صفحات الثقافة

الملف الثاني الذي يتناول رسالة أدونيس المفتوحة إلى بشار الأسد (يتضمن مجموعة مقالات تتناول هذه الرسالة)

الملف الأول

 

تعليق آخر على رسالة أدونيس

خالد الدخيل

العلاقة بين الواقع والفكر دائماً ما تتميّز بأنها شائكة، وأحياناً ما تكون ملتبسة، وهي ملتبسة غالباً لأن الواقع بنية مركبة وأكثر تعقيداً مما قد تبدو على السطح. على الناحية الأخرى، الفكر أبسط وأقل تعقيداً من الواقع. المسؤول الأول عن اللبس هو الفكر، لأن وظيفة هذا الفكر هي العمل على تفكيك هذا الواقع وتفسيره، ومحاولة تقريبه للفهم والاستيعاب، بأمل السيطرة عليه والتأثير في وجهة حركته. وعلى رغم أن الفكر انعكاس للواقع، إلا أن هذا الواقع أحياناً ما يلتبس على الفكر، ويبدو على العكس من حقيقته. هذا ما حصل للشاعر والكاتب السوري أدونيس (علي أحمد سعيد) في ما كتبه عن الثورة السورية وعن النظام السياسي السوري أخيراً. عندما تجده الوحيدَ من بين المثقفين السوريين الذي اتخذ موقفاً سلبياً مسبقاً من الثورة، ومن دون مبرر، مع ردود الفعل على ما كتبه، يتبيّن أن أدونيس فشل في إقناع أحد من زملاء المهنة بموقفه، وهم الذين يعترفون بمكانته الأدبية وطول باع مساهمته. ووصف من انتقدوه بأنهم يكتبون عواطفهم. الغريب أنه بموقفه، السلبي أحياناً والملتبس أحياناً أخرى، لا يتسق مع خطه الفكري المعهود، المنحاز -أو هكذا بدا الأمر- الى حق الحرية، وناموس الإبداع والتجديد، وضرورة التجاوز. كأنه أراد الالتزام بما أسماه يوماً «مفرد بصيغة الجمع»، أو أنه الفرد المختلف في مواجهة الجميع، وهي صيغة تضمر حساً استبدادياً مكثفاً.

الأكثر غرابة في موقف الشاعر السوري من الثورة والنظام السياسي في سورية، أنه منفصل تماماً عن واقع كل من الثورة والنظام معاً، وإنْ لأسباب ومبررات مختلفة. يقول عن الانتفاضة السورية في زاويته في هذه الصحيفة: «ها هو الحاضر في سورية ليس في بعض أشكال انفجاراته إلا استنساخاً بأدوات حديثة لبعض أحداث الماضي، هول ينزل من أعلى، من السلطة، وهول يصعد من أسفل، من الناس. المجتمع يتحرك جحيمياً، والنار الآكلة لا تشبع». في هذا المقطع يبدو الكاتب مرعوباً من الثورة الحالية، لأنها استنساخ لتجارب الماضي العربي، بما فيها الانقلابات العسكرية. ويوضح ذلك بقوله في صحيفة السفير: «علينا في ضوء الربيع العربي أن نتساءل لماذا قامت الأنظمة العربية منذ تلك الفترة (بدايات النصف الثاني من القرن الماضي) باسم الحرية والديموقراطية، لكنها لم تنتج إلا العبودية والطغيان؟»، وفي هذا يساوي بين الثورة وهي حدث لم يكتمل، والنظام السياسي وقد تجاوز مرحلة اكتماله، يساوي بينهما سلوكاً ونتائجَ ومنطلقاتٍ، هكذا بإطلاق. كيف تأتّى للشاعر أن يجعل الانقلاب العسكري شبيهاً بالثورة الشعبية؟ وعلى أي أساس؟ هل يعقل أنه غاب عن باله أن الانقلاب كان على يد المؤسسة العسكرية، أي انقلاب فرع من السلطة على فروعها الأخرى، وأن ما يحصل حالياً انتفاضة ضد النظام ونمطِ السلطة التي يمثلها، وأنه لا علاقة له بأي فرع من فروع السلطة؟ ومن حيث إن الانقلابات صارت جزءاً من التاريخ، نعرف الآن أنها كانت بهدف استيلاء نخبة عسكرية على الحكم، ولا شيء آخر. لكن الثورة الحالية، وفضلاً عن أنها شعبية وعفوية، لا تزال في بداياتها، ولم تستقر على حال بعد. هي تدشن مرحلة جديدة، والجانب الثوري الأهم فيها أنها تكافح، وبتضحيات جسيمة لإعادة الشعب إلى موقعه الطبيعي، الذي أُنكر عليه طوال القرون الماضية، لكي يصبح طرفاً في المعادلة السياسية في معادلة الحكم. كيف أجاز أدونيس لنفسه أن يتخذ موقفاً سلبياً ناجزاً ونهائياً من هذه الثورة وهي بهذا التوجه غير المسبوق، ولا تزال حدثاً في بداياته الأولى؟ هل هذا تحامل؟ أم انحياز الى الواقع السياسي القائم من حيث إنه معلوم في مقابل مجهول؟ أم أنه تعبير عن بساطة الشاعر عندما يخوض غمار السياسة؟

برّر أدونيس موقفه في زاويته في هذه الصحيفة، عندما قال إنه يرفض السير «في مظاهرة سياسية تخرج من الجامع بشعارات سياسية». ثم قال في المكان نفسه ما يتناقض مع ذلك تماماً، عندما وصف التظاهرات بأنها تذكّرنا «بأن السلطة يمكن أن يؤسَّس لها من أسفل، من الشارع والحياة والناس، وهذا جديد كلياً في الحياة العربية، لهذا يجب الاحتفاء به والحفاظ عليه…». أين المشكلة في الجامع إذاً وهو جزء من مشهد أوسع بكثير؟ لماذا اختزال المشهد في مكون واحد وتجاهل المكونات الأخرى؟ ثم لماذا حصر رمزية الجامع في بُعده الديني والمباشر؟ هذا موقف ينم عن حالة ارتباك أمام ظاهرة سياسية «جديدة كلياً في الحياة العربية»، بكل زخمها وغموض مآلاتها، وهو موقف أقل ما يقال فيه إنه غريب ممن ينتمي الى الحداثة، ويدعو الى التجاوز باستمرار. كان أدونيس يعيب على الثقافة العربية أنها ماضوية، وأن الإنسان العربي يجفل أمام المجهول، ولا يحب المغامرة. هل كلام الليل يمحوه النهار؟ أم أن الواقع السياسي يبدو ملتبساً ومربكاً، كما هي حال الفكر الذي يعبر عنه؟

لم يكتفِ أدونيس بالتعبير عن رفضه المسبق للثورة. غامر ووجّه رسالة إلى الرئيس السوري في صحيفة «السفير» اللبنانية. أشار البعض إلى أن الشاعر بهذا دخل لعبة سياسية لم يعتدها ولا مكان له فيها على أي حال. لكن اللافت والأهم، هو توجيه الرسالة بحد ذاته الى «السيد الرئيس»، الذي يقف على هرم نظام قال فيه أدونيس نفسه ما لم يقله مالك في الخمر. ويزداد الأمر سوءاً بمجيء الرسالة في لحظة مواجهة مصيرية وقاسية وحرجة بين نظام الرئيس من ناحية والشعب من ناحية أخرى. ولأن أدونيس رفض الوقوف إلى جانب الشعب في ثورته، فإنه برسالته هذه يكون قد اختار في أحسن الأحوال أن يقف على الحياد من هذه المواجهة المصيرية، وفي أسوئها أن يقف إلى جانب النظام ضد الشعب. الاحتمال الأول يسمح لأدونيس بأن يخاطب الرئيس، مطالباً إياه بإنقاذ الموقف. من دون هذا الحياد لم يكن في وسعه أن يتقدم بمثل هذا الطلب. لكن مأزق أدونيس أن الحياد يتناقض مع دوره كشاعر، بحسب معاييره هو، ويتناقض مع مبدأ أن المثقف قبل أي شيء آخر هو موقف: موقف واضح، مع الحياة والحرية والتجديد. لا يسع المثقف أن يكون محايداً من قضايا مصيرية مثل الثورة ومستقبل الوطن. حكاية الحياد هذه أقرب ما تكون في حقيقتها إلى الأسطورة منها إلى الواقع. الموقف المحايد هو في نهاية التحليل «لاموقف». كيف يمكن تربيع دائرة موقف أدونيس في هذه الحالة؟

والاحتمال الثاني أن رسالة أدونيس تضعه من حيث لم يحتسب إلى جانب النظام، لأن استخدام تعبير «السيد الرئيس»، وإيجاد مسافة واضحة في الرسالة بين الرئيس وموبقات النظام الذي يقف على قمته، ثم رفضه للثورة انطلاقاً مما يراه تحيزها الأيديولوجي (الديني)، كل ذلك ينطوي على اعتراف مسبق وغير مشروط بشرعية الرئيس، وشرعية دوره، وسياسة نظامه. بل يذهب أدونيس أبعد من ذلك، عندما يصف الرئيس السوري بأنه «منتخب». هل هو متأكد من ذلك؟ أم أنه يأخذ الأمور بظواهرها فقط، وهو الذي دائماً ما رفض هذه المنهجية في التحليل؟ لكل ذلك، لا يزال الرئيس بحسب أدونيس، وكما أشار الكاتب اللبناني عباس بيضون، موضعَ أمل لإنقاذ الموقف، ومنع سورية من الانحدار نحو الهاوية. ربما أنه لم يكن أمام أدونيس إلا أن ينطلق في رسالته من أمر واقع لا بد من التعامل معه. وفي هذه الحالة يصح سؤاله: كيف أجاز لنفسه الاعتراف بأمر الواقع السياسي لسلطة يصفها بأنها سلطة حزب البعث الذي «لم ينجح في البقاء مهيمناً على سورية بقوة الأيديولوجيا، وإنما بقوة قبضة حديدية-أمنية…»، وهو «حزب تقليدي ورجعي ديني…»؟ كيف يستوي بحثه عن الحرية والديموقراطية والعلمانية في نظام هذا تاريخه، وهذه مواصفاته؟ في مقابل ذلك، يرفض الواقع السياسي لثورة شعبية مستجدة في طور التشكل وغير مسبوقة لمجرد شبهة الجامع. وفي الوقت نفسه، يتخذ موقفاً متسامحاً مع نظام يرى رجعيته واستبداده، ويرى أن تاريخه أصبح وراءه. يقوم النظام بقمع الانتفاضة وقتل المنتفضين، للمحافظة على استبداده ومكتسباته التي راكمها على مدى عقود من الزمن. من جانبهم، يغامر المنتفضون حتى بحياتهم في سبيل التغيير والمستقبل، من دون أن يضمنوا شيئاً في مقابل ذلك. ومع ذلك، ينحاز الشاعر ضد هؤلاء، ويقترب إلى جانب النظام. يبدو أن الخوف من المجهول يقبع داخل هذا الشاعر: الخوف من الطائفية، أو الحرب الأهلية. وهذه من دون أدنى شك مخاوف مشروعة، لكن مَن الذي أوصل سورية، أو سمح لها بأن تبقى طوال الأزمنة الماضية مصدراً غنياً لكل هذه المخاوف؟ الغريب أن الشاعر لم ينتبه إلى دلالة إصرار النظام على الحل الأمني، ولم يُعر انتباهاً لآلاف الضحايا الذين سقطوا ويسقطون على يد هذا الحل؟

يقول أدونيس إن الصراع يجب أن يكون من أجل إعادة بناء المجتمع، وليس من أجل الاستيلاء على السلطة. الافتراض المضمر هنا أن المجتمع لم يصل إلى مرحلة النضج الاجتماعي والفكري والأخلاقي بما يسمح له أن يدخل غمار الصراع من أجل التغيير، وهذا يضع شروطاً تعجيزية لتبرير رفض الثورة، ويكرر «الحكمة» التي تقول بأن المجتمعات العربية ليست مهيأة بعد للتحول الديموقراطي، لأنها تفتقد لقيم وثقافة الديموقراطية. هل يمكن لمجتمع أن يكون مهيئاً للصراع وقابلاً لاحتضان قيم الديموقراطية والحرية، من دون الدخول في التجربة؟

الحياة

ماهكذا تورد الإبل يا أدونيس

من مواطن سوري إلى أدونيس

في رسالة مفتوحة من أدونيس إلى (سيده ورئيسه بشار الأسد) في السفير اللبنانيه

يستمر أدونيس في محاولاته كمثقف تشريح الواقع السوري ودلالاته وبلغة لا ينقصها التعالي كشعره يستمر أدونيس بمخاطبتنا نحن السوريون بلغة مواربة غامضة ويستمر كغيره من جيش الذين كنا نظنهم مثقفين بإمساك العصا من المنتصف

ومابين الديموقراطية والدولة المدنية والمواطنة الصالحة ينتقل فينا من محطة إلى أخرى ناصحا ومرشدا مرة لنا كسوريين ومرات عديدة لرئيسه

ومابين فصل الدين عن الدولة وتاريخ هذا الفصل وإمكانيات نجاحه وفشله ومابين الايديولوجيات وعلاقة المقدس بما هو أقل قداسة يستمر الخطاب

خطاب أقل ما يقال فيه :بدل أن تلعن الظلام أشعل شمعة.

ولاندري كسوريين عندما يخاطب أدونيس بشار أسد (بالسيد الرئيس )إلام استند في تسميته هذه

أهو ولاء طائفي مناطقي ؟ أم أنه انتخب( السيد الرئيس )في غفلة منا نحن السوريين في انتخابات حرة وديموقراطية ونزيهه؟

مرات عشر كرر أدونيس عبارة( السيد الرئيس ) أهي صيغة لتأكيد موقعه الذي اكتسبه وراثة بقوة الدبابة والحذاء العسكري أم هي صيغة احترام للمقدس الإلهي الذي يجرنا جرا للانفصال عن دينه

بدعوى الديموقراطيه والدولة المدنيه وضرورة فصل الدين عن الدولة .

مرات عشر خاطب أدونيس رئيسه ناصحا ومرشدا ولم يخاطب الشعب السوري العظيم الذي انتفض لكبريائه وكرامته .

مرات عشر يحاول أدونيس أن يتنصر للجلاد ناصحا ومحذرا من خطورة الموقف ومألات السقوط سقوط يقود لحرب أهلية تمزق لوحة جميلة اسمها سورية .

وهنا وكمواطن بسيط في زمن ثورة السوريين البسطاء المقهورين أقول لأدونيس

ألا يستحق الشعب السوري العظيم والبسيط أن تخصه بهذا الخطاب فتكرر سيدي الشعب السوري العظيم ألف مرة .

ألا يستحق أطفال سورية من حمزة الخطيب إلى ثامر الشرعي إلى غيرهم ممن اقتلعت مخابرات سيدك الرئيس أظافرهم وقتلتهم وقتلت أهلهم وشردتهم من بانياس إلى درعا وجسر الشغور ألا يستحق هؤلاء جميعا أن تخصهم بقليل من خطابك

لا يريد السوريون تحليلا لواقع مرة عاشوره خمسون عاما وهم لا يعرفون تفصيلاته المذلة فحسب بل يعيشونها يوما بيوم في دولة سيدك الرئيس ولاهم بحاجة حتى لوقوفك معهم

ولكن بالله عليكم يا مثقفي سورية إما أن تشعلوا شمعة أو فاصمتوا .

فهذا الشعب الذي قابل دبابات سيدك الرئيس منذ ثلاثة أشهر والذي تحذرنا في خطابك من فوضى حرب أهلية وتسوق لها أسبابا كغياب القيادة وغياب التنظيم تارة واسباب أخرى كانطلاقه من المساجد والجوامع تارة أخرى هذا الشعب أثبت علو كعبه في السياسة وفي التنظيم وفي الديموقراطية

فسيدك الرئيس واعلامه وزبانيته وشبيحته مافتؤا يجرونا جرا للفتنة الطائفيه وللحرب الأهلية بكل الطرق رخيصها وقذرها

ولكن السوري البسيط والبدوي والحوراني والكردي والشاوي وابن أزقة حمص واللاذقية وحلب الجسر وحماه وعلى امتداد الوطن السوري أثبت أنه أكثر ثقافة منكم وأكثر شجاعة وأكثر ديموقراطية وأكثر نبلا

وغني عن البيان أن أي متظاهر نزل للشارع كمشروع شهيد يحمل حبا لهذه الأرض أكثر منكم معشر المثقفين النخبة .

وبين فصل الدين عن الدولة وما بين تهاوي الاديولوجيات كنا نتمنى من أدونيس وغيره من (المثقفين والمفكرين العرب )أن يبذلوا قليلا من الجهد لفصل الجيش عن الدولة أسوة بالدين ولعل الملايين التي قتلت من الشعوب العربية وغير العربية قتلت بيد الجيش وأحذيته العسكرية ودباباته

ولا تلد الحيات إلا صلالها كما تذكر العرب وكم كنا نتمنى من مثقف بقامة أدونيس أن يعري الأمور ويسمي الأشياء بأسمائها . كم كنا نتمنى من أدونيس ومما يملك من رصيد عالمي أن يوجه سبابته نحو القاتل والمجرم واللص بدلا من أن يتحفنا بخطاب النصح المطول لسيده الرئيس .كان عليه أن يقف مع شعبه ضد من أرسل شبيحته ودباباته لينتقم من رجال ونساء وأطفال لا لسبب إلا لأنهم طالبوا بحريتهم من جبروته وعبوديته وألوهيته.

وكما قيل بالنار يمتحن الذهب وبالذهب يمتحن الرجال ولعل محنة سورية اليوم نعمة لها حتى تعري الرجال وحتى يبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود

وهنا وكسوري أحس بانتمائي لسورية أطفال حوران ولشعبها البسيط أكثر من انتمائي لسورية (النخبة المثقفة)والتي يشاطرني في وضع علامات استفهام كبيرة حولها الملايين من السوريين

وحتى لايقال أن شخصا تطاول على شاعر بقامة أدونيس سأحتفظ بهويتي مجهولة حتى لا يقال كتب بدافع الشهرة ولسورية وشعبي تمنياتي الصادقة

انشروا رسالتي يا أخوتي فهي عنوان محبتي لكم .

أحييكم من جبال اللاذقية

 

إنصافاً لأدونيس: رسالته إلى بشار شجاعة وحكيمة

مصطفى علي الجوزو

كل الصفات التي أغدقت على أدونيس للإشعار بالموضوعية في التعليق على رسالته المفتوحة إلى الرئيس بشار الأسد لا تهمني، ولا أؤمن بها، ولا أرى في صورة الرجل الأدبية والفكرية إلا تضخيماً لمبدع دون القمة بكثير وفوق الوسط بكثير أيضاً، وهنيئاً مريئاً له الجوائز التي نالها، لكن الموضوعية والإنصاف يقتضيان الاعتراف بأن رسالته تلك تتسم حقاً بالشجاعة ورجاحة العقل والحكمة، وانه ينبغي ان ننظر إليها من موقع أدونيس الفكري وجذوره الأولى، لا من منظور مثالي لا يكون إلا للآلهة. ويجب ان نعترف ان بعض ما قاله تجاوز في صراحته ووضوحه أقوال جلّ المفكرين الوطنيين العرب، وربما كلهم، في الحديث عن الحكم السوري والثورة السورية الحالية، ومن الظلم ترك كل إيجابيات الرسالة وقصر النظر على سلبياتها النسبية، أي المرئية من وجهات نظر معينة، والعبور من ذلك إلى قراءات منحازة، وإلى نحل ادونيس ما يقوله النظام السوري، وكأنه متحدث باسمه. إمكان تطبيق الديموقراطية نعم إن العالم العربي لم يعرف الديموقراطية، وهي حقيقة لا تقبل الجدل، ولأدونيس الحق في ألا يتوقع فورية تطبيقها في سورية إذا سقط النظام البعثي، فليس بين يديه شاهد واحد على ديموقراطية عربية نشأت واستمرت، فكل الحكومات المدنية التي عرفتها الدول العربية لم يتح لها الوقت ولا الظروف لانتهاج الديموقراطية، او هي لم ترغب في ذلك، ولم يعمر بعضها إلا ريثما نقض عليه العسكر، والعسكر عندنا غير ديموقراطيين، وحتى حكم بو رقيبة انقلب إلى ديكتاتورية فردية مجنونة وشبه مؤبدة حتى أطاحه العسكر أيضاً، ولا شيء يضمن اليوم تحقيق الديموقراطية في مصر وتونس، بعد ثورتهما المباركة التي نرجو ان تبلغ أهدافها، لكن الأمنية شيء والنظر الموضوعي شيء آخر. والذي لا ريب فيه ان خسائر هذين البلدين بلغت حتى الآن مئات المليارات من الدولارات، وهما معرضان للارتماء في أحضان البنك الدولي، ومن ثم الرضوخ لشروطه ومحاسباته التي لا تخدم إلا الصهيونية العالمية، الأمر الذي يطرح غير علامة استفهام في استغلال اميركي لتينك الثورتين، بما يجعلهما تطولان أكثر مما ينبغي، وينال مؤسسات دولتيهما التخريب على أيد مشبوهة، وتصاب المواسم السياحية، مثلاً، فيهما بالركود، وتلوح في بعضهما خطط للتقسيم. ولا شيء يضمن ألا يعود العسكر إلى حكم مصر، وهو ما تحدث الاعلام المصري عنه صراحة. قد يستشهد بالنظام التركي اليوم، بوصف الأتراك جيراناً وبيننا وبينهم أواصر صهر وقرابة وتاريخ، وهو نظام ديموقراطي حقيقي ندعو له بإخلاص ان يستمر، لكن المؤامرات الأميركية والصهيونية تحاك ضده، ولا ندري ان كان العسكر لا يدبرون له شيئاً، ربما بالتعاون مع الولايات المتحدة والصهيونية العالمية وبعض الأقليات، وكل ذلك يدعو إلى الحذر الشديد، والتريث في اتخاذ تركية مثلا. وأما إيران فانتقلت من ديكتاتورية الشاه إلى تحكم الفقيه، فتغير فيها الاتجاه السياسي حقاً، لكن الديموقراطية لم تجد فيها موطئ قدم، وبقيت الميول الإمبراطورية مهيمنة عليها. أدونيس الباحث لم يجد، اذن، سنداً لديموقراطية فورية في سورية، فمن حقه ان يتحفظ، وقد يكون تحفظه مزية لا عيباً، لكن ما يمكن ان يؤخذ عليه قوله بعدم تصديق العقل بإمكان تطبيق الديموقراطية مباشرة بعد سقوط النظام، فهو حكم ضمني وقطعي غير جائز. الشك مسموح هنا، وليس القطع. التأسيس أم الفورية ومع ذلك فإن الرجل لم يطالب بإهمال الديموقراطية ولا بتأجيلها، بل طلب التأسيس لها فوراً، وخيّر بينها وبين الهاوية. فالفرق بينه وبين ناقديه ان الفورية عنده للتأسيس للديموقراطية، والفورية عندهم لتطبيقها، والسؤال: علام يعمل الحكم الانتقالي في مصر وفي تونس، أليس على تأسيس الديموقراطية؟ قد يكون الخلاف الحقيقي بين الرجل وناقديه هو على من يؤسس للديموقراطية، فتوجّه إلى الرئيس يعني ان يقوم الرئيس بذلك، أما هم فلعلهم يرغبون في ان يسقط النظام ويؤسس الثوار للديموقراطية على الطريقة المصرية والتونسية. وأحسب انه يتصور مثل كثيرين ان الدول الكبرى لا تريد سقوط النظام السوري، لأن رئيساً بلا شعب، وحرباً أهلية طويلة، خير لها من شعب ينقض اتفاقاته مع إيران والمقاومة، فذلك الرئيس المجرد من شعبه لا يستطيع لا مقاومة ولا ممانعة، وقد يخضع يوماً للابتزاز والمساومة ومنطق التسوية، أما ناقدوه فيعولون على عروبة الشعب السوري وتاريخه الوطني الكفيل بالحفاظ على المقاومة وبترسيخ الممانعة. عيوب النظام السوري وأدونيس لم يزعم ان سقوط النظام في سورية يعني حكم الحركات الدينية، بل هو يصف المعارضة السورية جميعاً بأنها ذات وجهات نظر وتطلعات نبيلة وعادلة، لكن غير موحدة في وثيقة، ويؤكد أنها وطنية مخلصة لمبادئها، على اختلاف سلوك جماعاتها. بل لعله اول من اشار إلى ان حكم البعث السوري صار ديناً عنصرياً، يعطي المنتمي إليه امتيازاً فكرياً ووظيفياً وتجارياً، ويستمر بقوة قبضته الحديدية الأمنية، ويشيع ثقافة «المساومات والترضيات والابتزازات والاحتكارات والاقصاءات والتكفيرات والتخوينات»، ويشوّه «صورة سورية الحضارية بوحل الطائفية والعشائرية والمذهبية، ووحل التدخل الخارجي، ووحل التعذيب والقتل والتمثيل بجثث القتلى»، ويسيء كثيراً إلى الهوية الثقافية السورية بتغليبه ثقافة ضيقة اجترارية، تنبذ المعارضين وتشرد الرافضين، ثقافة أحادية مغلقة وقمعية: نعم نعم، لا لا. ولولا الحكمة لكاد يسأل عن الفرق بين ذلك وبين الستالينية، وبينه وبين العنصرية الصهيونية. وقد اتهم أدونيس حزب البعث فوق ذلك بأنه تقليدي رجعي ديني، لم يحترم إنسانية الإنسان، ولم يبن «جامعة نموذجية واحدة ولا مؤسسة معرفية او فنية نموذجية واحدة» بل دمر أخلاق البشر، وذلك كله من أجل البقاء في السلطة، لكنها سلطة تحمل في ذاتها بذور سقوطها، وممارساتها سبب ما يجري في سورية الآن. وهي بعد ذلك تقدم المسوّغ للغرب، ولا سيما الأميركي، بستر استعماره الجديد بقناع الدفاع عن حقوق الإنسان، مع فراره من إحقاق الحقوق الفلسطينية. الانسحاب أو السقوط الحتمي وكأنما أراد أدونيس بعد هذا التحليل ان يقول لبشار الأسد: خير ان ينسحب من السلطة بنفسه من ان يسقط حتماً، فطالب بإلغاء المادة الثامنة من الدستور السوري، لانه لا جيش يقهر الشعب ولو اعزل «وتتسع السجون للأفراد، لكنها لا تتسع للشعوب». وهو لا يرى دعوة النظام المعارضة إلى الحوار كافية، ويطالب بأن يطرح هذا النظام مشروعاً كاملاً مفصلاً يؤدي إلى تداول السلطة بحرية، وإلى شرعية حقيقية، طالبا انقاذ سورية لا الحزب، وفك المماهاة بينها وبينه، مؤكداً ان الحزب قد يوقف الثورة، لكنه سيدمر سورية، حينئذ، بالحرب الأهلية المديدة ويشرد السوريين. ولو تأخرت رسالته قليلاً فربما قال ان الجموع الضخمة التي نزلت إلى الشارع لمظاهرة الحكم ليست دليلاً على سعة التأييد الشعبي له، فالبعثيون والمستفيدون من البعث قد يتجاوزون المليون، وليس صعباً على نظام قمعي ان يكره جمهور الناس العاديين على النزول إلى الشارع، وأنصار الحكم في كل حال مسموح لهم ان يتظاهروا، أما المعارضة فتقمع بالنار. وربما تساءل أيضاً: كيف اندس المخربون المزعومون في مظاهرات المعارضة وأطلقوا النار على المشاركين فيها وعلى قوى الأمن، ولم يندسوا في مظاهرات التأييد وهي هدف أسهل وأوسع؟ لا اعتقد أن أحداً من المفكرين العرب الموضوعيين قد بلغ تلك الخطوط الحمر التي بلغها أدونيس، او كانت له تلك الجرأة النادرة والخطرة. وبصرف النظر عن علمانية الرجل فهو من أصل سوري علوي وله أقارب في سورية، ولعل له مصالح ولو معنوية فيها، ولا ريب في ان في موقفه تحدياً يحسب له. وقد ظلم حين ناشته بعض الأقلام. وكان يحسن بالكتّاب النقدة ان يحترموا اختلاف الرأي، ولا سيما انه اختلاف في طريقة الوصول إلى الهدف وليس في الهدف نفسه، وهو قائم على تقديرات وتحليلات متعددة، لا يجوز لأحد ان يلزم غيره بأحدها، وإلا كان في عمله مصادرة وإلغاء للرأي الآخر. سيدي الرئيس واعتقد أن ما استفز بعضهم هو عبارة «سيدي الرئيس» تصدر عن رجل في مكانة أدونيس، وفي وقت يقتل فيه النظام السوريين بالآلاف، ويعتقل منهم عشرات الآلاف، ويهجر عشرات آلاف آخرين. لكن ماذا يقول صاحبنا إذا أراد توجيه رسالة مفتوحة إلى بشار الأسد، هل يخاطبه بقوله: أيها الرئيس؟ أم: يا بشار؟ إن ذلك سيكون مأخذاً عليه لدلالته على الفظاظة. أم يراد له التخلي كلية عن الرسالة المفتوحة ويستعيض منها بمقالة منهجية؟ هي وجهة نظر، لكن لا يجوز فرضها على أدونيس، وإلا مارسنا عليه القمع. والواقع، في هذه المناسبة، اننا فرحنا حقاً بما سُمي ربيع العرب، وهللنا له، لكننا لا نعرف خواتيمه، ولا عواقبه الديموغرافية والطبوغرافية والاقتصادية والايديولوجية، ونحن في ذلك كمن صفق للملاكم بعد فوزه على خصمه، لكنه لم يقدر نتائج الضربات التي تلقاها والتي قد يكون بعضها خطراً. هذا في مَن فاز، فكيف بمَن لا يزال يصارع، والذي من المحتمل أن تتضاعف المخاطر عليه؟

السفير الثقافي

 

في تذكر أدونيس

نائل بلعاوي

هي الأيام الأخيرة من صيف العام 1997، حين حط أدونيس رحاله ضيفا على / دائرة الثقافة النمساوية/ ولمدة أسبوع كامل، ترافقه مجموعة صغيرة من الكتاب والشعراء العرب الذين تم اختيارهم بطريقة خبيثة تتيح المجال أكثر أمام أدونيس ليبقى سيًداَ مطلقَاَ في الاحتفالية الثقافية، النادرة عربيا، آنذاك. وكان أدونيس، كما هو مُعدً ومًنتظر، نجماَ بلا منازع أو منافس، تدور من حوله الأفلاك الحاضرة.

لم تكن نجومية أدونيس خلال الأسبوع الفييناوي المميز ذاك، وليدة الإعداد، غير البريء، للجهة الداعية، فحسب، بل هي، كما يمكن للمرء أن يحدس: مجرد متابعة منطقية للحضور الكبير الذي حققه الشاعر، صاحب المشروع الفكري، على امتداد تجربته الإبداعية الطويلة، فأينما حل أدونيس أو حضر، من بيروت إلى مراكش، كان لا بد لتلك النجومية أن تتبعه وترافق خطاه، فهو، بمعنى أو بآخر: أحد الآلهة القليلة المُعمدة، بجدارة، في معبد الإبداع العربي الكبير.

انسجاماَ مع دوافع تلك النجومية الطبيعية وأغراضها المتوقعة، كان الشاعر نجماَ بلا تكلفِ أو ادعاء… بسيطاَ، متواضعاَ، وشديد القدرة على بث الدفء، بتلقائية عالية، وخفة ظلٍ مكتسبة لا يتورع صاحبها عن توظيفها، في كل وقت، ليجلد بها من يحب أن يجلد من نقادٍ وزملاء، وهم كثر بطبيعة الحال. فمن يعرف أدونيس، يعرف صراحته في الحديث عن هذا وذاك من الأشياء والأسماء. ويعرف أيضاَ أن الرجل لا يجامل، كثيراَ، حين يتعلق الأمر بمواقفه الفكرية والسياسية، ناهيك عن رؤيته الشخصية للشعر بشكل عام، والعربي منه بصورة خاصة، وهو يعرف بالطبع ما يقول والى أين يريد أن يصل…؟

ونديماَ من طراز خاص كان أدونيس أيضاَ، فحين يمتد السهر ويحضر الجيد من النبيذ الأحمر. والقديم من أغاني أم كلثوم، ينطلق الرجل على سجيته، فيحكي، ما لا يُسمع منه في كل وقت، وما لا يُعثر عليه من أقواله المنشورة في صحيفة هنا أو كتاب هناك. فهناك تماماَ: في تلك الأجواء الحميمية والخاصة جدا، تخرج النفس البشرية، عادة، ما لديها من مواجع وأفراح، وتبوح بها، بلا خشية من رقيب ما، أو حدود بعينها. وكذلك فعل أدونيس، تحدث بأريحية خالصة، قال الكثير وساجل مطولا حول القضايا المطروحة عربيا، ثقافية أو سياسية كانت، ولم يترك، بين هذا وذاك، فسحة صغيرة للتأويل والتخمين، فقد كان واضحاَ تماماَ، يوجه نقده اللاذع لهذا الاسم أو ذاك / حتى الأسماء المكرسة في معبد الثقافة إياه / ويمدح، بتواضع أنيق، تلك الشاعرة التي صدر ديوانها الأول قبل قليل. أو ذلك القاص، شبه المجهول في الريف المصري.

الآن، على عكس رغبتي تماماَ، لا استطيع الكشف عما سمعته من أدونيس في تلك السهرات / ما أعلن عنه من آراء حول الكتاب والشعراء العرب تحديداَ / فمن قواعد تلك الليالي الثابتة أن لا يبوح المرء بما يدور فيها. ولكنني لا أكشف الآن سراَ، هكذا أرجو على الأقل، حين أورد القليل من آراء الرجل، التي سمعتها ودونتها أيضا، حول النظام العربي، وكنت قد دونتها فعلاَ في دفتر صغير، على أن أعود إليها لاحقا لكتابة، مادة ما، تجمع ما بين الحوار والسرد مع الشاعر وعن حضوره في فيينا. ولم افعل، وها أنذا أعود اليوم إلى تلك الجمل المتفرقة التي نقلتها حرفيا عن لسان أدونيس وأقرأ: (… الحديث عن سقف منخفض للحرية في العالم العربي هو مجرد هراء، فلا حرية هناك ليعلو سقفها، أصلا، أو ينخفض… لقد تمكنت الأنظمة المستبدة من تسخيف مفهوم الحرية تماما. صارت الحرية وفقا لسلوك الأنظمة تلك مصدرا لتهديد وجودها.. أو هكذا تعتقد).

وفي السياق عينه يضيف: (يعجز المثقف العربي عن مواكبة أقرانه في الغرب لكثرة ما يحيط به من حواجز أخلاقية مفروضة بلا أسس، ومن تعاليم دينية سطحية عادة.. ولكن الحواجز هذه لم يكن لها أن تترسخ كما نراها اليوم لولا وجود الأنظمة الشمولية السائدة) و: (الحرية شرط أساسي لعالمية الشعر العربي). ثم يخلص أدونيس إلى الحقيقة التالية: (… لن يتمكن العالم العربي من التقدم خطوة واحدة إلى الأمام مع وجود هذه الأنظمة الظلامية… تجاوزها هو الذي سيفتح الباب أمام مستقبل أفضل).

لم يفصح الشاعر يومها، كما تبين الأوراق التي بين يدي، عن وسيلة بعينها تيًسر عملية التخلص من تلك الأنظمة الظلامية، ولكنه يشير، في جلسة أخرى، على صفحة ثانية من دفتر الملاحظات إلى الحقيقة التالية: (رفعت الثورة الفرنسية جدارا عالياَ بين عصر الانحطاط الذي سبقها، وهذا العصر الأوروبي المتطور الآن… كانت مثالا للقطيعة الكاملة بين مرحلتين..).

تبدو الرسالة التي تحملها الكلمات الأخيرة واضحة تماماَ، فالقطع الفعلي مع ما هو قائم: / عصر الانحطاط / لا يتحقق إلا من خلال فعل شمولي وهادر، هو: / الثورة الفرنسية / مثلاَ. وهو الفعل الذي انشغل أدونيس طويلاَ باستقصاء معانيه وتحليل آلية عمله، في القصيدة أولاَ وتالياَ، وفي حفرياته النظرية الكثيرة أيضاَ.

ثورياَ، كان أدونيس الذي رافقته ليلاَ نهاراَ في فيينا. وثورياَ ومتمرداَ كان الرجل الذي تابعت بلا كلل أو ملل نتاجه الشعري والنظري على امتداد الوقت… ألم تكن الرؤية العميقة للإرث الثقافي العربي في الثابت والمتحول فعلاَ ثوري المعنى والهدف..؟ ألم تكن عذابات وأحلام مهيار الدمشقي شكلا من أشكال الرفض المطلق لعصور الظلام..؟ و/ وقت / قصيدته الرائعة التي أحب: / حاملاَ سنبلة الوقت ورأسي برج نار / ألم تكن بياناَ شديد الفاعلية والجمال، يتحدى عبر طاقته الشعرية المكثفة كل ما هو سائد وباعث على الانحطاط..؟

هو أدونيس الذي عرفت وأحببت… هو ذاك الذي يتقدم مظاهرة صاخبة في بيروت العام 1982 رفضاَ للحصار. هو الذي لم يكف يوما عن التغني بالأمل والغد وارتفاع شأن الضحية. وهو بين هذا وذاك، الشاعر الكبير الذي فاجأني بالرد على رسالتي الأولى إليه العام 1986 في الأردن .

في مقتبل العمر والتجربة كنت آنذاك. وكان إعجابي الشخصي بالمشروع الشعري والنظري لأدونيس قد تجاوز حد الاكتفاء بدور القارئ إلى رغبة بمحاورة الشاعر، وكان لي ما أردت… تبدو مفردة: محاورة الشاعر. في غير موقعها الصحيح الآن، فالحقيقة أنني كنت أوجه الأسئلة، وكان الشاعر، بسخاء أبوي وتواضع رفيع، يجيب ويجيب، لتتواصل الرسائل، الحاملة في كل مرة، شيئاَ، من شخصية صاحبها، وما تحمله تلك الشخصية المتنوعة، من فكر كوني وشمولي البعد.

اليوم أعود إلى تلك الرسائل القليلة التي حملتها معي من الزرقاء إلى فيينا، وحافظت عليها، من التلف والنسيان، على امتداد ربع قرن كامل، لأعثر فيها، أيضاَ، على الكثير من الآراء ووجهات النظر التي تتفق، بمجملها، مع مواقفه الفكرية والسياسية المُشار إليها أعلاه، حيث الحرية، في ثنايا الرسائل كما هي في جلسات وليالي فيينا: (قاعدة مقدسة)، وحيث: (لا حياة ولا إبداع بدونها).

هو أدونيس إذاً في رسائل العام 1986. وهو النديم والمحاور الجميل في العام 1997. وهو… أود لو أقول: / الآن أيضاَ / .. ولكن..؟؟

الآن.. في هذا الصيف من العام 2011. بعد مرور القليل من الوقت على انطلاق رياح التغيير التونسية، ثم المصرية../ تغنى الشاعر بريادة الفعل التونسي وعبقرية المصري /، ها هي نار التغيير، بعد أن مرت بليبيا واليمن والبحرين، تشتعل في عقر الدار الدمشقية.. دار مهيار واقسيون، وها هو أدونيس الحامل / سنبلة الوقت / يطيح بفكرة السنابل وشروط الوقت ويبتعد، بلا وجل يبتعد، عن جماليات الانتماء إلى / برج النار / الموقدة.

حين قرأت للمرة الأولى فكرة أدونيس الغريبة عن ثنائية الجامع والتغيير: (لماذا تخرج المظاهرات من الجوامع دائماَ)، لم أصدق ما قرأت، فأعدت القراءة مجدداَ عازماَ على النظر بتجريدية أكبر إلى النص الذي بين يدي، دون أن أسقط أنا عليه ما أحمل من أفكار، وما كنت انتظره، أصلاَ، من فكر الرجل الذي يساوي، عادة، بين الحرية والحياة، والى حد تقديس الأولى، كما هي الثانية مقدسة سلفاَ. ولم أجد، لم أجد ما يبتعد بي عن حالة التلقي الأولى للنص.. ولم أعثر على تلك الصورة الجميلة المخزنة للشاعر عندي. ولكني انتظرت. لم أفكر بكتابة ما أكتبه، بمرارة، الآن، ولم أتبنى موقفاَ جديدا من الرجل. قلت انتظر، فربما يعود الفارس إلى صهوة جواده من جديد، لعلها كبوة مؤقتة لا أكثر، فالكبار لهم سقطاتهم أيضا، على خطورتها، ولكنها تبقى قابلة للتعديل.. إن شاء أصحابها..؟

لم انتظر، وننتظر طويلا، حتى أطل أدونيس علينا للمرة الثانية، عبر جريدة السفير اللبنانية هذه المرة، معلناَ عما لديه من اقتراحات قديمة وناعمة ـ للسيد الرئيس -، قديمة هي، لأننا سمعناها مرارا وتكراراَ منذ تولى الوريث عرش أبيه. وقديمة هي أيضا لأنها تجيء في غير زمانها ومكانها. فلعل رسالة الشاعر تصلح، إن صلحت، للنشر في العام 2005 مثلاَ. وليس الآن… ليس الآن أبداً، فهناك، في هذه اللحظة. في اللحظة التي خط أدونيس رسالته إلى الرئيس، وفي لحظة نشرها. ولحظة تلقيها الصادمة، تتساقط الجثث على طرقات الشام، وترتفع، مع كل شهيد جديد درجات الألم.

وناعمة رسالة أدونيس بقدر ما هي بالية.. مربكة قليلاَ.. تلتف من حول الحقيقة ولا تصيبها. تلمس الجروح أحياناَ وتخفف على الفور من حدة أوجاعها. تقول بالإصلاح والتغيير، وتنتظر من النظام الذي يعرف أدونيس جيدا أن صلاحيته كنظام حاكم، منتهية منذ أمد بعيد. وأن قدرته على التغيير بالتالي لا تنسجم بأي حال مع بنيته العقائدية السائدة. وأن الشعار المرفوع الآن في سوريا هو إسقاط هذا النظام وليس تجميله المضحك من الخارج، ليس النزول بسقف وحشيته قليلاَ، بل التخلص الكلي من تلك الوحشية، وليس، قبل هذا وذاك، الوصول إلى مخرج توافقي، يبقى الراعي بموجبه راعياَ والأغنام أغناماَ. فعن أي ممكن ومُنتظر يتحدث الشاعر. وإلى أي رئيس يوجه صيغة الرجاء هذه: – سيدي الرئيس – ؟؟

صدمة من العيار الثقيل هي الرسالة الثانية لأدونيس.

صدمة شخصية وثقافية وإنسانية عامة ترفع من ضغط السؤال الجوهري:- إلى أين يريد أن يصل.. وماذا يُخفي في جعبته، إن أخفى؟ وهل هناك ما هو غامض وعلينا تفسيره في موقف المفكر الواضح عادة، والشاعر الذي لا ينزلق بسهولة وخفة في حفر السلطة ومكائدها.. وها هو ينزلق؟؟

عدت إلى الرسائل القليلة القديمة مجدداَ. إلى ما دونته نقلا عن الشاعر في دفتر العام 1997، وعدت إلى الكثير مما لدي من أعمال تحمل توقيعه، لأبحث عن قاسم مشترك بين كل ما ذكرت، وهذي الرسالة الأخيرة الكارثة، فلم أجد… هل هناك ما هو موجود ولم أعثر أنا عليه؟ هل قدم أدونيس لمثل هذه المواقف الصادمة سلفاَ.. ولم أنتبه؟ أم أن النار حين تقترب من عقر الدار تأخذ في طريقها كل ما هو ثابت، وتفتح الطريق إلى كل ما هو متحول وباعث على الألم، وهل وصلت النار حقاَ إلى دار الشاعر، وما اسم تلك الدار أصلا التي يخشى عليها أدونيس من التلاشي.. هو القاطن أبدا بعيدا عن الدار بمعناها المجازي. بعيدا عن العشيرة بمعناها الضيق. وبعيدا عن المقدس السطحي وما يشير إليه أو يحيل عليه؟؟

إلى أين يريد أن يصل أدونيس فعلاَ؟ ماذا يود أن يقول. وعن أي شيءِ يدافع.. وكيف اقرأ أنا الآن رسالته الأخيرة، وأساويها بمقولته الجميلة الآتية، بهية الحضور في الذاكرة.. رفيعة المعنى. والتي أكررها للمرة الثانية، واختم بها: (لن يتمكن العالم العربي من التقدم خطوة واحدة إلى الأمام مع وجود هذه الأنظمة الظلامية… تجاوزها هو الذي سيفتح الباب أمام مستقبل أفضل..) .

فيينا 2011

 

أدونيس.. سقوط مثقف

إيمان العقيل

عجيب أمر بعض المثقفين، الذين قادوا مسيرتنا الثقافية ردحا من الزمن.. يلبسون عباءة الفيلسوف، ويتقدمون المحافل والمنتديات، ويعظوننا بالحداثة التغيير، نبذ المألوف، ومحاربة الموروث.. كل موروث عدا الموروث السياسي!

أدونيس كاتب أشعل ثورات ثقافية في العالم العربي، ومجّده الكثير من مثقفينا ردحا من الزمن، حتى بلغ بالبعض مرحلة الأيدلوجيا ورفع شعار: من لم يقرأ الثابت والمتحول فليس بمثقف! هذا الكتاب الموغل في التشكيك بالكثير من الثوابت التاريخية والدينية.. كان «انجيل» فيلق من المثقفين في فترة مضت.. وكان القوم يُقسمون الى فسطاطين «مع وضد» أدونيس..

المثقف هو الحارس على أمن المجتمع الفكري والثقافي، والمستأمن على قول الحقيقة، وهناك المثقف المتلفع بثياب الطائفية والمثقف الحر.. وعند امتحان تلك القيم تكشف معادن المثقفين فليس كل ما يلمع ذهبا.. في مطلع الثمانينات الميلادية احترقت ضمائر الأحرار في العالم على ما حدث من تدمير وحشي وقتل جماعي شهدته إحدى مدن الشام، وضجت دوائر حقوق الانسان بوقائع تلك المجازر التي بلغ ضحاياه عشرات الآلاف من الأبرياء.. أقول في تلك الفترة العصيبة التي احترقت فيها مدينة تقع في مرمى سمع وبصر «المثقف الطليعي»؛ كان صاحبنا يستمتع بسحب أنفاس غليونه، وهو ينظّر من برجه العاجي عن «الحداثة»، في انفصال مقيت عن الأدوار الحقيقية للمثقف تجاه قضايا مجتمعه.

واليوم.. وبعد ثلاثة شهور من قتل الأطفال وترويع الأهالي وسحل الشيوخ والرقص على الجثث والتمثيل بها، يصحو مثقفنا وينطق علينا وعلى شعبه المكلوم بخطاب هزيل وكلمات مترددة في حديث هلامي، تذكرنا بمقطوعاته الحداثية في الثمانينات الميلادية على طريقة:

في ذقني مسمار

في حذائي شوكة

أتنفس في الجغرافيا

انتهى

يا سيدي شعبك هناك يذبح.. يقتل.. يسحل.. وأنت من ناديت إلى الثورة على الواقع وتحطيم أوثان المألوف والموروث.. ما لك «ترتد اليوم» وتقدم لنا خطابا بائسا تقليديا موغل بالبرود وتقديس الوثن. والحق يقال أن زلزال التغيير العربي لم يضرب بعض الأنظمة المتكلسة فقط، بل تجاوزها إلى خلخلة قواعد البنية الثقافية التي أوهمنا «مافيا الإعلام» في فترة مضت أن المثقف الحقيقي لا بد أن يمر على كتب أدونيس وتقديم قرابين الولاء له..

إنها النهاية الحتمية للمثقف المزيف الذي طالما صدع رؤوسنا بدور المثقف الطليعي وأهميته في قيادة مجتمع نحو النهضة والتقدم.. وعندما دقت ساعة الحقيقة وجدنا جَمجَمة ولعثمة، كلمات مرتعشة، وحديث مخاتل، وخطاب خشبي.. ليقول نصف الحقيقة، أشبه ما يكون بقتل الحقيقة!

*نقلا عن “المدينة” السعودية

 

في ضوء اللحظة الشعرية السورية.. أدونيس وفتىً اسمه حمزة الخطيب

المثنى الشيخ عطية

في اللحظة الشعرية السورية يبدع السوريون ربيعهم بالتظاهر، يراكمون النسغ الحي داخل نباتات أرضهم بالدم الذي ينزف من شهدائهم، ويقدّمون الشهادات… أمام الدبابات يقف الفتيان عراة الصدور في تأكيدهم على سلمية احتجاجهم، وبدلاً من أن يحملوا الأكفان، الفتيان يخرجون عراة الصدور، لتتولى أمهاتهم إن حصلن على جثثهم بعد ذلك تكفينهم بالأبيض والورد وأغصان الزيتون والدموع والزغردات… فتيان سورية يبدعون ربيع حريتهم في الشوارع، قتلى لكن شهداء عيانٍ أمام العالم، عراة لكن بهاتف محمول: “أطلق عليّ النار، لكنني سأصورك”.. و”تعالوا انظروا الدماء في الشوارع”…

****    ****    ****

في اللحظة الشعرية السورية، يتكشف جوهر الصراع، ويتكشف الخوف من مواجهة هذا الجوهر، يتكشف التعامي الذي يقود إلى محاولات بائسة خرقاء في إخفاء هذا الجوهر الذي يتبلور في: نظام وشعب، مع تسليم بميكانيكية هذا التقسيم للاختزال، من جهة: نظام يقوم على حكم العائلة، أقامه بالقوة والاغتصاب أب هو حافظ الأسد، وورّثه بكامل القصدية والتدريب لأبنائه، ليشيع ما سمّي بالجمهورية الوراثية، بعد أن ركّب على هذا المحور عائلات أصغر ربط مصلحتها بمصلحته وغرّى هذا الرباط بالفساد ليجعل حياتها من حياته، وسلّح هذه التركيبة بقوى الأمن والمخابرات والشبّيحة، وحاول ربط الشعب بها من خلال أسوأ ما تتضمنه إيديولوجية البعث القومية الاشتراكية من شمولية، ومن شعارات خدّاعة حول المقاومة والممانعة، وحماها بقوة الأمن العارية من الضمير، وبقوة إشاعة الخوف وإرهاب الشعب بالمجازر.. نظام وجد نفسه يواجه ما صنعت يداه بالشعب السوري في ظل التغيرات والثورات الجديدة… ومن جهة مقابلةٍ: شعب هو الشعب السوري الذي يملك تراثاً تاريخياً في إبداع المعرفة، ولديه تجارب غنية في الاستقلال عن المحتل وبناء الديمقراطية، ولديه أحزاب مدنية ومعارضة ديمقراطية حاول النظام دون جدوى قهرها وشراءها وتفتيتها بالقمع والسجن والتشريد والقتل، شعب وجد نفسه يواجه نظاماً عائلياً مافيوزياً دمّر حياته المدنية وطموحاته في بناء الديمقراطية، وجعل البلاد مزرعة والشعب أغناماً لذئابه… وفي مواجهة هكذا شعب لهكذا نظام، وبمظاهرات سلمية تطالب بالحرية من هكذا شعبٍ لهكذا نظام.. ارتكب النظام مجازر بحق المدنيين تصنّف كمجازر ضد الإنسانية، وطرح الشعب السوري شعاره وأصرّ عليه: “الشعب يريد إسقاط النظام”، وبلور لجاناً تنسيقية ومقدماتٍ إبداعية لإنجاز ثورته الديمقراطية، ولم يعد ينفع في هذه اللحظة التعامي عن هذا الجوهر ومحاولة إخفائه بخلط المعطيات والتباكي البائس على مصير سورية، وطرح مقولة التداعي إلى الإنقاذ الوطني بقيادة أو مشاركة النظام التي تصب دائماً في الاصطفاف مع النظام، وإعداد ضحايا تركيبة هذا الإنقاذ مثل حزب البعث ولا شرط أو اتهام بالتنسيق، كما جاء في خطاب أدونيس للرئيس…

****    ****    ****

في اللحظة الشعرية السورية، من قلب مستنقع الثبات والموت الذي فرضه النظام الوراثي على الحياة السورية يجري نهر التحوّل، يجري التحول بالخوض في نهر التحول حيث لا خوف من الفوضى عندما تُطلب الحرّية، حيث “لا يستحق الحرية من يخاف الفوضى”، ويجري الهروب كذلك بمقولات من يتحجج بالدم، ومن يريد للثورة واهماً أن تكون مرسومة بمسطرة وقلم، يجري نهر الاختلاف وحق الاختلاف.. يقف الشاعر الكبير أدونيس في البداية من على ضفته، وطويلاً متسائلاً عن عمق السلفية في هذا الجريان، طالباً “أن يتغير الشعب نفسه قبل تغيير حكامه” وفقاً لاستخلاص الباحثة دلال البزري.. ومع نزيف دم اللحظة الذي يفرض اتخاذ المواقف، يكتب موقفه، بخطاب للرئيس لا يبتعد فيه عن وقفة تأمله الأولى وإقراره للرئيس الذي طاب له التصدير دائماً في تسويفه لأي إجراء ديمقراطي أن الشعب والمعارضة متخلفان عن مفهوم الديمقراطية، وإن أقرّ أنه “لا يصدق العقل ولا الواقع أن يظلّ النظام العنفي الأمني في سوريا قائماً”.. ويرسم بهذه الثنائية المأزق كما يسميه وضرورة الخروج منه: التأسيس لنشوء الديمقراطية: “ومن البدء، الآن لا غداً” حيث أنه: “بغير الديموقراطية، لن يكون هناك غير التراجع وصولاً إلى الهاوية”… لكن هذا الرسم وباستهلاك ألفين وأربعمائة وخمساً وعشرين كلمة خارج سياق الواقع والأحداث، يزيح صورة جوهر النظام مستبدلاً إياها بتماثل مختلق بين إيديولوجية النظام الشمولية الرثة وبين فكر المعارضة الديمقراطية المتآلف حول المطالب الرئيسية والمتخالف في ألوانه كما يفترض في الديمقراطية، مع اختزاله للمعارضة أيضاً إلى معارضة سلفية يقف ضدها رغم  مواقف سابقة له بمدح إمام السلفية الخميني في قصيدة وبـ “إدراج إمام السلفية محمد بن عبد الوهاب في فكر النهضة”، وفقاً للباحث صبحي حديدي، وتحميل المعارضة المسؤولية، مثل حزب البعث وليس مثل قادة النظام، مع تجنيب قائد النظام وقائد البعث الأول والثاني أي مسؤولية.. إذ يجد حزب البعث نفسه بتصور الشاعر: “أنه متَّهَم ومسؤول تماماً كمثل الجماعات التي تعارضه، عن الانهيار الآخذ في التحقّق، انهيار سوريا وتشـــويه صورتها الحضارية بوحل “الطائفية” و”العشائرية” و”المذهبية” ووحل التدخل الخارجي ووحل التعذيب والقتل والتمثيل بجثث القتلى”.. مع جلد حزب البعث الذي يعني كما يعبّر الشاعر عباس بيضون حول ذات الموضوع: “اتهام الثوب والعفو عن الرجل، اتهام القناع بدلاً من تعرية الوجه. أمثلة الخصم وسحقه فكرياً فيما يبقى الخصم الحقيقي، بعيداً عن السمع، مستريحاً على رأس جهازه الأمني والبوليسي وعلى سلاحه الفعلي”…

في اللحظة الشعرية السورية يركب الشاعر الكبير أدونيس قارب الوهم ومن على ضفة النهر أيضاً، ليخاطب رأس النظام المتهم بالتعذيب والقتل والتمثيل بجثث القتلى وجرّ الشعب المصرّ على مظاهراته السلمية إلى الحرب الطائفية.. أن يقود التغيير، لأن المعارضة كما يرى في خطابه هي عدوة التغيير، وأي تغيير: إلغاء المادة الثامنة من الدستور التي تفرض حزب البعث قائداً للدولة والمجتمع، الحزب الذي يعيش كما يقول الشاعر مأساة “أن يحاربه معارضوه، هو الوحدوي القومي العلماني… إلخ، تحت راياتٍ بينها راية «الطائفية» أو راية «جمعة العشائر» بعد هذه الفترة الطويلة من سيادته وحكمه باسم العلمانية والتقدمية”.. وطبعاً خارج توصيف طبيعة النظام، خارج مسؤولية قادة النظام، وخارج سياق وصول الواقع إلى سفك النظام واستباحته لدماء الشعب السوري شباباً وشيوخاً وأطفالاً ونساء، وتهديد استقرار المنطقة بتهجيرهم من ديارهم هرباً من القتل والاغتصاب، وخارج طروحات الثورة الديمقراطية السورية التي تطرح بجميع فئاتها تغيير النظام الشمولي الوراثي إلى نظام ديمقراطي تعددي.

****    ****    ****

في اللحظة الشعرية السورية تزهر التمنيات، وتتسلّق المرارات، وتفصح التجليات عن نجومٍ هاديةٍ وظلامات.. يحمل الشاعر الكبير أدونيس بما يملك من مكانة عالمية بعض أطواف نجاة،  ويريد منه بعض محبيه من شعبه ومن كتاب وشعراء، أن يلقيها للناس، لا إلى سفينة النظام الغارقة في الدماء، أن يخاطب إن خاطب هو الذكي العارف أكثر من غيره قاتلهم باسمه صراحة أن يكف عن قتلهم، أن يستخدم خمس كلمات مثل “تعالوا انظروا الدماء في الشوارع” كانت كافية لنيرودا كي يُظهر جثث ضحايا الفاشية للعالم فيحفر في صخر القرن العشرين أمثولة إدانة الشاعر للقتل ووقوف الشاعر إلى جانب الضحية، وانتصار الشاعر إلى الإنسان.

****    ****    ****

في اللحظة الشعرية السورية، تستعاد التسميات ويعاد إنتاج ما يلقّح الحياة منها بمقومات جريان الحياة،  تعاد صياغة الربيع السوري القتيل وجنّات/ آدون، عدن، دوموزي، تموز، والصيغة اليونانية الكونية له: أدونيس.. بفتى خرج لنقل المؤن إلى أهله المحاصرين في درعا، فتى بشّرت به ديانات خصب الربيع الآدوني السوري، ومن بعدها دين المسيح الفلسطيني السوري، ودين محمد العربي السوري، وتراث الشهادة الحسيني الحلاجي المهياري الإسلامي السوري.. فتى في الثالثة عشرة، فتى في عمر التحول، فتى لا توحي براءة وجهه بسوى أن يكون أيقونةً، فتى اسمه حمزة الخطيب.. ليقبض عليه مسوخ نظام العائلة، ويعذّبوه بصورة أقسى من صورة بسمرة المسيح على الصليب، وليقطعوا في دلالة رمزية عن محاولة تعويض عقمهم ومحاولة إيقافهم لخصب الربيع السوري، عضو الإخصاب فيه.. وليرسلو جثته مشوهة على هذه الصورة إلى أهله، أمثولةً عن بطشهم بمن يساعد المحتجين.. غير أن السوريين في لحظتهم الشعرية وببساطة لا شرط أن تكون مدركةً، ومثلما فعلوا قبل ذلك بالعضّ على جراحهم وإرسال صورة قيامة مسيحهم إلى العالم، يزرعون جثة طفلهم في جسد الأرض، ويرسلون صورة فتى ربيعهم، مع صورة أيقونة وجهه المنير كما زهرة تتفتح في ضوء، و: “هذا هو نظام المسوخ القتلة، هذا هو النظام الذي يقتل ويمثّل بجثث الأطفال، وهذا هو طفلنا، هذا شهيدنا، هذه هي معجزات خصب ربيعنا، معجزات مسيحنا، معجزات محمّدنا، معجزات فتياننا، وكلنا حمزة الخطيب”.

في اللحظة الشعرية السورية، يبدع السوريون وجه سورية الجميل، ببساطة بطولاتها، نعواتها لشهدائها الذين تزفهم كعرسان، ابتكاراتها لتنسيقياتها، نسجها لعلمها بأيدي أمهات شهدائها، إطلاقاتها الإبداعية لجُمعها وباختلاف واتفاق تسمياتها، لكن بإصرارٍ على وحدة الشعب السوري بجميع أديانه وقومياته وطوائفه ومذاهبه وعشائره.. يبدع السوريون وجه سورية الجميل ماسحين صور التعذيب والقتل والتمثيل بالأحياء والأموات من قبل المسوخ القتلة، بصورة أيقونة شهيدهم الطفل التي تمثل براءة توقهم الذي لن يتوقف إلى الحرية…

****    ****    ****

في اللحظة الشعرية السورية.. تتفجّر شقائق النعمان في سهول حوران، لتعم حقول الوطن السوري الجميل، تتنادى الفتيات والفتيان، تقدم الزهرة الشقيقة ثوبها قانياً للشاعر، لكن يالشقاء الشاعر، يعجز عن ارتداء شعر الأرجوان النفيس، فيخفي دمعته بنثر بائس لرئيس أسقط شعبه شرعيته كرئيس.

أدونيس: في حضرة تاتانوس

نادر قريط

أدونيس شاعر كبير بلغ الثمانين، ولم يسأم تكاليف الحياة. هو شاعرٌ، قد لا تستعذب مهياره الدمشقي وثابته ومتحوّله، لكنه كبيرٌ، بإسمه الذي يطوف على الألسن، كذا هي الدنيا تحجب أسرارها فتمحو حدود العبقرية بين رسوم بيكاسو، وشخبطات الأطفال.. كذلك هو الشعر، فعادة ما أستنشق ياسمين شعر القباني، حتى وإن تجشأ سياسةً. وقلما أتذكر أدونيس حتى وإن رسم أفروديت على شطآنه. لا أدري لماذا؟ ربما أكون كبعض الدهماء جاهلا أحمقا! وما المشكلة! فلولا الجهل لما كان العلم ولولا أكتاف الحمقى لشقّ طريق الصعود.

المهم أن إسم الشاعر الكبير جذبني لقراءة رسالته إلى الرئيس السوري (السفير 14ـ6 ـ2011). وإذ لا سبيل سوى للإقتباس الحرفي، فأعتذر مقدما لهذه العادة القبيحة التي يستغلها البعض لتبعيض المحتوى وإجتزائه. عليه سأحاول رؤية النص بعين ثالثة، علّها ترى ما لم تره الأعين.

يخبرنا أدونيس في مطلع رسالته، بأن طريق الديمقراطية شاقٌ طويلٌ ويتوجب السير فيه حالا، وإلا فالمصير هو الهاوية، والديمقراطية التي لم يعرفها العرب حاضرا وماضيا تشترط كما يقول:

“الخروج بالمجتمع، ثقافيّاً وسياسيّاً من «زمن السماء، الجمعي والإلهيّ»، إلى «زمن الأرض، الفرديّ والإنسانيّ»“ أي “الفصل الكامل بين ما هو دينيّ وما هو سياسيّ واجتماعيّ وثقافيّ (..) ويضيف: لا ديموقراطية أساساً في الدين (…) دون مساواة، لا حقوق. لا اعتراف بالآخر. لا ديموقراطية” (إنتهى)

في الحقيقة لو أن ما قيل أعلاه أتى في محاضرة عامة، لربما صفقت مجاملة (رغم صفاقة الموضوع) لكنه أتى ضمن رسالة معنّونة لرئيس دولة وقائد عام، يتنقّل بآلة القمع الحديدية بين بلدات ومدن ناشرا فيها الرعب والدم. فما معنى أن أطالب ببدء الدمقرطة حالا.. وكيف؟ بإشتراط فصل السماء عن الأرض؟

أولم يكن من النافل أن أطالب وبدون فأفأة، بفصل جنازير الدبابات عن أجساد المدن والقرى، وفصل أحذية الميليشيات عن ظهور الناس العُزّل، قبل أن أفكر بالسماء والأرض وما بينهما. فكيف يمكن الحديث عن دمقرطة دون ضمان “حق الحياة والكرامة الآدمية” ومن ثم “حق الكلام“!

فزجّ الجيش بوجه الناس ليس تهديدا له وحسب بل لفكرة الوطن، إنه تجريف مسبق لأية ديمقراطية افتراضية..هذه الخاطرة لم تُلحّ على الشاعر الكبير، بل أتت عبر مقولة شعرية بيداغوجية مفادها:“لا يمكن لأية قوة عسكرية مهما كانت مدججة أن تتغلّب على شعب، مهما يكن أعزل” مع أن التجارب التاريخية تشي بأمثلة كثيرة تفنّد هذه المقولة..

ولكي لا نمّلي أو نصادر رؤية الشاعر ومساره، من الأجدى أن نعاين ما علق على شبكة دلالاته.. وهنا سأكتفي بثلاث نقاط تقع ضمن المساحة الرمادية والقاتمة، فوظيفة النقد ليس كيّل المدائح ولا الشتائم بل إستنطاق الصامت في النص والمسكوت عنه..

فعندما يعتبر أدونيس العَلمانية (فصل الدين عن الدنيا) فرض عين على الديمقراطية (آلية حكم الشعب) وشرطا لها. يكون قد سقط بتشويش ذهني، وخطأ صادم. فكلاهما (العلمانية والديمقراطية) وإن إقترنا في عصر الحداثة الليبرالية الحالي، وإشتبكا عمليا ومفاهيميا، لكنهما يظلّان من ثوبين مختلفين، فالأولى هي ثقافة ومنظور لرؤية العالم، والثانية (الديمقراطية) هي آلية للحكم عرفتها أثينة الآلهة القديمة وتركيا أردوغان، وماليزيا والهند واليابان، ولم تقتصر على الثقافة الأوروبية.

ومن حيث المبدأ فإن إشتراط العَلمنة ليس ضمانا لتحقيق حكم الشعب (أو حكم قواه المنتجة) فالمعلوم للقاصي والداني أن أعتى الفاشيات الدموية في التاريخ المعاصر كانت علمانية بإمتياز. فلماذا يسهو الشاعر عن هكذا بديهية؟! ألا يكفي العودة إلى الرسائل الفيدرالية لآباء الإستقلال الأمريكي أمثال جيفرسون وواشنطن وتوماس بن لنكتشف باليقين أن أمريكا (الديمقراطية) قامت على سلفية بروتستانتية (وإستعادة فكرة الشعب المختار) وأن تلك الرسائل أجابت على سؤال “ماذا نريد أن نكون؟” بشكل حاسم وقالت: “نريد أن نكون مملكة الرب”

أما لماذا إشترط أدونيس على الديمقراطية السورية المُفترضة، مسارا قسريا لائيكيا؟ الإجابة لاشك تكمن في شعوره القلق وخشيته من خطر يَعتقد أنه داهم ويتهدد مصير الأقليات في سوريا، مأخوذا بفداحة تجربة صناديق الإقتراع العراقية، التي أثمرت عن قروسطية يتحكم بها ساسة الطوائف وباعة (المسابح والخواتم وكواتم الصوت) وهنا أيضا يتعذر فهم الشاعر، الذي طالما تأفف من المقدس الإسلامي وتأويله الأرثودكسي، بينما ظلّ وفيا لثورة الإمام الخميني، ومتمثلا للروح الفوكوية المناصرة لحكم الشعب؟!

لكن السؤال المركب: هل بإمكان أفكار (أو هلوسات وأمنيات) تغيير الواقع وشبكة علاقاته المادية والرمزية (قوى الإنتاج، رأسمال، الطبقات،الشرائح مجتمعية. نظام الحكم..الدولة ) وهل يمكن توليد واقع جديد من خلال إصدار فرمانات ودساتير؟ وبكلمات مكررة: هل يمكن تخفيف حرارة الصيف بإلغاء شهر يوليو (تموز) من الروزنامة؟ وهل تتغيّر قبيلة من عراة غابات بوتسوانا الأفريقية، من خلال تلقينها دروسا في الفيزياء وحضورها مسرحيات غوغول، وسماع موسيقى باخ؟ أم أن لأولئك لغة ومفاهيم ورموز ترتبط عميقا ببيئتهم وظروف الإنتاج والمعاش التي عاشوها ويعيشونها..

المعذرة لم أقصد بهذا المثال الفج، العودة لما قبل الحضارة، فدأب الشاعر أن يتغنى بسوريا موطن الأبجدية، وإله الجمال والخصب „آدون” لكن هذه السورية المُتخيّلة إنقرضت (ابستمولوجيا) وما نراه أمام بصرنا وبصيرتنا مزيج من العصبيات والتوحش والتعذيب القروسطي ونزوع مضطرد نحو “الحيونة” وسحق إمكانية بلوغ “الأنسنة”.

ومن المؤسف أن يصمت الشاعر على هذا العنف الدموي العاري والإعتقال والتعذيب .. ومن الحيف أن يلجأ للتحذير من العنف “التهييجي” لطيف من المحتجين، فهاته المساواة الأدونيسية تفتقد أساسا للعدل من حيث عدم تكافؤ الفعل بين قوة الطرفين (السلطة وخصومها). ومن حيث أن العنف المقاوم ليس إلا صدى وإنفعال لعنف وترهيب مارسته وتمارسه أجهزة السلطة الغليظة، إضافة إلى أن كلّ العنف التهييجي المضاد يعود لموروث قانون العصبيات، الذي يحتجّ على الدم بالدم، لهذا أتعجب كيف أن أدونيس لم يرَ في سطوره ثقل الإنتفاضة السلمية ذات الطابع القرباني المسياني التحرري، وكيف جفّ قلمه ورفع صحفه دون أن ينحاز لها بكلمات صريحة، وكيف غفل عن أنها إنتفاضة لسواد من الناس، أوصدت أمامهم أبواب الحرية والحياة الآدمية الكريمة.

إن ما يجعل نافل الكلام محض لغو، يعود إلى لغة التمويه التي فرضها الشاعر وألقى بحمولتها، فإطنابه في موضوعة حزب البعث، جعلت من خطابه أشبه بسفينة شحن، مُستأجرة لتهريب كيس طحين.. فعندما يقول للرئيس: “يبدو أنّ قدرَك هو أن تفتدي أخطاء هذه التجربة. أن تعيد الكلمة والقرار إلى الشعب” لا ينسى أن يضيف: „ ولا بدّ، بوصفك خصوصاً رئيساً منتَخَباً من أن تمهّد لتداول السلطة بموجب اقتراع حرّ بلا شروط مسبقة..” (إنتهى الإقتباس) ما هذا؟ فإذا كان الأمر كذلك، لمَ كان علينا تحمل وزر هذه اللطمية والمناحة، ولأي سبب دوّخنا أدونيس بكلامه عن الديمقراطية وشروطها السماوية والأرضية؟ ألا تنسف هذه المقولة كل ما ساقه من ذم وقذف بحق المغفور له “حزب البعث العربي الإشتراكي” .. أم أن أدونيس مستشرق قرأ تاريخ سوريا عبر ترجمات رديئة؟؟ ألم يتناهى إلى سمعه بأن حزب البعث لم يكن قط حركة فكرية أو طبقية ولم يؤسس لنظام شمولي مؤدلج (على طريقة الشيوعية التي إخترقت النسيج الثقافي للمجتمعات) بل كان أشبه بمنتدى شعائري (لإحياء الموتى) أسسه بضعة أدباء وخطباء من الدرجة الثانية، ثم ما لبث أن تمزق منتصف الستينيات، على طاولة القيادة القطرية، حيث المسدسات المحشوّة لقادة عشائر الجند (أمين الحافظ، صلاح جديد حافظ الأسد.. وفي العراق صالح عماش وحردان التكريتي وأحمد حسن البكر وو) فهل صحيح يا ترى أن نعلّق ما يجري على مشجب حزب متوفّي لم تكن شعارته إلا فرقعات صوتية؟ وحتى لو سلّمنا بأن للحزب أرضا وأفكارا وقف عليها..فما علاقته يا ترى بكل ما يجري من توحش وترويع.

الحقيقة أن أدونيس حاول بفهلوة وتذاكي تفادي صلب المسألة، وهي أن نظام الحكم (كما في عراق صدام ومصر وليبيا واليمن) قد قتل مبكرا مبادئ الجمهورية ودخل في نظام “السلالة الحاكمة” التي يحميها “قادة الجند” تلك هي المسألة وذلكم هو الرافع الحقيقي لشعار: الشعب يريد إسقاط النظام..

النقطة الثالثة التي تسترعي إنتباه الملاحظ هي موقف أدونيس المحيّر من الغرب وبالخصوص الأمريكي وتكراره لنفس المحتوى في مقطعين، يقول حرفيا في أحدهما: „لكنه (يقصد الغرب) «موفَّقٌ» في «الحجّة» التي تقدمها له سوريا، وفي «التسويغ» الذي يتيح له أن يقنّع استعماره الجديد بالدفاع عن الإنسان وحقوقه. هارباً من المعركة الحقيقية: معركة الإنسان وحقوقه في فلسطين” (إنتهى)

هنا بالذات يبدو لي أن الشاعر لم ينسَ رفع “قميص عثمان” على المنبر، أقول هذا رغم أن إسرائيل دولة أبارتهايد عدوانية قامت على عذاب شعب وتشريده، وبالتأكيد فإن وراء صورة فلسطين يتلطى دراكولا السياسة الغربية.. فما قاله أدونيس حق.. أراد به دغدغة وتكرار ما يُطرب أهل الحي. فمعركة الإنسان الحقيقية ليست (كما يزعم) بإسترداد حقوقه في فلسطين, بل في كل موقعة أخرى تُنتهك فيه كرامة الإنسان وحقه في الحياة والعدالة. ولعل السؤال الذي يلوح بالذهن: هل سيجازف الشاعر بتكرار تلك العبارة يوم 28 أغسطس 2011 تحت قبة كنيسة القديس بولس، حيث ستقام مراسم تقليده جائزة غوته الرفيعة، التي تقدمها مدينة فرانكفورت لآلهة الأدب؟ بكل حال وكي أخسر الرهان بجدارة، أتمنى أن يعيد مقولته تلك حرفا حرفا

ختاما.. وبعد أن وصلت سفينة أدونيس موانئ السياسة (محمّلة بكيس طحين) سأكتفي، تاركا لمن يريد إضاءة ما تبقى. والخلاصة فإن رسالته لا تُسمن ولا تغني ولا تزيد من فقه ولا جهل، لكنها تظلّ دعوة مفتوحة لإستئناف الصمت

ملاحظة: كُتب النص بتاريخ 18ـ 6ـ 2011

 

 

تعقيباً على رسالة أدونيس «الرئاسية»

«سوريا للسوريين».. وليست مُلكية جمهورية لأحد

نصري الصايغ

Iـ دفاعاً عن ديموقراطية قادمة لأدونيس، مقام في الشعر، بلغه على «جسر من التعب» (أبو تمام). وله. مقام في الفكر، بلغه في حثّ التراث، ثباتاً وتحولاً، وله، مقام في العالمية، وقفت أمامه «نوبل»، صامتة. وله مقام في إشكاليات العرب، أثار فيها عواطف شتى، وله ما يشفع له من مخاطبة الرؤساء، ومنها «السيد الرئيس». لأدونيس كل ذلك، وأكثر من ذلك أيضاً. أكثر بكثير. غير أن رسالته إلى «السيد الرئيس»، أساءت إلى الديموقراطية وإلى الديموقراطيين، عندما جعلت من الديموقراطية، مشروعاً مؤجلاً، تقوم به، أجيال لم تولد بعد، وتحتاج ولادتها، إلى تعلم الديموقراطية، كلاماً ومعاني في كتاب مفتوح على الفكر، لا يتصل بأدوات الواقع، الذي اختزن من الديموقراطية والحرية والنبل، ما يفيض على قرن عربي سالف. انحاز أدونيس ضد هذا «المستحيل المؤقت» (الديموقراطية)، مفتتحاً بانحيازه هذا، نص رسالته، معلناً لسيادته أنه «لا يصدّق العقل ولا الواقع ان الديموقراطية سوف تتحقق في سوريا، مباشرة بعد سقوط نظامها القائم… (حيث) لا تنشأ الديموقراطية في سوريا، إلا بعد نضال طويل، وإلا ضمن شروط ومبادئ لا بد منها»… لأنه، من نافل القول إن الديموقراطية، سياسيا، لم يعرفها العرب في تاريخهم الحديث. لم يعرفوها في تاريخهم القديم، وهي، ثقافياً، من «خارج التراث العربي». الخ… لأن أدونيس انحاز فكرياً، ضد «الديموقراطية الممكنة» السائرة قدماً في أنحاء البلاد العربية كافة، وجدت أنه من المناسب الدفاع عن هذه «الديموقراطية» السائرة في طريقها إلى إنجاز حضورها، عبر نضال سلمي، مشرّع الصدور، لإنجاز مشروع الدولة الديموقراطية المدنية الحديثة، التي فات أحزاباً وسلطات وعقائد وقيادات وعسكراً وزعامات من إنجازها، بل، يمكن التأكيد على أن هذه الفئات لم تكن مقصرة، بل مضادة، بطبيعتها وبسلوكها وبمصالحها، وناضلت ضد استكمال مشروع الدولة المدنية الديموقراطية العادلة، ونجحت في استدامة الدولة المستبدة والمغلقة. على أني، لن أبدأ الدفاع عن الديموقراطية، من تراث النصوص، بل من تراث النضال الديموقراطي الحثيث، الذي أنجز أولى إرهاصاته في تونس ومصر… والبقية قادمة بلا ريب. II ـ ماذا يعني إسقاط النظام؟ لا معنى لإسقاط أي نظام، إذا كان من يرثه، يشبهه أو أسوأ منه. عندها، يجب أن يُقال، إن النظام ينشق على نفسه، لينجب شبيهه الأسوأ. ولقد حصل ذلك مراراً، عبر انقلابات تلتها انقلابات، أو ثورات مضادة انقلبت عليها ثورات شبيهة بها. تغيير النظام وإسقاطه، يعني ببساطة، في الزمن العربي الراهن، المكتظ بالاستبداد، إنشاء نظام ديموقراطي حقيقي، يكون فيه الشعب، كل الشعب، مصدر السلطة. تونس، أزالت نظاماً استبدادياً، لإحلال نظام ديموقراطي، يصرّ فيه «الثوار» على أن يُصاغ فيه الدستور، وتُسنّ فيه القوانين لتأسيس دولة مدنية، وتخضع فيه السلطة السياسية، لقاعدة المساءلة والمحاسبة، مع استقلال للقضاء، واحترام مطلق للحريات الفكرية والسياسية والإعلامية والدينية. مصر، بعد تونس، تخوض معركة ما بعد إسقاط النظام، بترسيخ الديموقراطية، واعتبار الشعب مصدر السلطة، مع ما يستتبع ذلك من حراك ونقاش، حول هوية الدولة فعلاً، أمدنية هي أم دينية، أم وفق ما قاله الاخوان، دولة مدنية بمرجعية دينية. لقد اشترط أدونيس، لتحقيق الديموقراطية الصعبة، والمحتاجة إلى مسار طويل، ان يخرج المجتمع ثقافياً وسياسياً من «زمن السماء الجمعي والإلهي إلى زمن الأرض، الفردي والإنساني». لا أعرف إذا كان أدونيس، قد اطلع على الزمن التواصلي، الذي أنتج جيلاً شبابياً، بالملايين، يؤمن بأن السماء فوق، وأن الأرض تحت، ويعمل على قاعدة ان الدنيوي يغلب الديني، وأن الفرد قيمة كبرى متحررة، وأنه إذا أضيف إلى الآخر الجمعي، بحريته، لا يخسر فرديته. عنده، هذا الجيل، أنا وأنت، اثنان. لا يلغي أنا الأنت، ولا تلغي الأنت الأنا. هذا جيل جديد. تخرّج من الثقافة الكونية المنتشرة بوسائط الاتصال الاجتماعية. هذا جيل من أبنائنا وبناتنا، عرف بواسطة ما قرأ وما شاهد، ومن خلال ما يتصل به مباشرة أو ما يصل إليه من دون استئذان من ثقافات وتيارات كونية، أنه ابن شرعي، لشرعة حقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق الطفل. وهو ابن حقيقي للحرية، بتلويناتها كافة، السطحية جداً، والعميقة جداً. وهو ابن متفوّق في معرفة الحقوق والواجبات، وملتزم بالمواطنة، ومعترف بالآخر، ويدرك ان النفق الذي يعيش فيه، هو من صنع سلطات وأنظمة مستبدة، أحادية، بلا رسالة، بلا شعار، بلا صدقية، بلا أخلاق، بلا قيم، ويتألم، لأنه يملك من الطاقات، التي يهدرها نظامه وتبددها سلطاته، فيما ينتعش بها الغرب وينتشي، علماً ومعرفة واقتصاداً واكتشافاً. هل هذا الجيل، بحاجة إلى أن يخوض معركة ضد السماء؟ ضد الله؟ لقد حسم الأمر من زمان بعيد. ولأنه كذلك، بات قوياً وشجاعاً. خرج بطاقته إلى ميدان التحرير في مصر، وقبلها في تونس، بشعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، فالتحقت به حركات إسلامية، تواضعت لأول مرة في تاريخها، وقررت ان تكون جزءاً من الشعب، وتحت عباءة الشعب، ثم تجرأت وتواضعت أكثر، وهي القوية والمستقوية، أن تتخلى عن استقوائها، وتضع قوتها، لتحقيق هدف واقعي جداً: إقامة نظام ديموقراطي مدني يفصل بين السلطات، ويضع الدين، كحاضن للأكثريات، في مقام الثقافة والإيمان، وليس في مواقع السياسة. وإذا فعل عكس ذلك، سيسقط الشعب مرة أخرى، دكتاتورية الحركات الإسلامية. III ـ النظام السوري إذا سقط لا غرابة ولا عجب ولا ندم إذا سقط هذا النظام. وإن البديل عن هذا النظام، هو النظام الديموقراطي. إلا إذا ذهب الطرفان إلى المواجهة والحسم. عندها، لا تفكير يتفوق، غير التكفير. التكفير السياسي والمذهبي والعشائري. لنعد إلى السؤال: النظام إذا سقط، ماذا يعني ذلك؟ إن مجرد القبول، ولو المبدئي، بإلغاء المادة الثامنة من الدستور، حيث تعود المرجعية إلى الشعب، الذي منه تفرز القيادة، بطريقة ديموقراطية تكون سوريا، قد خطت الخطوة الأولى، لتغيير النظام. إلغاء المادة الثامنة، أول الغيث. بسقوطها، يسقط النظام. ويستتبع ذلك، ما نوت السلطة في سوريا، تحت وطأة الاحتجاجات، أن تقدّمه: قانون أحزاب جديد لا يسمح بأحزاب دينية أو عرقية.. قانون انتخاب جديد، الكلمة الأولى فيه، للشعب، وليس لأجهزة السلطة وأدوات القمع.. استقلال القضاء، يمنع تحويله، إلى محاكم عرفية، كلما عنّ على بال السلطة أن تعلن حالة طوارئ.. قانون إعلام، يطلق حرية الكلمة والإعلام. ان هذه الرزمة، لا تحتاج إلى نظريات… بل تحتاج إلى تطبيق، والمشكلة، ليس كما يقول أدونيس، في غياب الديموقراطية عن تراثنا القديم (لم تكن في التراث الغربي القديم، وديموقراطية أثينا الأولى، لم تعش غير أعوام قليلة)، وليست المشكلة في غيابها عن تراثنا الجديد، وتحققها سياسياً، بل المشكلة في قمع واستبداد السلطات، التي جعلت من الديموقراطية، بعبعاً يهدد وحدة المجتمع. سئل الرئيس مبارك، إبان زيارته لمعرض الكتاب في القاهرة، لماذا يا سيادة الرئيس، لا تفتح الباب ولو موارباً للديموقراطية. أجاب: «يخرب بيتك. هل تريد أن تخرب مصر؟». كان النظام، يصرّ، بكذبه وتلفيقه، ويمنع الديموقراطية، ويعتقل أبطالها، بحجة أنها تهدّد وحدة المجتمع، وعليه، قامت السلطات العربية، بإيجاد عدو داخلي أول: هو الديموقراطية. يا أستاذ أدونيس، الديموقراطية الواعية المناضلة الكفوءة المدنية… كانت في السجون، ولم تكن لأنها دينية، بل لأنها كانت تؤكد على استعادة الشعب لمرجعية الدولة والنظام والسلطة. الديموقراطية، شرٌّ فاجتنبوه، وإذا سمحتم للديموقراطية بولوج السياسة، فإن القادم على صهوتها، ستكون الحركات الإسلامية. غلط. الحركات الإسلامية ابن للاستبداد. ابن السلطة المحتكرة. السلطة المغلقة. السلطة التي لا تحاور. السلطة التي تتهم وتصدر أحكاماً وتعتقل. الأخوان، كغيرهم من الأحزاب. (من هو الحزب الذي لم يسجن في ظل السلطات العربية). كان الأخوان أشقاء للشيوعيين والليبراليين والعلمانيين، في السجون العربية. غلط. الدين ليس ضد الديموقراطية، الدين براء من الاستبداد. ولكنه، عندما يستحضر ليلعب في السياسة، يصبح كأي عقيدة، ماركسية أو قومية أو طبقية، الدين المسيحي، ليس الكنيسة التي حكمت واستبدت في أوروبا على مدار أحد عشر قرناً. الإسلام، ليس ما جسّده المسلمون. التجربة التاريخية أثبتت أن الله لا علاقة له بالمؤمنين به. الله محايد، يحزّبه الناس. يصير بربرياً مع البرابرة، ورحوماً، غفوراً مع الإنسانيين. معيار الألوهة الجيدة، إنسانيتها. وعليه، فالإسلاميون، جزء من الشعب. إذا تأزم المجتمع وغابت عنه الديموقراطية، تنمو الأصولية ويزداد اليمين المتطرف غلواً وعنصرية. أما إذا كان المجتمع منفتحاً، ديموقراطياً، فإن الإسلاميين، سيراجعون واقعهم وينخرطون فيه. تأزم المتوكل، فتعصب وبشّر بالكراهية. أما أردوغان، وقبله أربكان، فقد كانا ديموقراطيين. إسلامهما لم يمنع عنهما الديموقراطية التي تتناسب مع تركيا. لأن لكل بنية ديموقراطية تناسبها. كما ان لكل بيئة علمانيتها… الخ. الشعب يريد… ومن ضمنهم العلمانيون، الديموقراطيون، الليبراليون، الاشتراكيون، السلفيون، الإسلاميون… كل هؤلاء، هم المرجعية، وتحل مشكلاتهم، داخل الأطر الديموقراطية. ولا يخرج من هذا العنوان الكبير (الشعب)، غير الذين يلجأون للعنف. أكان العنف الاستبدادي الذي تمارسه السلطة، أم العنف الديني الذي يمارسه الارهابيون. إذاً، سوريا ديموقراطية، ومن أزمنة سحيقة. لكن الديموقراطيات التي قرعت باب سوريا، تمت تصفيتها، مرة على أيدي الديموقراطيات الغربية بقيادة غورو، ومراراً على أيدي الدكتاتوريات العسكرية، أو على أيدي العصبيات الطائفية، لبنان نموذجاً. IV ـ غورو والملك فيصل أعدم الجنرال غورو، أول دولة ديموقراطية في سوريا الحديثة. لقد جاء في نص مشروع الدستور آنذاك ما يلي: الفصل الأول، في المواد العامة 1ـ إن حكومة المملكة السورية العربية، حكومة ملكية مدنية نيابية عاصمتها دمشق ودين ملكها الإسلام. 2ـ السوريون متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات. 3ـ الحرية الشخصية مصونة من كل تعدٍّ ولا يجوز توقيف أحد إلا بالأسباب الموجبة والأوجه التي يعينها القانون. 4ـ لا يجوز التعذيب. 5ـ لا يجوز التعرّض لحرية المعتقدات والديانات ولا منع الحفلات الدينية لطائفة من الطوائف على أن لا تخلّ بالأمن العام أو تمس شعائر الأديان والمذاهب الأخرى. 6ـ النفي الإداري ممنوع بتاتاً. الخ. مَن يقرأ مسودة الدستور، سيجد انه دستور مدني، عصري، يفصل بين السلطات، ويقيم حداً للسلطة، ويقيم حداً بينها وبين الشعب، المجتمع بحقوقه، والذي يتعامل مع الشعب، كأفراد، وليس كمجموعات قبلية ودينية. لقد قتل غورو ذلك الوليد… وقتلت الانقلابات، الديموقراطيات العربية الوليد، ديموقراطيات العرب في القرن العشرين، لم تكن على ما يرام. إنما، بدلاً من تصويبها، جرى الانقضاض عليها، ودخلنا الخراب العربي الكبير. V ـ من يصدّق المؤامرة؟ من يقف في وجه التغيير، له اعتباراته وله مصالحه وله أدواته وله قواه. التغيير في سوريا، ليس سهلاً، إنما، لا مفر منه. لا عودة إلى الوراء. السلطة استنفدت زمنها. استنفدت قواتها الأمنية. هي بصدد استنفاد قوتها العسكرية. يبقى أن ما لديها، هو الممانعة، خوفاً من ذهاب سوريا إلى المجهول. خاصة أن السلطة تفضل منطق المؤامرة، على منطق المطالب الحقيقية للشباب. يصعب على كثيرين جداً، تصديق المؤامرة. ولنفرض أن المؤامرة حقيقية، لكنها، ليست في هذا الحراك أبداً. «المؤامرة» هي لفك رباط الممانعة مع المقاومة الإسلامية في لبنان، ومع إيران الداعمة لنهج المقاومة في لبنان وفلسطين، ولنهج الوقوف ضد المخططات الغربية. وعمر هذه «المؤامرة» من عمر المقاومة. لم تكن سوريا بمنأى عنها. ولكن سوريا استطاعت أن تهزمها، في لبنان وفي العراق وفي فلسطين… لم تدخل «المؤامرة» إلى الداخل السوري. ظلت تهديداً من الخارج. لذا، يصعب التصديق، عبر مزج وخلط المؤامرة بالحراك والاحتجاجات السورية. كما يصعب تصديق، أن هذا الحراك مدجّج بالسلاح. من دون أن ننفي أن السلاح يتوفر وقد يتوفر أكثر، إذا استمرت المواجهات. فدرعا، لم تكن أبداً نتاج مسلحين ومنظمات إرهابية ومؤامرة خارجية، درعا، وما أدراك ما درعا؟ إنها قصة فتيان وشعارات وجدران وأهالٍ… ومن ارتكب درعا، يتعرّض اليوم لمساءلة سهلة: ممنوعات من السفر، فقط. إذا، لم يكن هناك مسلحون وملثمون وإسلاميون ومتآمرون. وقد يندرج ذلك على مدن وقرى وبلدات كثيرة. ثم، لنفرض أن الجيش اليوم، يقوم بالتصدي للمسلحين. إلا أنه يأخذ في طريقه، المسالمين من المحتجين. المسالمين من الناس المتظاهرين. أما القول، إن الغرب والاستعمار يستفيدان من هذا الحراك، فهذا طبيعي ومنعه ليس بالوقوف فقط ضد الغرب، بل في تلبية مطالب الشعب. ويقال: ان سوريا مختلفة عن مصر وتونس وسواها. هذا صحيح. سوريا ليست مصر وليست تونس. من فضائلها، أنها داعمة للمقاومة وممانعة. عكس أنظمة عربية متواطئة ومتعاملة. غير ان ما يعانيه الشعب في تونس ومصر والبحرين واليمن وليبيا و… الحبل على الجرار، شبيه، حذو الألم بالألم، بما يعانيه الشعب في سوريا… إنه ضحية القبضة الأمنية. ضحية الممنوعات. وبطاقة حسن السلوك المقاومة، لا تعطيه حقاً في ممارسة القمع على شباب التغيير، بحجة أنهم مسلحون ومخربون وإرهابيون. النظام، يهرب من الديموقراطية، لأن الديموقراطية تطيح النظام، وقد تطيح السلطة كذلك، إذا استعادت الحياة الديموقراطية أنفاسها. النظام يهرب من الإصلاح، مهدّداً بذلك الدولة والمجتمع. إذا سقط النظام، استعادت الدولة حضورها واستعاد الشعب منعته وحريته. أما إذا سقطت الدولة، فلا حول… وإذا سقط المجتمع، فلا قوة… VI ـ المثقف في منزلة بين المنزلتين إن من يقف ضد الحراك الاحتجاجي، أو من يخاف من الثورة بحجة انتساب بعضها إلى حركات دينية، كمن يقف ضد المقاومة اللبنانية، بحجة انتسابها إلى التشيُّع. بإمكان مقاومة، ذات انتماء ديني، أن تنجز الإعجاز في التحرير، وبإمكان ثورة بتلوينات دينية ان تنجز معجزة الديموقراطية. المشكلة إذا، في موقف المثقف من ظاهرة سياسية يرفضها فيلجأ إلى تبرير موقفه بالفكر. يتشابه من يقف ضد المقاومة في لبنان، لإسلاميتها، مع من يقف ضد التحرير في سوريا، لشبهة انتماء بعضها دينياً. بئس الثقافة هذه. إن بعض لبنان، يقف ضد المقاومة، إما لطائفيته او لليبراليته. تماماً، كما يقف ضد الحراك، إما لطائفيته وإما لاقترابه من النظام أو لعلة في ليبراليته. لا يجوز للمثقف، ان يمارس ازدواجية المعايير. يجوز فقط للسياسي. وعليه، فلبنان، مقاومته، وسوريا، مقاومتها وحرية شعبها. هذه هي سوريا يا أدونيس… هكذا نعرفها.. وهكذا نراها غداً، وطنا وإبداعاً وحرية ومقاومة.

السفير

 

أدونيس.. محاولة فهم

سمير طاهر

لست معنياً بتناقضات الشاعر علي أحمد سعيد (أدونيس) مع نفسه، بين ما كان يكرره سابقا من توصيفات متعالية وتحقيرية للعرب، بمن فيهم حكامهم، وبين إكباره الآن وعلى حين غرة لأكثر الحكام العرب دموية في التعامل مع الثورات الأخيرة . ما أريده هو أن أقتنع بكلام أدونيس لا أن أعترض عليه. أريد أن أقنع نفسي بأن حزب البعث قد آمن في أي يوم “بالحياة المدنية وحقوق الانسان وحرياته”، وأقلّب في صفحات تاريخ هذا الحزب في سوريا والعراق لكي أقع على شيء من ذلك. مبادئ حزب البعث معروفة (الوحدة، الحرية، الاشتراكية) ولم تكن الديمقراطية بالنسبة إليه سوى حيلة من “الأعداء” للتسلل الى “الثورة” والانقلاب عليها، الأمر الذي يفسر العدائية والسلوك التصفوي للحزب ضد كل من يدعو للديمقراطية. أما حقوق الانسان فكانت دوماً بالنسبة إليه كذبة غَرْبية في سياق الحرب العالمية على الأمة (وهي حرب مستمرة أبداً كما نفهم من أدبيات الحزب)، فيما الحياة المدنية البعثية هي الشكل الوحيد لحياة مدنية ممكنة في البلاد، متمثلة بالنقابات المزيفة والمنظمات المكرسة للتجسس على المواطنين والاعلام المكرس لمدح الرئيس. التعددية الحزبية كانت على الدوام تشترط الولاء الضمني من كل الأحزاب لـ “الحزب القائد”. ان هذا من صميم عقلية الحزب وهو ليس صادراً من خصومه بل من أدبياته وكذلك ـ والأهم ـ من  تاريخه على الأرض. لذلك فما دام للناس ذاكرة، وما دامت لهم حواس وأحاسيس سليمة، فانهم لن يفهموا عَمّ يتكلم الشاعر الشهير عندما كتب “إن أعمال السلطات التي حكمت باسم الحزب لم تكن بمستوى مبادئه”. إن كنا نصدق بحكاية خيانة السلطات لمبادئ  إنسانية وديمقراطية لدى حزب البعث فعلينا أن نتعاطف مع الرئيس السوري المسكين في شكواه من شعبه (في حديث نشر مؤخراً) الذي لا يريد أن “يعطيه فرصة” للاصلاح و”يريد كل شيء في 15 يوماً”، وكأنه لم يستلم الحكم إلا الآن، أو كأنه بريء، كما برّأه أدونيس، من تاريخه القمعي منذ سحق “ربيع دمشق” (2001) والى اليوم.

لنكن واضحين إذن: ان كل ما يحصل في سوريا اليوم هو نتيجة منطقية لنمط الطغمة المالكة الحاكمة ولا أقول الحزب الواحد حيث ان الأخير مجرد واجهة. وان أي تغيير قابل للمناقشة لابد أن يعني رحيل هذه الطغمة ومحاكمتها. لكن هذا ليس منظور أدونيس للتغيير فهو (وهذا هو الانحراف الرئيس في رؤيته) لا ينطلق من الواقع لصياغة فكرته وإنما ينطلق من الفكر لصياغة واقع على مقاسه. هو لا يقارب المجتمع السوري من حيث حاجته أو عدم حاجته الى الديمقراطية وإنما هو يقارب الديمقراطية نفسها وما إذا كانت قابلة “للتصدير” الى عرب لم يعرفوها لا ماضيا ولا حاضرا. واختياره هذا الأسلوب محسوب لتلبية النتيجة السقراطية المسبقة: ان السوريين غير مؤهلين للديمقراطية، حيث ان مطالبتهم بها لا تعني أنهم “ديمقراطيون حقاً” طالما يوجد بينهم سلفيون ومتشددون دينياً . ما أزال أحاول أن أفهم أدونيس وحسب. وأتساءل عن سر اقتصاره، هو المعروف بسعة ثقافته، على مدخل واحد ضيق ما يلبث أن يؤدي به الى التواطؤ مع الجريمة الجماعية الجارية اليوم. أعني لماذا اختار الديمقراطية حصراً وراح يذكّر بـ “غربتها” عن ثقافتنا القديمة منها والحاضرة، أو ـ إن شئت ـ غربة هذه الثقافة عن الديمقراطية، وبالتالي عدم جدواها لنا؟ هل مطلب الديمقراطية هو كل ما قذف بالمواطنين الى الشوارع؟ هل كانت هي كل ما ينقص السوريين؟ ماذا عن الفقر، والقهر، والفساد المستشري، وغياب العدالة، وإذلال الكرامة اليومي، والاستئثار بثروات البلاد؟ ماذا عن أغرب مافيا في العصر الحديث، “الشبّيحة” ( تنظيم إجرامي تتداخل فيه الروابط الأسرية والمالية والحكومية) التي بامكان أي فرد منها أن يهين، أو يسلّّب، أي مواطن كان، والتي تحتكر التهريب وأعمال الفساد ويتغاضى النظام عن نشاطها الاجرامي مقابل استخدامه لها في التخويف الجماعي وقمع المدن الثائرة؟ هل من الشهامة أن  نسلم الضعيف لأنياب رجال السلطة بسبب كونه لا يشاركنا علمانيتنا أو مستوانا الثقافي؟

أحاول فقط أن أفهم الشاعر الشهير. أن أفهم، على الخصوص، إن كان  وصفه لبشار الأسد بـ “الرئيس المنتخب” عن جد أم عن تهكم. وإن كانت دعوته لـ “السيد الرئيس” بأن يجعل نفسه من الآن وصاعداً رئيساً للبلاد والشعب وليس رئيس الحزب فقط، جدية أم مجرد سهو، حيث ان الاعلام الرسمي (كان الله في عونه) استهلك قواه وهو يردد ليل نهار بأن بشاراً رئيس كل البلاد وكل الشعب، حتى إنه يأتي مباشرة بعد الله وسورية “وبس!” فما حاجة الرئيس بهذه النصيحة؟

من يعرف كيف تجري الأمور في سورية، منذ عشرات السنين والى اليوم، لا يوجه رسالة صداقة الى حاكمها. الذين يقتلون أناسهم بالجملة ويلتقطون الصور متباهين وهم يقفون على جثث أبناء وطنهم ثم يجعلون من أنفسهم مهزلة على شاشات التلفزيون عندما ينكرون أفعالهم هذه ويفسرون الأدلة والوثائق الفلمية تفسيرات خيالية جداً وبائسة جداً، أولئك قد غرقوا في المستنقع حتى بات من المستحيل استعادتهم إنسانياً .

أعترف بأني فشلت في مسعاي لفهم منطق الشاعر أدونيس.

 

سمير طاهر

(كاتب وشاعر عراقي، مقيم في ستوكهولم)
‮(‬الفيل‭ ‬يا‭ ‬سيادة‭ ‬الرئيس‮)!!‬

عبلة الرويني
ينزّه‭ ‬أدونيس‭ ‬‮(‬السيد‭ ‬الرئيس)عن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬حوله‭ ‬من‭ ‬موت‭ ‬ومجازر،‭ ‬يصعد‭ ‬به‭ ‬إلي‭ “‬زمن‭ ‬السماء‭ ‬الجمعي‭ ‬والإلهي‭” ‬طاقة‭ ‬استثنائية،‭ ‬وقوة‭ ‬كلية‭ ‬قادرة‭ ‬علي‭ ‬صياغة‭ ‬الأفق‮.‬ليس‭ ‬ثمة‭ ‬إدانة‭ ‬للرئيس‭ ‬‮(‬المنتخب‮)!!‬وحدها‭ ‬الحاشية‮ – ‬في‭ ‬رأي‭ ‬أدونيس‮- ‬هي‭ ‬الملوثة‭ ‬أيديها‭ ‬‮(‬الحزب‮)‬،‭ ‬‮(‬الطوائف‮)‬،‮(‬العشائر‮)‬،‭ ‬‮(‬وقوي‭ ‬المعارضة‮)‬‭ ‬أيضاً‮..‬‭ ‬هؤلاء‭ ‬هم‭ -‬وحدهم‭- ‬المدانون‭ ‬القتلة،‭ ‬أما‭ ‬الرئيس،‭ ‬فأقصي‭ ‬حدود‭ ‬خطئه،‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬يخطئ‭ ‬بالفعل،‭ ‬هو‮ ‬غفلته‭ ‬عمّا‭ ‬يحدث‭ ‬حوله‭ ‬من‭ ‬جرائم‭!!‬رؤية‭ ‬قديمة‭ ‬جداً‭ ‬ومتهالكة‭ ‬شغلت‭ ‬مبدعي‭ ‬الخمسينيات‭ ‬والستينيات‭ ‬علي‭ ‬الأغلب،‭ ‬حيث‭ ‬إدانة‭ ‬الحاشية‭ ‬وتبرئة‭ ‬الحاكم،‭ ‬لكنّ‭ ‬أدونيس‭ ‬يضيف‭ ‬أيضاً‭ ‬ابتكاراته،‭ ‬فإلي‭ ‬جانب‭ ‬إدانته‭ ‬الصريحة‭ ‬للحزبيّة‭ ‬والطائفية‭ ‬وقوي‭ ‬المعارضة‭ ‬السورية،‭ ‬يدين‭ ‬أدونيس‭ ‬الشعب‭ ‬بأكمله،‭ ‬حين‭ ‬يغلق‭ ‬أفق‭ ‬الديمقراطية‭ ‬‮(‬الديمقراطية‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يعرفها‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬تاريخهم‭ ‬الحديث‭ ‬والقديم،‭ ‬لم‭ ‬يعرفوها‭ ‬سياسياً‭ ‬ولا‭ ‬ثقافياً‮.‬‭ ‬لقد‭ ‬كانت‭ ‬دائما‭ ‬خارج‭ ‬التراث‭ ‬الثقافي‮)!!‬لايتحدّث‭ ‬أدونيس‭ ‬عن‭ ‬‮(‬ثورة‮)‬‭ ‬أو‭ ‬‮(‬انتفاضة‮)‬‭ ‬أو‭ ‬‮(‬يقظة‮)‬‭ ‬أو‭ ‬حتي‭ ‬‮(‬غضب‮)‬‭ ‬داخل‭ ‬سوريا‮..‬‭ ‬لا‭ ‬يتحدّث‭ ‬عن‭ ‬قتلي،‭ ‬أو‭ ‬جرحي،‭ ‬أو‭ ‬حتي‭ ‬نازحين‭ ‬خارج‭ ‬الحدود‮..‬‭ ‬ليس‭ ‬بإمكانه‭ ‬الالتفات‭ ‬إلا‭ ‬لحديث‭ ‬الملك‮..‬‭ ‬رسالة‭ ‬أدونيس‭ ‬إلي‭ ‬الرئيس‭ ‬بشّار‭ ‬الأسد‭ ‬أشبه‭ ‬بعريضة‭ ‬الشكوي‭ ‬إلي‭ ‬الملك‭ ‬في‭   ‬مسرحية‭ ‬سعد‭ ‬الله‭ ‬ونوس‭ ‬‮(‬الفيل‭ ‬يا‭ ‬ملك‭ ‬الزمان‮)..‬‭ ‬‭”‬الفيل‭ ‬يا‭ ‬ملك‭ ‬الزمان‮..‬‭ ‬يقتل‭ ‬البسطاء،‭ ‬‭ ‬ويهدم‭ ‬البيوت،‭ ‬ويكسر‭ ‬النخيل،‭ ‬ويدوس‭ ‬الزرع‮..‬‭ ‬ويظهر‭ ‬الموت‭ ‬إذا‭ ‬بان‭”‬‮..‬‭ ‬هكذا‭ ‬أيضاً‭ ‬يشكو‭ ‬أدونيس‭:‬‮ (‬الفيل‭ ‬ياسيادة‭ ‬الرئيس‮)‬،‭  ‬‮(‬الحزب‭ ‬ياسيادة‭ ‬الرئيس‮)‬،‭ ‬‮(‬الطائفية‭ ‬ياسيادة‭ ‬الرئيس‮) ‬‭!!‬شكوي‭ ‬أدونيس‭ ‬دون‭ ‬قدرة‭ ‬علي‭ ‬قراءة‭ ‬التاريخ،‭ ‬ودون‭ ‬قدرة‭ ‬علي‭ ‬قراءة‭ ‬الواقع،‭ ‬حيث‭ ‬‮(‬السيد‭ ‬الرئيس‮)‬‭ ‬هو‭ ‬التجريد‭ ‬الرمزي‭ ‬الأعلي‭ ‬لقوي‭ ‬الطائفية‭ ‬والحزبية‭ ‬والعشائر،‭  ‬وحيث‭ ‬لا‭ ‬يُمكن‭ ‬إدانة‭ ‬النظام‭ ‬دون‭ ‬إدانة‭ ‬رأسه‮..‬‭ ‬هذا‭ ‬أيضاً‭ ‬ما‭ ‬أدركه‭ ‬سعد‭ ‬الله‭ ‬ونوس‭ ‬في‭   ‬مسرحية‭ ‬‮(‬الملك‭ ‬هو‭ ‬الملك‮)..‬‭ ‬فالملك‭ ‬يقيناً‭ ‬هو‭ ‬أدواته‭ ‬ورموزه،‭ ‬عرشه‭ ‬وصولجانه‭ ‬وحتي‭ ‬ثيابه،‭ ‬هكذا‭ ‬كانت‭ ‬لافتة‭ ‬المسرحية‭ ‬‮(‬أعطني‭ ‬رداءً‭ ‬وتاجاً،‭ ‬أعطك‭ ‬ملكاً‮)..‬‭ ‬الملك‭ ‬هو‭ ‬كل‭ ‬رموزه،‭ ‬وأي‭ ‬محاولة‭ ‬لإغماض‭ ‬العين‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الحقيقة‭ ‬هي نوع‭ ‬من‭ ‬الاستلاب،‭ ‬أو‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التواطؤ‮..‬‭ ‬ولأن‭ ‬أدونيس‭ ‬ليس‭ ‬سهلا‭ ‬استلابه،‭ ‬فالمؤكد‭ ‬تواطؤه‮!!..‬‭ ‬ليس‭ ‬بالإمكان‭ ‬تبرئة‭ ‬الرئيس‭ ‬أو‭ ‬تنزيهه‮..‬‭ ‬وما‭ ‬من‭ ‬حل‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬مسرحية‭ ‬سعد‭ ‬الله‭ ‬ونوس‭ ‬سوي‭ ‬‮(‬التهام‭ ‬الملك‮).‬

أخبار الأدب

 

محنة أدونيس أم امتحانه؟

أمجد ناصر

لم يواجه أدونيس امتحاناً له كشاعر ومثقف، بل كـ”مواطن”، مثلما يواجه اليوم ما يجري في بلاده سورية. كل الامتحانات السابقة لتمرده، انشقاقه، خروجه عن التماثل والامتثال، كانت جزئية ولم تصل حد الدراما أو المحنة، بل قل الامتحان. فالأمس خمرٌ واليوم أمرٌ على حد مقولة امرئ القيس بشيء من التلاعب.

اليوم أمرٌ، وليس الأمس كذلك، وفي هذا اليوم السوري الراعف يقف أدونيس أمام الحقيقة القاسية، أمام أشباح حداثته، وأطياف مشروعه الثقافي والإنساني من جهة، وسيل الدم من جهة أخرى، فيتلعثم وهو الفصيح، يذهب إلى العَرَضي وهو الذي لا يقبل إلا الجوهري.

فها هو بلده، الذي عاش علاقة ملتبسة به، موقفاً وهوية وجواز سفر وعلاقات، يغرق في بحر من الدم. تجوبه الدبابات لتأديب الخارجين على طاعة العائلة “الجمهورية” الحاكمة. تحوم طائرات عمودية، لم تقترب مرةً من الحدود مع العدو، سماء مدن وبلدات لبعضها رنين خاص في أذني أدونيس (معرة النعمان واحدة منها) فيخطئ نطاسي الحداثة العربية في تشخيص العلة.

مواقف أدونيس، أكبر شعراء العربية الأحياء، ابن “قصابين”، أو ربما “جبلة”، لم تتمثل ما صارته صورة بلاده رغم الريح القوية التي تعصف بها، رغم الدم الذي سفك بقسوة والجثث التي طمرت، سريعاً، تحت التراب لاخفاء الجريمة. المحيّر فيها غياب العاطفة تقريباً. كأن كل شيء يصدر من الفكرة لا من الواقع، من المجرد لا من الملموس، مع أن الأخير كثيف وطاغ وله طعم مرّ.

كأن في أمر مواقف أدونيس، التي ختمها، حتى الآن، برسالته المثيرة للأسى للرئيس السوري، امتناع داخلي، إعاقة عضوية عن تسمية ما يجري. كأنه يخشى أن يسمي ما يجري في سورية فيمسّه طرف من الصاعقة. هل لهذا علاقة بمحتده؟ بذلك الأصل الذي تحدَّر منه، ثم ارتفع عن مواضعاته العصبية والطائفية، إلى أفق عربي أوسع، ثم ما لبث أن ضاق بهذا الأفق العربي “المغلق” فجاوزه إلى ما هو انساني؟ كثيرون قالوا هذا القول، لكني أميل، بشيء من الضعف الشخصي تجاه صاحب “مهيار الدمشقي”، أن لا يكون الأمر كذلك، لأن ذلك كارثة، لأن ذلك لا يليق بأدونيس.

***

أغرب إطلالات أدونيس على المشهد السوري الدامي هي رسالته الأخيرة إلى “الرئيس المنتخب” بشار الأسد. في تلك الرسالة يضع أدونيس، العارف بما ظهر في أحوال سورية وما بطن، يده على المكان الخطأ. لا أشك، للحظة واحدة، بمعرفة أدونيس بمن يتوكل أحوال سورية ويديرها، منذ أمد بعيد، لكنه مع ذلك لم يظهر شيئاً من هذه المعرفة الشائعة، المبذولة للجميع، بل أظهر نوعاً من الجهل المقصود برأيي. فهو يعيد الأزمة الوطنية الكبرى، التي تصعد بسورية نحو الجلجلة، إلى حزب البعث. حزب البعث هو المشكلة! أو المشكلة، بتعبير آخر، هي في ما صار إليه حزب البعث من تخلّف وتقهقهر وتحكّم جائر بسياسات سورية! حزب البعث يا أدونيس؟

لافت، فعلاً، أنني لم أقرأ، على ما قرأت من مقالات وأخبار بصدد الوضع السوري المتفجِّر، مقالة واحدة تتعرض إلى حزب البعث. لم يفعل ذلك عالم أو جاهل، لأن الجميع، عالمين وجاهلين، يعلمون، علم اليقين، أن حزب البعث ليس سوى يافطة مرفوعة على بعض المباني العامة في سورية وليس حزباً يرسم ويحكم ويخطط ويوجه. حزب البعث لا يحكم سورية منذ أن حدثت “الحركة التصحيحية” التي عمَّقت غور الدولة البوليسية وأسست، لاحقاً، لوراثة ” الجمهورية”. ليس حزب البعث من يسأل عن هذا الدم المشاع في ربوع “القطر السوري”، ناهيك عن أن تسأل في ذلك “الجبهة الوطنية التقدمية”. فليس هو الذي يرسل الدبابات. فلا دبابات للحزب. إنها الطغمة الأمنية ذات الصبغة العائلية الصرف التي حولت سورية مزرعة. إقطاعية خاصة. فصَّلت بلداً على مقاسها، ووزعت رضاها وغضبها على من يمالىء أو يرفض.

***

في رسالة أدونيس، التي تتعلق بالوضع الداخلي لسورية، حضور، مباغت، لفلسطين وإسرائيل والإمبريالية والتدخل الخارجي. وهذه خلطة، رغم كونها حقيقة لم يتصدَّ لها النظام السوري بجدية يوماً، مصنوعة، من غير إتقان، في مطابخ النظام السوري. هذه الانعطافة في كلام يقوله أدونيس بصدد ما تعرفه سورية الآن من أزمة وطنية كبرى تعكس، يدري أو لا يدري، مفرادت الخطاب الرسمي السوري نفسه سواء عن “المؤامرة” أو عن النفاق الغربي والكيل بمكيالين.

كان على أدونيس أن يضع يده العارفة على الجرح مباشرة. الأمر في سورية، اليوم، ليس المؤامرة الغربية على النظام، بل الاستحقاق التاريخي للسوريين في الحرية والكرامة والعدالة وقد جاء قارعاً الأبواب الموصدة. هذا هو مبتدأ كل شيء. من هنا تبدأ المواطنة الحرة الممتلكة لذاتها ومصائرها القادرة على التصدي لما تواجهه من أخطار وتحديات. المواطنون الأحرار وليس العبيد، أو أشباه العبيد، هم الذين يصمدون ويقاومون ويبدعون في غير مجال.

حزب البعث، الذي تعدّه رسالة أدونيس إلى الرئيس بشار الأسد مشكلة سورية، ليس مشكلتها الفعلية اليوم. ليست مشكلة سورية في المادة الثامنة من الدستور السوري التي تعد حزب البعث قائداً للدولة والمجتمع، بل مشكلتها الفعلية المزمنة هي في الطابع البوليسي للنظام، في استئثار نفر من العائلة في اقتصاديات البلاد، في تجريف السياسة والفكر والابداع، في تأليه الحاكم ورفعه فوق كل مساءلة وحساب، في هدر الكرامة، في تحويل المواطنين إلى أيدٍ تصفق وأفواه تصرخ. وبقدر ما يصدق هذا الأمر على سورية فهو يصدق، على هذا النحو أو ذاك، على سائر بلاد العرب المنكوبة بنظمها ونخبها الحاكمة.

ولا أدري كيف “غاب” عن بال أدونيس وهو يخاطب الرئيس لإنقاذ البلاد مما تعرفه من عنف ذي مصدر واحد، في رأيي، أن المطلوب ليس فك ارتباط الدولة، أو السلطة الحاكمة بالأحرى، بالحزب. فليس هذا، تكراراً، هو المطلوب. كان على أدونيس أن يطالب، إذ ما يزال يأمل في رأس السلطة وقدراته على ما يظنه فيه، بفك ارتباط السلطة بأجهزة الأمن التي روَّعت السورييين وما تزال.

أخشى، أخيراً، أن رسالة أدونيس للرئيس السوري لم تخطئ، فقط، في تشخيص العلة، بل جاءت متأخرة كذلك. فما حدث في سورية حتى الآن تجاوز الأمنيات والتنظيرات ودخل في طور يحتاج خطاباً من نوع آخر.

الراي

 

رسالة أدونيس إلى بشار الأسد: إنحياز مطلوب في توقيت محسوب

صبحي حديدي

شاء الكثيرون القول إنّ أدونيس تأخر في توجيه رسالته الى بشار الأسد، وأنّ زمن المناشدة قد فات، بعد دخول الإنتفاضة السورية شهرها الرابع، وسقوط أكثر من 1500 شهيد، وإصابة أكثر من 6000 جريح، ونزوح 11 ألف مواطن إلى تركيا أو لبنان، واعتقال الآلاف. وهو قول يفترض حسن نيّة مزدوجاً: من جهة أدونيس، الذي توجّب أن يناشد الأسد في مرحلة أبكر، عند الشهيد رقم 500 على سبيل المثال؛ ومن جهة الآملين خيراً في الأسد نفسه، إذْ لعلّه كان سيستجيب للمناشدة الأدونيسية، فيتحقق ما يصبو إليه الشاعر، وما يظنّ أنه رغبة الأسد نفسه في نهاية المطاف (يخاطبه هكذا: ألستَ “قبل كل شيء رئيس بلاد وشعب”؟ و”بوصفك خصوصاً رئيساً منتَخَباً”، أليس “قدرك هو أن تفتدي أخطاء” التجربة التي “يمثلها حزب البعث العربي الاشتراكي، نظراً وعملاً، ثقافةً وسياسة”؟).

وإذا صحّ، بالفعل، أنّ أوان المناشدة قد انطوى ولم يعد هنالك شك، حتى لدى أدونيس نفسه، في استقرار النظام على حلول العنف القصوى، فإنّ توقيت توجيه رسالة الشاعر إلى الطاغية كان دقيقاً وذا وظيفة حيوية بالنسبة إلى المرسِل، وكان نافعاً وذا مغزى إنحيازي بالنسبة إلى المستقبِل. لقد حاقت الأهوال بشرائح واسعة من أبناء الشعب السوري لأنهم تظاهروا من أجل الحرية والكرامة والمستقبل الأفضل. وفي المقابل لجأ النظام إلى أبشع أنساق العنف، وبدأ باستخدام الرصاص الحيّ، وانتقل إلى حصار المدن بالدبابات وقصفها بالمدفعية وراجمات الصواريخ والحوّامات، ولم ينته عند العقاب الجماعي وتعذيب الأطفال وقتلهم والتمثيل بجثثهم، والدوس بالنعال على جباه البشر. وفي هذا، ورغم أنه يساوي بين الجلاد والضحية في المسؤولية عن “الإنهيار” في سورية، وعن “تشويه صورتها الحضارية بأوحال “الطائفية” و”العشائرية” و”المذهبية”، فضلاً عن “وحل التدخل الخارجي”… لا يملك أدونيس إلا الإشارة إلى أوحال أخرى يصعب أن تكون للضحية يد فيها: “التعذيب والقتل والتمثيل بجثث القتلى”.

طراز آخر من الوحل، تفادى أدونيس التوقف عنده، هو ذاك الذي تلطخت به سمعة النظام السوري في المحافل الثقافية والفكرية والسياسية، العربية والعالمية، فتوالت بيانات ذات حسّ إنساني وأخلاقي شجاع، وقّع عليها الآلاف، وامتزجت فيها مواقف تأييد الإنتفاضة مع مشاعر إدانة النظام وشجب ممارساته الأخلاقية. لم يوقّع أدونيس على أيّ من هذه البيانات، بالطبع، ولكنّ السؤال المنطقي اللاحق هو التالي: هل يعقل أنه ـ هو الذي يتمتع بدرجة وافية، وكافية، من الذكاء وحسن تقدير الموقف، وانتهاز الفرصة المناسبة في التوقيت المناسب ـ لم يدرك أنّ توجيه مثل هذا النصّ الإستعطافي، إلى مثل هذا “الرئيس المنتخَب”، الآن إذْ تنفلت أجهزته الأمنية من كلّ عقال ضدّ الشعب، بأمر مباشر منه… هو مقامرة خاسرة، لا محالة؟ كيف فاته مقدار الضرر الأخلاقي الذي سيلحق بسمعته كشاعر سوري، له صيت حسن في أوساط عالمية لا يجمعها جامع مع الإستبداد والمستبدين، فضلاً عن كونه أحد أبرز المرشحين العرب لجائزة نوبل للآداب؟

باختصار، كيف لم يتنبه أدونيس إلى أنّ نظام بشار الأسد آخذ في الإنهيار التدريجي، بدليل ازدياد جرائمه وضحاياه؛ واتساع الهوة بينه وبين الشعب، حتى صارت شاسعة فاغرة لا تقبل الردم؛ وأنّ حلفاءه لا يتناقصون فحسب، بل ينقلب بعضهم إلى خصم صريح، أو خصم صامت؛ وأنّ خلاصة المعادلات هذه تقول إنّ النظام آيل إلى سقوط؟ الجواب الأبسط هو أنّ توقيت رسالة أدونيس لم يكن اعتباطياً، بل كان مطلوباً ومنتظَراً، لهذا السبب تحديداً: أنّ النظام، في هذه الساعات الحرجة التي تعصف بركائزه، بحاجة إلى كل أصدقائه، وينتظر منهم انحيازات واضحة صريحة لا تقبل الغمغمة أو التأتأة، وتقتضي الإصطفاف داخل خندق الصراع من أجل البقاء، وتأبى التفرّج من التخوم أو المشارف، فما بالك بالوقوف على الأطلال!

في عبارة أخرى، لم يعد مجدياً أن يتابع ادونيس ما دأب عليه منذ انطلاقة الإنتفاضة السورية (التذرّع بالدفاع عن العلمانية بغية التشكيك في تظاهرات تخرج من الجوامع، أو التباكي على الوطن الجميل الذي يتشوّه، أو التحذير من مخاطر الإنقسامات الطائفية… وتلك كانت موضوعات مقالاته السابقة). المطلوب الآن لا يقلّ عن الوقوف خلف رأس النظام، بشار الأسد شخصياً، واعتباره صمّام الأمان المنقذ والمخلّص، بعد تنزيهه من الموبقات جمعاء: أخطاء التجربة البعثية، مثل أوحال القتل والتعذيب والتمثيل بالجثث. لكنّ أدونيس ليس فقير العقل، أو ضعيف الإطلاع، لكي يجهل أنّ الأسد نفسه، وليس سواه، هو الأمين العام لهذا الحزب الذي تُلصق به كلّ هذه الموبقات، وبالتالي إذا كان ربّ البيت بالطبل ضارباً، فهل من شيمة أخرى لأهل البيت سوى الرقص؟

وأدونيس ليس ساذج الحجة أو ركيك المحاججة لكي يعلّق الحراك الشعبي السوري، الذي يدخل شهره الرابع أكثر عمقاً وتجذراً، على مشجب حزب البعث تارة، ومشجب الجوامع التي ينطلق منها المتظاهرون تارة أخرى؟ ألا يعلم، حقّ العلم في الواقع، أنّ حزب البعث صار جثة شبه هامدة منذ عقود، وأنه ليس البتة حاكم سورية بل محض استطالة للأجهزة الأمنية، وغالبية أعضائه خدم عند تلك الأجهزة قبل أن يكونوا حملة عقيدة أو فكر سياسي. كذلك يعلم أدونيس أن التظاهرات خرجت من الجوامع في الأسابيع الأولى من الإنتفاضة لأنّ المسجد، وملعب كرة القدم، هو الفضاء الوحيد الذي لا يُمنع المواطنون من الإحتشاد فيه؛ كما يعلم أنّ التظاهرات لم تعد تنطلق من الجوامع وحدها، ولم تعد تقتصر على أيام الجُمَع أيضاً.

وليس بجديد التذكير بأنّ أدونيس كان صديقاً لآل الأسد، منذ استيلاء حافظ الأسد على السلطة سنة 1970 وحتى الساعة، وأنّ صداقاته مع رجالات النظام لم تقتصر على الشخصيات الثقافية (إذْ كان هؤلاء الأتعس حظاً معه، كما في مثال رئيس اتحاد الكتاب السابق علي عقلة عرسان)، بل ضمّت أمثال اللواء المتقاعد علي حيدر (القائد الأسبق للوحدات الخاصة، وأحد كبار ضبّاط مجزرة مدينة حماة، خريف 1982)؛ والضابط المتقاعد السفير سليمان حداد، رئيس لجنة الشؤون العربية والخارجية في مجلس الشعب، والمقرّب من الأسد الأب؛ واللواء المتقاعد محمد ناصيف، أحد كبار ضباط جهاز المخابرات العامة؛ فضلاً عن السيدة أنيسة مخلوف (والدة بشار الأسد، التي يجمعها مع أدونيس انتماء سابق إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي). وحين توفي الأسد الأب، أرسل أدونيس برقية تعزية (وقد يكون الواجب إنسانياً صرفاً، هنا، لولا أنّ المرء ليس مضطراً للتعزية في رحيل الطغاة)؛ كما أرسل برقية تهنئة حين تمّ توريث الأسد الابن، بعد تعديل الدستور خلال دقائق، ليتناسب مع عمر الوريث (وهنا أيضاً، لا يصفّق المرء لجمهورية وراثية دون أن يكون صديقاً وفياً لطغمتها الحاكمة).

ولم يتخلّف أدونيس عن هذه المهمة، والحقّ يُقال، فأثبت أنه صديق صدوق للنظام، وهنا الفحوى الأهمّ في رسالته. لقد امتدح رأس النظام واعتبره القادر على إعادة “الكلمة والقرار إلى الشعب”، ومحو “صورة الرئاسات السابقة في سورية”. وقال في ذمّ المعارضة السورية ما لم تتجاسر أجهزة النظام ذاتها على التفوّه به (هنا بعض صفاتها، عنده: “لحمة ضدّية عنفية، تغلب عليها نبرة التهييج والثأرية والدينية الطائفية أو السلفية). وأمّا ما تبقى من كلام حول الديمقراطية الممتنعة عن العرب، و”زمن السماء، الجمعي والإلهيّ”، مقابل “زمن الأرض، الفرديّ والإنسانيّ”، و”ثقافة المساومات، والترضيات، والابتزازات، والاحتكارات، والإقصاءات والتكفيرات، والتخوينات، إضافة إلى ثقافة القبليات والطائفيات والعشائريات والمذهبيات”… فهو محض اجترار أدونيسي عتيق باهت، لم يعد مكروراً فحسب، بل صار سفسطة جوفاء.

ويخطر لي أنّ أفضل الردود على رسالة أدونيس جاءت من بشار الأسد شخصياً، في خطابه الثالث قبل أيام. وليس لأدونيس عذر في القول إنه، وهو الرائي البصير، لم ير أي وليد أعطى ذاك المخاض!

أخبار الأدب، 26/6/2011

http://www.akhbarelyom.org.eg/issuse/detailze.asp?mag=a&said&field=news&id=2904

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى