي سليم ومن أجل لبنان وطني وديمقراطي» (دار الطليعة).

– تأسيس حزب البعث في لبنان لمعن بشور

– مجموعة مقابلات قصيرة أجراها كاتب هذه الأسطر في الثمانينات ونشرها في «الحياة» بين 19/8/1999 و20/9/1999 تحت عنوان «معرفة (بعض) لبنان طوائفَ وعائلاتٍ، مناطق وأحزاباً سياسية».

– معظم سنوات الولادة المذكورة لأفراد بعثيين مُستقى من جداول قيادات البعث كما يوردها حنا بطاطو في كتابه المرجعي «الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثورية في العراق».

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى