صفحات العالم

النداء الأخير على بشار الأسد


  وحيد الطويلة

لعلك تلاحظ أننى لا أخاطبك بلفظ الرئيس ولا أكثرث بمقام الرئاسة التى ما فتأ أستاذنا هيكل يذكرنا بها صباح مساء.

اعذرنى، أنا أعرف أنك لا تستطيع فى هذه اللحظة أن تعذر أحداً، فالقادة الحقيقيون هم فقط من يستطيعون ذلك، بل أنت معذور وأنا أقر بهذا على رؤوس الأشهاد ومستعد لتلقى الطعنات، الناس لا يقدرون أنك لا تستطيع أن تفعل شيئاً، أى شىء، أن تتخذ قراراً واحداً وسط الزمرة القابضة على أرواح البشر من داخل عائلتك الصغيرة التى لا تستطيع أن تنبس داخلها بأى رأى، وعلى روحك أنت أيضاً باعتبارك من البشر ولو من درجة ثانية.

أعذرك فأنت مثلنا لم ترَ صورة مجزرة حماة عام 1982، لم تكن الفضائيات وتوابعها قد اخترعت، لكن سامحنى قليلاً ألا تلاحظك أنك تلعب المباراة الجديدة بنفس القواعد القديمة، تقتل غازى كنعان الذى حكم لبنان وحده لعشرين عاما تحت راية المرحوم والدك، وحين فكر أن يخرج قليلا عن قواعد اللعبة نسفته من قوائم الأحياء – ربما كان يستحق -، الفارق الوحيد أن القتل تم فى مكتبة تكريماً له، لكننى للأمانة اذكر أن أجهزة إعلامك- إعلام الأمن – لم تغادر قواعدها القديمة استغفلتنا جميعا باعتبارنا عبيداً فى أحسن التوصيفات وأعلنت النبأ بشجاعة تعودت عليها فى أربع وثلاثين حرفا – انتحار غازى كنعان وزير الداخلية فى مكتبه – فى صياغة للخبر كانت تستحق جائزة نوبل فى كيفية التنكيل بأعوانكم وفى تعليم أجهزة إعلام القمع كيف تمارس لعبتها بصرامة وخسة منقطعة النظير.

فى حماة 82 لم تكن هناك صور غير صورة والدك السيد الرئيس، كأن الضحايا ماتوا فى كوابيسهم، كأنها تمددت وابتلعتهم، وكان العالم الغربى الذى تسبه أمامنا وتقيم معه الاتفاقات من وراء ظهورنا قد غض طرفه، ولم تلاحق والدك المبجل الصور ولا اللعنات إلا فى ملاحد الصدور، لكنك للأسف لن تحظى بذات الغنيمة، فهمها كانت نتائج ثور ة السوريين ستلاحقك الصور حتى موت أحفادك، ستنادى عليك أينما كنت، وحتى لا تختلط عليك الصورفاسمح لى أن أرتبها لك كى لا تخطئ فى الترتيب:

المشهد المفجع فى درعا حين سقط أحدهم جريحاً أمام داره، ولم يستطع أحد أن يخرج لإنقاذه، حاول واحد أن يسحبه بعصا من الحديد طويلة، لها خطاف معقوف كأنف والدك لكنه للأسف لم يستطع وسط زخات الرصاص المبارك لقواتك الذى يذهب بالضحايا إلى الجنة مباشرة والى صفحات تاريخنا فى نفس التوقيت – لم يستطع .. كان يختبيء من الطلقات ويظهر، ثم فجأة رمى حبلاً معقودا على هيئة خطاف مثلما يحدث فى أفلام الكاوبوى الأمريكية، علقت العقدة المفتوحة فى قبة الجريح وشده الآخر حتى دخل إلى البيت.

جسد حمزة الخطيب ابن الثلاثة عشر ربيعا الذى انتصرت فيه قواتك على الجرائم الاسرائيلية فى أجساد شهدائنا على مر التاريخ وهزمتها بالقاضية الفنية ليكون الأمر رادعاً لإسرائيل قبل ان يكون ردعاً لنا وجزاءً وفاقاً لما قد تقترفه نوايانا، لعلك تلاحظ اننا لم نر بعد أصابع أول ثلاثة اطفال نادوا باسقاط نظامك فى درعا والذين اقتلعت أظافرهم، لكن لا تبتئس فسوف نخرج لك صور أصابعهم ونقربها أمام عينيك يا طبيب العيون لتتأكد بنفسك من أن قواتك أنجزت المهمة كما يليق بنشامى الأمن والمخابرات.

للأمانة أعجبتنى صور الدبابات وهى تطوق المدن وتدكها واحدة بعد أخرى، وقواتك وهى تهتك بالحجر والجسد فى بروفة عملية لما سوف يحدث حين تغير وجهتها إلى تل أبيب.

البنت التى لم تتجاوز الاثنى عشر عاماً والتى خرجت من درعا الى الحدود الأردنية وسط عائلة من النساء – الرجال أنت تعرف بالطبع إنهم إما معتقلون وإما شهداء – وقالت بالحرف الواحد: أعمامى اثنان فى السجون واثنان موتى، وأبى جثته مازالت ملقاة فى شوارع درعا لا تجد من يجرؤ على دفنها، والله لأنتقم منك يا بشار، والله لأنتقم منك يا بشار.

بالله عليك سامحها، ولا تتعصب، أنت لا شك تعرف الحكاية القميئة التى حدثت أمام أعين سوزان مبارك حين كانت مدعوة على مائدة السيدة ساجدة زوجة صدام حسين، وكانت على حمام سباحة بالمناسبة حين تقدم عدى ابنها وقتل كامل حنا أحد حراسها لأنه هو الذى عرّف صدام على زوجته الثانية – مما أفجع سوزان مبارك وإن جعلها تتسامح بعض الشيء أمام التعذيب اللطيف الذى كان يحدث فى سجوننا، والأنكى أننا فوجئنا بعد أيام بوالد القتيل يستعطف السيد الرئيس أن يعفو عن ابنه القتيل الذى تجرأ وجعل الدم يصاعد فى جوف عدى مما أخرجه عن طوره الهاديء، وجعل يديه الكريمتين تنطقان بما لا يحب، وأنت ستجد بالقطع من يحضر لك هذه البنت من اشاوس الأمن والإعلام السورى لتستعطف غضبتك.

لكن المشهد الذى لن يفارق عينيك للأسف ولن يستطع خيالك أن يمحوه – لا بد أن عندك خيال مثلنا – هو ذلك المشهد المتكرر من العصابات المسلحة سامحها الله والتى أسقطت تماثيل والدك وتماثيلك، وقطعوا رأس والدك، أقصد تمثاله بعد إسقاطه ومزقوا صوركما المجيدة فى كل بقعة من أرض سورية، ليسقط آخر ما كان يمكن أن يحلم به شيطان على وجه المعمورة ، لكنهم للأسف أيضا كانوا متحضرين للغاية إذ اسقطوها وأحرقوها ثم كنسوها وكنسوا الأرض تحتها ونظفوها فى إشارة سخيفة بالطبع لا تخفى عليك إلى كنس نظامكما وتنظيف الأرض منه.

بالله عليك لا تتعجلنى فأنا أحاول الترتيب جيدا حتى لا أخطئ وأدفع ثمن خطأى باهظاً، وقاموس كتائبك الإعلامية جاهزة سلفاً من الخونة إلى المؤامرة إلى إضعاف الشعور القومى والوهن من نفسية الأمة وباقى الحنجورى إياه.

عملاؤك يصورون المظاهرات التى تقوم ضدك فى كل أرجاء العالم حتى يجدوا الترحيب اللائق إن فكروا فى اقتراف خطيئة العودة لسورية أو كى تتنصل منهم عائلاتهم علنل وعلى الهواء مباشرة، وغير مسموح بكاميرا واحدة فى الداخل، مدن الحدود يجب أن تباد عن بكرة أبيها لأنها بوابة المؤامرة ضد سورية، أنا أشارك إعلامك المبجل وأذنابه فى كل أنحاء الوطن العربى الكبير بسلامته أننا نتعرض لمؤامرة، لكن مؤامرتك أنت ونظامك وبقية الأنظمة العربية علينا أقوى وأشد تنكيلاً، الشعوب الغبية أمثالنا لا تستحقك أنت وباقى زعمائنا الأشاوس، أهمس فى أذنك بأن لا تصدقنا فنحن خونة وأصحاب المشروع الصهيونى الأمريكى وناكرى فضل ركوبك علينا، لكن المصيبة أنه لم يعد هناك وقت كاف لتغيروننا.

المشهد الذى سيدمى قلبك بالتأكيد هو مشهد ابراهيم قاشوش مغنى الثورة الذى غنى بسقوطك وورحيل نظامك بعد ان كبستم على أنفاس الشعب السورى فلم تكتف قواتك المبجلة بقتله بل بادرت بقطع حنجرته التى صدحت بذلك الهتاف البذيء مع انه لم يردد مثل أهل تبليسة الذين هتفوا: اسمع اسمع يا بشار أنت كلب وإحنا سباع، لم يقل ذلك، فقط قال: ارحل ارحل يا بشار، انتوا عصابة وإحنا رجال.

أحييك لأنك تعرف أن الذين يغنون هم الذين سيقاتلون وأنك وحدك فطنت لذلك فقطعت حنجرته، ألم تسمع أهل درعا وحمص وهم ينادون ويغنون بطريقة ساحرة قديمة مثل المسحراتى الذى يوقظ الضمائر، يا أهل سورية، يا أهل الشام.. إحنا أحرار وانتوا أحرار.

حنجرة قاشوش المقطوعة والملقاة فى نهر العاصى فوق جثته مازلت تنادى بصوت غير مبحوح: ارحل، ارحل.. ألا تسمع صوت المغنى، ألا تسمع صوت قاشوش.. النداء الأخير على بشار الأسد.

* كاتب مصرى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى