صفحات الناس

المقابر الجماعية في الرقة..تدني سقف المطالب في بيئة النظام/ عدنان نعوف

 

 

لم تعُدْ كلماتٌ مثل “بَيع” و”خيانة” تتردّد على ألسنة أهالي قتلى قوات النظام، الذين ذهبوا ضحية سيطرة تنظيم “داعش” على مطار الطبقة العسكري صيف 2014. ومع أن القناعة لا تزال قائمة بوجود “مُذنِب” باعَ جنوده أو تخلى عنهم في ذلك الحين، فإن أصواتت المطالبين بالمحاسبة باتت مكتومة أو يائسة، وكأنّ جمْرَ غضبهم راح يَغوص عميقاً تحت الرماد.  

هنا “رفاة جندي مجهول الهوية يبدو أنه ضخم.. طوله بين 185 الى 190”. وهناك “مُلازم عُثر في جيبه على مَرهم طبّي”. أجهزة خليوي وبقايا ثياب وخُوَذ وأحذية والقليل من البطاقات الشخصية. تغصّ الصفحات المهتمّة بالمفقودين السوريين في مواقع التواصل الاجتماعي، هذه الأيام، بوسائل تعرُّف من هذا النوع، تقابلُها معلومات يَضعُها ذوو القتلى عن أبنائهم، في محاولة لإيجاد رابط ما بين مفقودٍ وجثّة.

يأتي ذلك مع انتشار أخبار الكشف عن مقابر جماعيّة في محافظة الرقة، وهو ما لا يُعدُّ جديداً، وقد كان يَمرّ دون اهتمام أو ضوضاء، لكنّ الجديد حاليّاً هو تحديد هويّة أصحاب الجثث بشكل أدقّ ومن دون تعميمات، والإشارة إلى أن قسماً كبيراً منها – في الريف الغربي خصوصاً- يعودُ إلى “حامية مطار الطبقة”، ليكون هذا بمثابة الحجر الذي حرّك المياة الراكدة.

وشكّل اقتحام تنظيم “داعش” للمطار قبل سنوات لحظة مأساويّة فارقة لدى مُوالي النظام، مع تدفق الأنباء المتضاربة والصُوَر الصادمة آنذاك لمئات الجنود العُراة يُساقون بطريقة مُهِينة ليتمّ اعدامهم لاحقاً. ولم تنفع حينها بعض المحاولات لنفي العلاقة بين الصُور وبين سقوط المطار، كَون المسألة باتت أبعد من محتوى فيديو وأقرب إلى حقيقة سيعيشها الأهالي طويلاً.

وشَهدت تلك الفترة تعالي أصواتٍ لا تدعو للانتقام من التنظيم ومقاتليه فحسب، وإنما لإقالة وزير الدفاع في حكومة نظام الأسد، وكل مسؤول آخر له علاقة بسقوط المطار، بعد الحديث عن خيانة تعرّض لها الجُنود من قبل قادتهم الذي فرّوا وتركوهم لمصير محتوم.

أما اليوم فقد بات من المُلاحظ انخفاض سقف طموحات الأهالي، والتي تلخّصها عبارة “التحليل بيجوز بيكلّف الحكومة!” في إشارة من كاتب التعليق الفايسبوكي إلى عدَمِ ثقته بالنظام، واحتمال ألّا يقومَ بتحليل الحمض النووي  DNA للرفاة والجثث.

وبينما بلغ الأمر بالبعض سابقاً أن يتهكّموا بمرارة من قول الرئيس السوري بشار الأسد لعناصر قواته في إحدى المناسبات “نحنا سلامتكن بتهمّنا”، فإن هذا المنطق تراجع مع ما يستتبعه من رغبة بـ”المُساءلة” وضرورة “إخراج الملفات من الدروج”، وبات محصوراً اليوم بمناشدة المؤيدين لـ “سيادة الرئيس والجهات المعنية” لوضع ما يتم اكتشافه من جثث ومقتنيات وأغراض في عهدة جهات رسميّة لتقوم بمعاينتها وترقيمها، كي لا يضيع الدليل الذي يمكن من خلاله التعرّف على صاحب الرفاة، فضلاً عن إجراء الفحوصات المخبرية اللازمة بأسرع وقت.

ويقود واقع الحال في سوريا إلى رصد نموذج مشابه يَعيشه ذوو ضحايا مجزرة “سبايكر” في العراق، فبَين الحالتين والحدَثين الكثير من التطابق، بل إن ما يفصِل بينهما هو الجغرافيا وجنسيّة القتلى. ففي شهر حزيران من عام 2014 قام تنظيم “داعش” بإعدام نحو 1700 جندي عراقي رمياً بالرصاص في قاعدة “سبايكر” العسكرية قرب “تكريت” بعد سيطرته على المنطقة.

لكن وفي مقابل حالة الاستكانة السائدة في أوساط الكثير من مؤيدي النظام السوري وأهالي القتلى إجمالاً، فإنّ أقرانهم من العراقيين طالبوا “بالكشف عن مصير أبنائهم، وصرف تعويضات لهم، ومحاسبة المقصرين” مثلما جرى مؤخراً خلال مظاهرة أمام المنطقة الخضراء بالعاصمة بغداد.

وقد يُفسَّر الموقف الشعبي السوري – حتى اليوم- من “فضيحة” مطار الطبقة، بـ”الجحيم” الدموي الذي عاشه الناس بكل تلاوينه، وتراكم القتل والمجازر إلى حد الاعتياد على الموت، غير أنّ ما يُضاف إلى ذلك بالنسبة للمنتظِرين على أطراف المقابر الجماعيّة، هو الشعور بالعبثيّة واليأس والسعي لـ”إغلاق الملفات” الإشكالية بما لها من تبعات نفسيّة ثقيلة الوطأة.

وحتى إن وُجِدَ بعض المُحتجّين الثائرين على الوضع فإنّ “الشرطة الأسديّة” الفايسبوكية من مؤيّدين فعليين أو أصحاب حسابات معدّة لهذا الغرض، سيتكفّلون بإسكات هؤلاء خوفاً من مَسِّهم بـ”مقام” الأسد، أو سيقومون بامتصاص غضبهم بشيء من الشِّعر، و”بَيع” المشاعر الوطنية وقِيم تمجيد الشهداء.

لكنّ الأسوأ في ردود الأفعال ليس “تدجينها”، بل تحوّل هذه المواقف المحتجّة والغاضبة نحو الطرف “الخطأ”، أكانت معبّرة عن حقيقة أصحابها أو مُعادة التوجيه. ولن يكون هناك صعوبة في إيجاد الترجمة الواقعية لذلك، فبدلاً من أن يكون المسؤولون عن سقوط مطار الطبقة مَوضع الاتهام الأساسي، فإنّ “الغضب” يذهب في اتجاهٍ آخر للمطالبة بإبادة المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة دون تمييز بين مقاتل أو مدني.

ويتكرّر هذا الأمر مع كل حالة عجز تسود الأوساط الموالية للنظام، كما حصل مع أهالي الأسرى لدى “جيش الإسلام” مؤخراً، بعد أن تبيّن لهم كذب النظام. ورغم احتجاجهم ضد وزارة المصالحة، فإنّ هذا لم يُخفِ الدعوات الانتقاميّة بينهم، بغضّ النظر عن مدى تمثيلها لحاضنة النظام الشعبية.

المدن

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى