صفحات سورية

النخب السورية أمام الامتحان الأصعب/ عبدالباسط سيدا

 

 

هل وصلت المكوّنات المجتمعية السورية، بناء على معاناتها ومناقشاتها وحساباتها البينية، إلى اقتناع بأن الافتراق هو المخرج الأقل ضرراً، وذلك بعد أكثر من خمسة أعوام من التطاحن الذي فرضه النظام على الجميع، فتراجع الولاء الوطني لمصلحة الولاءات الفرعية ما قبل الوطنية، وأصبح الاستقواء بالحليف الإقليمي أو الدولي لدى كل طرف، وبموجب الاعتبارات المذهبية أو المصلحية الانتهازية، هو النهج المتبع، وذلك بهدف حسم المعركة «الوجودية» في مواجهة شركاء في ما كان الجميع يعتبرونه وطناً؟

هل بلغ اليأس بالسوريين حدّ تسليم أمورهم لغيرهم كي يتخذوا من مسألتهم بنداً على جداول أعمال اجتماعاتهم، وورقة في لعبة المقايضات وتبادل المصالح؟

هل غدا موضوع تقسيم سورية مسألة وقت، وذلك في انتظار قرارات وتوافقات اللحظات الأخيرة الخاصة بأصحاب الشأن؟

أسئلة مشروعة لا بد أن تُطرح على رغم ثقلها وقساوتها، أسئلة مغلّفة بشحنات انفعالية مختلطة، تؤجّجها النزعات الطائفية العارمة، والتوجهات القوموية المنغلقة على ذاتها، فتتركّب لغة عصابية قدحية، لم نكن نتصوّر بأنها ستكون يوماً الموجّهة لسلوك السوريين، والمكوّنة لتصوراتهم حول أي اجتماع مقبل.

مهما تكن طبيعة الحلول التي تحضّر لسورية، فإن السوريين في نهاية المطاف سيكونون هم مادتها، وسترتبط الهيكيلية السياسية المقبلة بهم وبعلاقاتهم وتفاعلاتهم.

هناك من يتحدث عن مخططات دولية فوقية لتقسيم سورية ودول أخرى في المنطقة، وذلك تحسباً للتحديات المستقبلية. تقسيم قد يأخذ في بداية الأمر صورة مناطق نفوذ تستمر أمراً واقعاً، حتى تتهيأ العقول والنفوس لتقبّل الواقع الجديد، وتبرز شرائح لها مصلحة في التقسيم، وحينئذ يكون التصريح العلني عن ضرورة شرعنة الواقع الجديد، وإعادة هيكلة البنية الجيو – سكانية السورية، لتأتي موائمة لمستلزمات الوضعية المستجدة.

وما يوحي بهذا السيناريو، يتمثّل في التفاهمات الإقليمية والدولية حول تحديد مناطق النفوذ. فقد أصبحت للروس والإيرانيين الكلمة الفصل في ما يعرف بـ «سورية المفيدة» ومعها دمشق، في حين أن الولايات المتحدة الأميركية تركّز على منطقة شرق الفرات، وقد سُمح لتركيا أخيراً بالدخول إلى مناطق غرب الفرات. أما مناطق الجنوب فهي في حالة جمود، وربما يقوم الأردن عبر الحلفاء الغربيين والأشقاء بدور ما في ضبط الأوضاع والتحكّم بها هناك.

ولكننا إذا انطلقنا من المعطيات السورية الراهنة، لا نجد في التقسيم حاجة سورية، او مطلباً لشعبها، بصرف النظر عن الموقف من النظام.

النخب السورية من مختلف المكوّنات تدرك جيداً أن عملية التقسيم ستؤدي إلى بروز كيانات كسيحة تابعة، تسلّم أمورها إلى زمرة من تجار الحروب وأصحاب مشاريع ذاتية أو إقليمية، لا تتقاطع بأي شكل من الأشكال مع مصالح الشعب السوري الفعلية.

فالجغرافيا السورية تشكّل بنية مجتمعية اقتصادية متكاملة، تمتلك من المقوّمات ما يضمن لها النمو والازدهار، شرط توافر إدارة وطنية ترى في المشروع المدني الديموقراطي الوطني – الذي يطمئن الجميع من دون استثناء – المخرج.

أما أن تصرّ هذه الجهة أو تلك على أنها هي صاحبة الكلمة الفصل في تحديد مصير الوطن وأهله، فهذا فحواه أننا لم نتمكن بعد من تشخيص الحالة السورية، ولم نستوعب ماهية الحاجات التي جمعت بين الشباب السوري من مختلف المكوّنات في إطار الثورة المدنية الواعدة، قبل أن تُختطف.

وما نذهب إليه في هذا السياق، هو أن النخب على اختلافها قد وصلت إلى قناعة تامة، بعد كل هذه التجربة المريرة، بأن ما يضمن وحدة وطنها ومجتمعها بتنوعه المذهبي والديني والقومي والفكري، هو الاعتراف بأهمية وضرورة النهوض المشترك بعد إجلاء كل القوى غير السورية، بغض النظر عن الرايات والشعارات والمشارب.

ما ينقذنا هو التوافق الوطني على القطع مع الاستبداد والإرهاب والتشدد بكل أشكاله. وخطوة من هذا القبيل تستوجب الاستعداد التام لتحمّل المسؤولية بكل جرأة وثبات من جانب النخب السورية، بغض النظر عن القوالب التصنيفية، والدخول في حوارات أهلية بينية ضمن الأسرة السورية الواحدة، حوارات تركز على نقاط التوافق، وتســـعى من أجل تفكيك نقاط الخلاف، والتعامل معها بعقلية وطنية ابداعية، لا تحصر نفسها في صندوق البديلين النقيضين، بل تبحث عن احتمالات أوسع، تتجاوز العقبات لمصلحة مستقبل الأبناء والأحفاد.

نحن لا ننكر أن طرحاً من هذا القبيل قد تأخر كثيراً، أو بكلام أدق قد تعرّض للعرقلة من أصحاب المصالح والشعارات الشعبوية، ولكنه يبقى المخرج الأضمن، إذا اردنا الحفاظ على وطننا، ليكون بجغرافيته الموحدة، وثرواته الظاهرة والخفية، حاضنة لجميع السوريين من دون استثناء.

وحتى تمتلك هذه النخب الصدقية، وتتمكن من بناء جسور الثقة في ما بينها، عليها أن تكون مستعدة للقطع مع كل من تسبب في محنة الشعب السوري، وارتكب الجرائم بحقه، وذلك سواء على صعيد السلطة، أم على صعيد القوى الميدانية الرمادية التي استغلت الأوضاع، وأدت أدواراً إشكالية.

الحوار السوري الداخلي البيني المعمّق لن يساهم في التقريب بين وجهات نظر السوريين في المرحلة الراهنة فحسب، بل سيؤسس للمرحلة المستقبلية التي لن يكون في مقدورنا مواجهة تحدياتها من دون نسيج وطني سوري جامع معافى.

ومن دون حوار كهذا، ستبقى الحلول الدولية الفوقية كلها سطحية، ترتب الأمور وفق مقاسات اللاعبين الدوليين والإقليميين، وسيظل المجتمع السوري هشاً ضعيفاً، لا يمتلك أية مناعة تمكّنه من تجاوز الآثار السلبية للكارثة السورية الشمولية، وتداعياتها الخارجية.

ولعلّه من باب تحصيل الحاصل أن نشير هنا إلى أن التوافق السوري – السوري ستكون له انعكاسات ايجابية على الواقع الإقليمي، وسيساهم في إعادة التوازن إلى المنطقة على أسس أكثر رسوخاً وثباتاً.

النخب السورية ما زالت تمتلك من الإمكانيات والطاقات ما يؤهلها للتحرك المسؤول. ونقطة البدء في أي تحرّك هو التواصل، وإبداء الاستعدد للتحاور، وتحمّل المسؤولية، والركون إلى الضمير الداخلي الذي لم يمت بعد لدى الكثيرين.

أما أن يكون اليأس هو المهيمن، واللاأدرية هي الرؤية، فهذا معناه أننا نسلم أقدارنا ومصائر أجيالنا القادمة إلى الآخرين، ليتحكّموا بها بموجب حساباتهم التي لا تتقاطع بالتأكيد مع مصالح شعبنا المغلوب على أمره.

* كاتب وسياسي سوري.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى