صفحات العالم

الموقف الروسي من الثورة السورية … التباس ام مساومة ؟


محمد رشيد

تمتد علاقات العرب مع روسيا عميقا في التاريخ ، لكن الذاكرة العربية لا تقول الكثير عن هذه العلاقة الا مع بدايات القرن العشرين ، فمن عهد القيصر رومانوف الى عصر الزعيم بوتن ، مرورا بثورة لينين البلشفية ، الى اخر أباطرة الشيوعية تشرنينكو ، الذي فتح بموته الطريق للسيد ميخائيل غورباتشوف ، ليحمل معه رياح التغير العاتية ، و التي في نهاية الطريق اطاحت به شخصيا في ثورة بيضاء ، ثورة قادها بشئ من الجنون قائد الحزب في موسكو بوريس يلتسن ، ثورة بيضاء ضد حزبه ، معتمدا على رجالات من كبد الحزب نفسه ، و اثبتت الايام بانه ” بوتن ” كان اقواهم و اذكاهم على الاطلاق ، فهو الرئيس السابق ، رئيس الوزراء الحالي ، و الرئيس القادم للبلاد ” فلاديمير بوتن “

لقد مرت هذه العلاقات العربية _ الروسية في اجواء و متاهات مختلفة ، من العلاقات الدافئة جداً احيانا ، كما تبدو عليها علاقات موسكو مع ” نيرون ” دمشق هذه الايام ، الى حد استخدام موسكو لحق النقض في مجلس الأمن لصالح نظام ، و ضد شعب ،، الى الباردة جداً الى حد ما يمكن ان تعتبره موسكو خيانة ، كما حدث مع الرئيس الراحل أنور السادات الذي ” مرمط ” الكبرياء الروسية ب ” التراب ” كما يقول المثل الشعبي المصري .

لقد حافظ العرب دائماً على علاقة لفظية و شعارية ممتازة مع موسكو ، لكنهم غالبا ، ان لم يكن دائماً ، وضعوا مولودهم في أحضان الغرب !!!! و الروس يرون ذلك يتكرر مرة بعد مرة ، بمرارة الكبرياء الروسية ، كبرياء تخوض روسيا من اجلها حروبا لا تخطر على بال .

لكن ، و إنصافا للحقيقة ، لم يكن العرب يوما عدوانيين مع موسكو ” اذا استثنينا موقف الرئيس الراحل أنور السادات ، و الذي استثنته موسكو ذاتها ووقفت الى جانبه في حرب تشرين / اكتوبر 1973 ” ، حتى جاءت حرب افغانستان ، و انقسم العرب حولها ، و لم تكن المرة الاولى التي ينقسم فيها العرب ، و لم تكن الاخيرة ،

نعم حاول العرب دوما الحفاظ على علاقة ودية مع موسكو ، حتى عندما صوتت موسكو في مجلس الأمن عام 1948 معترفة بدولة اسرائيل ، بل ان ذاك الاعتراف لم يجر على موسكو ما يجره عليها اليوم موقفها من ثورة الشعب السوري ، فهل موسكو لا تدرك حقا ما تفعل ؟ ام ان موسكو تعرف و تدرك ، لكنها تعاند ، تعاند دفاعا عن تلك الكبرياء خاصة و اننا لم نعطي موسكو مصالح لتدافع عنها .

و لا داعي للإطالة في موضوع المبادئ و المصالح ، و يكفي فقط إلقاء نظرة سريعة على ميزان التبادل التجاري بين كل العرب و موسكو ، و مقارنة ذلك مع الميزان التجاري مع دولة واحدة في الدول الصناعية السبعة حتى يشعر المرء ان موسكو لايمكن لها ان تكون سعيدة بهذه المعاير المذلة ، و هي امبراطورية يتجنب حتى الغرب اذلاها .

هل كل هذا دفاع عن موقف موسكو المريب ازاء الثورات العربية ، خاصة الثورة السورية ، طبعا لا ،!!! و لكن هي ملاحظات على غياب النضج العربي في السياسة الخارجية ، و استخدام لغة المصالح بشكل خلاق ، او على الاقل بشكل متوازن و منصف ، فالبترول العربي كله بيد الغرب ، ياخذه منهم مقابل تجارة خارجية ، تقريبا محتكرة لها مسبقا ، و موسكو تتفرج و تنتظر بصبر الجمال العربية .

لسنوات ، عرفت و التقيت لعشرات المرات مع واحد من اهم دبلوماسي روسيا ، بل و اكثرهم دهاء و معرفة بنا ، السفير ميخائيل بوجدانوف ، اللذي اصبح الان نائبا لوزير الخارجية لافروف ، الامر اللذي اعتبرته أنا شخصيا خفضا لمرتبته ، فقد كان الرجل حقا اهم وزير خارجية روسي في الشرق الاوسط، و اخر موقع شغله كان سفير موسكو في دول عديدة ، بالاضافة الى مهمته الرئيسية كسفير بلاده لدى مصر .

ميخائيل ، الذي يتحدث العربية بطلاقة ، كان مهموما دوما بفكرة واحدة ، و هي الى اي مدى يريد العرب علاقات عميقة. حقيقية مع بلاده ؟ و هل هم مهتمون بذلك فعلا ؟

و أنا اسأل نفس السؤال ، هل نحن نعامل روسيا كدولة عظمى ؟ ، هل نعاملها بما يليق بمكانتها و تاريخها و تاريخ علاقتنا معها ؟

للأسف الشديد الجواب لا ، فالعرب ينامون و هم يفكرون بأمريكا ، و يصحون صباحا مستفيدين من فارق الوقت مع امريكا ليتدبروا أمورهم مع لندن و باريس و برلين و روما ، لكنهم يتذكرون موسكو فقط في ثلاثة حالات ، الاولى ان أرادوها في مجلس الأمن ، اما الثانية فهي ان طلب السفير الروسي موعدا ، و اما الثالثة و الاخيرة فهي ان أراد احد كبارنا الذهاب الى روسيا من اجل الصيد ، طبعا لا يهم صيد ماذا !!!! فالاصدقاء الروس لم يفضحوننا أبدا !!!!

خلال احدى زيارات الرئيس بوتن الى الشرق الاوسط ، و في عاصمة عربية ، و خلال حفل العشاء تصادف ان جلس الوزير_ السفير بوجدانف الى جانب رجل في غاية الأهمية في الدولة المضيفة ، أبدى له قلقه و حرصه على مصير الحكم ، و ضرورة ان يكون هناك تواصل من اجل تامين استقرار البلاد ، رد عليه الرجل ” في غاية الأهمية ” ، هذا صحيح اذا كنت أنا المرشح !!! و هل بعد هذا القول قول ؟

و الان ، و بعد كل ذلك ، هل يفهم مما اقول ان الحق على ” الطليان ” في الموقف المعيب اللذي تتخذه موسكو من الثورة السورية ، مثل ذاك الاستنتاج سيكون في احسن احواله ظالما ، و لكن حين تكتفي الامة كلها ، و بكل مقدراتها بايفاد افقر طرف فيها و أقلهم امكانيات و مصالح ، و اقصد زيارة وفد المجلس الوطني السوري الى موسكو ، فالانعكاس الطبيعي لدى موسكو سيكون ، ليس مرة اخرى يا عرب !!!!!

نعم روسيا لها مصالحها ، و موسكو لا ترى اي تقاطع لمصالحها في المنعطف السوري مع مصالح العرب ، لا لانها غير موجودة ، بل ان العرب لا يريدون الاعتراف بوجود مثل هذه المصالح المشتركة ، و اتجرء لأقول انها ليست غلطة موسكو ، كما انها ليست من اخطاء المعارضة السورية ، بل هي قصور عربي عن فهم موسكو ، في مستوى يرغب العرب ان يروا دعمها للشعب السوري .

لذلك كله لا اعتقد ان الموقف الروسي موقف كنسي غير قابل للتغير ، و موسكو تعرف جيدا كيف تناور و كيف تساوم ، و ان أراد العرب استمالة الموقف الروسي فلا بد من معاملة الثورة السورية كما عاملوا الثورة الفلسطينية منذ عقود ، و ذلك يعني ان يقوم وزراء خارجية السعودية و الكويت ، قطر و الامارات بزيارة مشتركة الى موسكو ، زيارة لا يكون هدفها الوحيد الدعم اللامحدود مقابل لا شيئ ، بل الدعم المستند الى لغة المصالح المشتركة ، و بغير ذلك سنستند في الملف السوري الى شرعية دولية عرجاء ، و هذه هي لحظة ازالة لبس المبادئ بفهم المصالح. و للأسف الشديد فقد اخترنا لموسكو اين تقف ، فهل بمقدورنا ان نغير ذلك ؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى