صفحات الثقافةمها حسن

المكنسة الناعمة: حكاية ساحرات سوريّات/ مها حسن

 

 

1

كانت الحكاية تقول:

هي بنتٌ ناعمة ناعمة، عندها غرفة ناعمة ناعمة، فيها حصيرة ناعمة ناعمة، ومكنسة ناعمة. حين كانت ذات صباح، تكنّس الغرفة الناعمة بالمكنسة الناعمة، قلبت الحصيرة الناعمة، ووجدت تحتها قطعة نقدية. أخذت البنت الناعمة القرش الذي وجدته تحت الحصيرة، وطارت من الفرح نحو الدكان لتشتري نقطة دبس. وضعت الدبس في طبق، على حافّة النافذة، فجاءت الذبابة ولحست الدبس. حزنت البنت حزنًا شديدًا وذهبت إلى القاضي تشتكي الذبابة.

أخذ القاضي يتهكّم عليها، ويطرح أسئلةً ساخرةً، كما لو أنه يستنكر حقيقة أن تستولي الذبابة على نقطة الدبس. وفجأة حطّت الذبابة على خدّ القاضي، فما كان من البنت الناعمة المقهورة، إلاّ أن ضربت الذبابة على خدّ القاضي.

هذه هي حكاية البنت الناعمة، التي سردتها أمي مرارًا في طفولتي، وسمعتها من جدتي مرارًا وبصيغ مختلفة، تتفق في الجوهر وتختلف في التفاصيل.

مع أنهن يروين الحكاية ذاتها، أمّي وجدتي وغيرهن، إلاّ أننا ندّعي، نحن الصغار، بأننا نستمتع بالحكاية، كما لو أننا لم نسمعها من قبل.

السرّ ليس في الحكاية، ولا في طريقة سرد أمّي وجدتي وغيرهن، السرّ في البنت، صاحبة المكنسة.

كما لو أنّه تحتّم عليّ في كلّ مرة، أن أستمع إلى القصة، لأحسّ بالعدالة، وأفرح للبنت. فرحٌ طفولي أحمق قليلاً، يختصر العدالة في قتل ذبابة على خدّ القاضي.

منذ ذلك اليوم، وأنا مولعة بالمكانس الناعمة. كما لو أنني أستعيد حضور البنت ذاتها، الفقيرة، التي أخذوا منها كلّ ما حصلت عليه ذات يوم، ثم تهكّموا عليها.

البنت الناعمة، حيث اللعب اللغوي حتى في القصّ الشفوي، أي البنت الصغيرة القامة، والغرفة الناعمة، كذلك هي الغرفة الصغيرة، أما المكنسة الناعمة، فهي تلك التي تختلف عن الخشنة. هكذا تلعب النساء على لفظة النعومة، عكس الخشونة، لتحيل الحجم الضئيل للشابة إلى مدح محتشدٍ بالرقّة. لهذا أحب المكانس الناعمة، وأؤنّب نفسي اليوم، أنني مررت كثيرًا من سوق المدينة القديمة في حلب، واستمتعت بالتفرج على المكانس، الخشنة التي لا تستهويني، والناعمة، التي تسحرني، لكنني يوماً لم أفكّر باقتناء مكنسة ناعمة!

2

حكاية اليوم تقول:

هما بنتان ناعمتان ناعمتان، غادرتا بيوتًا مرفّهة، وذهبتا إلى مدينة مدمّرة ومحاصرة. سيدتان تركتا دمشق، والتحقتا بالغوطة، توثّقان جرائم الاعتقالات وتؤرشفان ذاكرة القتل، في حارات مليئة بأنقاض البيوت المهدومة تحت القصف، وتحت الحصار. أمسكت كل منهما بمكنسة سحرية، ونزلت إلى الشارع بابتسامة ومرح، يخفّف عن العالم، ثقل الموت الكثير الكثير…

ذات صباح، في اليوم التاسع من الشهر الأخير من العام، وصل ممثلو القاضي.

القاضي الذي يملك المحكمة والمحاكمة بسرية بعيدة عن أعين العالم، القاضي الذي وجد في مكانس النساء وغرفة توثيق الانتهاكات، خرقاً لمحكمته وسلطته. سرق ممثلوه السيدتين من الغرفة، وبصحبتهما رجلين كانا يعملان معهما في التوثيق.

ولأن درب حلب لم يعد مزروعاً بـ “سجر الزيتون” كما يقول صباح فخري، بل بالعسكر والبراميل المتفجرة والجثث.

ولأن سوق حلب القديم احترق، ولأن البنت الصغيرة، أعني الناعمة، لا تزال قابعةً في ذاكرتي، من دون أن أعرف السبب، لأنني كبرت، ولم أعد أحتاج إلى درس العدالة الصغير، لكنني فجأة رأيتها في “اليوتيوب”، البنت الناعمة، كانت تكنس شوارع دوما، في حي مليء بالأنقاض، برجال ملتحين يرون وجودها غريباً بينهم، يستنكرون أن تكنس تلك البنت الناعمة، أنقاض القصف وبقايا الجثث..

رأيتها، وفار دمّي، إنها هي، البنت الناعمة التي روت قصتها أمي وجدتي وغيرهن، كبرت قليلاً، وصار لها صديقات.

مهلاً.. أيتهما بطلة الحكاية؟ أم أنها البنت الناعمة ذاتها، وقد تناسخت إلى امرأتين!

امرأتان تكنسان الحارة من دون تذمّر. تبتسمان. تتبادلان النكت والمرح. كأنهما تنظفان العالم، بمكانس خشنة، ذات مقابض قاسية على أيديهن الناعمة.

ـ ورجيني آثار التعذيب! تقول سميرة مازحة.

ـ بالبيت…ترد رزان بالدعابة ذاتها..

تنهمكان بالكنس والتوثيق..

كدت أمحو ذلك الألم من ذاكرتي، لولا أنني وقعت في الفخّ مجدّدًا، فخّ البنت الناعمة صاحبة المكنسة.

حين كنتُ جالسةً في باريس، في صالة لعرض فيلم، هيّأت نفسي أن أرى فيه حكاية عن الترحال السوري، عن “بلدنا الرهيب”، فإذ تبرز البنت الناعمة، بل أعني البنتين. تتناوبان في الظهور على الشاشة، تتناوبان الكنس، وتكنسان معاً.

أنا المولعة بالمكانس، وبقصص النساء، هبط قلبي حين لمحت عبورهما على الشاشة. شعرت بالغضب لأنني لا أستطيع الضغط على زر الإيقاف، واستعادة المشهد وتكراره أمام عينيّ، كما أفعل مع شريط “اليوتيوب”. تابعت الفيلم، مرتبكة، مشوّشة، كما لو أنني أنتظر عبور سيدة تحمل مكنسة، أو تأتي بفنجان قهوة، أو تهرب من الكاميرا، لتبكي بصمت، فراقها عن زوجها الذي سيرحل بعد قليل، ويغادر المدينة..

أغادر صالة السينما في باريس، كما لو أنني أبكي، لكنني لا أفعل. ترف البكاء لم يعد من حقّي، هناك نساء مخطوفات، بذنب التكنيس والتوثيق ومساعدة النازحين..

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى