صفحات الرأي

النص ـ الحدث للفرنسي ستيفان هسل الى العربية: إغضبوا!


كراس الكاتب والمقاوم السابق والسياسي الفرنسي ستيفان هسل “اغضبوا”، حطم كل التوقعات في توزيعه وانتشاره، فوصل مبيعه الى مليون و800 ألف نسخة في فرنسا وحدها. وأثار عاصفة من الجدل في وسائل الإعلام المختلفة. وتحضر حالياً ترجمات للغات عديدة منها الأميركية والإسبانية والايطالية والألمانية. إنه كتاب “العام” في فرنسا. وحسناً فعل صالح الأشمر بترجمته وصدوره عن “دار الجمل”.

هنا جزء أساسي من الترجمة العربية الجيدة والدقيقة والحية لصالح الأسمر.

الحافز على المقاومة هو الغضب

لا يتورع بعضهم عن أن يقولوا لنا إن الدولة لم تعد قادرة على تأمين تكاليف هذه الإجراءات المواطنية. ولكن كيف يمكن اليوم الافتقار الى المال لتوسيع تلك الفتوحات والحفاظ عليها بينما تضاعف انتاج الثروات كثيراً منذ التحرير، أيام كانت أوروبا مدمرة؟ ما لم يكمن السبب في أن سلطان المال، الذي كافحته المقاومة بحزم، لم يكن يوماً قوياً، ومتغطرساً، وأنانياً، كما هو اليوم، مع خدامه المختصين حتى في أعلى مراكز النفوذ في الدولة. أما المصارف التي خصصت من بعد فتبدو مهتمة بأرباحها في المقام الأول، وبالرواتب المرتفعة جداً التي يتقاضاها مديروها، لا بالمصلحة العامة. والفارق بين الأكثر فقراً والأكثر غنى لم يكن قط كبيراً مثله اليوم، ولا لقي الركض وراء المال، والمنافسة، مثل هذا التشجيع.

كان الحافز الأساس على المقاومة هو الغضب. وإننا لنهيب، نحن قدامى حركات المقاومة والقوات المحاربة لفرنسا الحرة، بالأجيال الشابة أن تعمل على إحياء ونقل ميراث المقاومة ومُثلها العليا. وتقول لهم: تسلموا الراية، اغضبوا! ولا يجدر بالمسؤولين السياسيين، والاقتصاديين، والمثقفين، وعموم المجتمع، أن يستقيلوا، ولا أن يستسلموا لتأثير الدكتاتورية الدولية الراهنة للأسواق المالية التي تهدد السلام والديموقراطية.

أتمنى لكم جميعاً، لكل واحد منكم، أن تجدوا السبب الذي يدفعكم الى المقاومة. هذا أمر في غاية الأهمية. عندما يغضبكم أمرّ ما، كما كنت مغضباً من النازية، عندئذٍ يغدو كلّ منكم مناضلاً، قوياً ومُلتزماً. وينضمّ الى تيار التاريخ هذا، ولا بد لتيار التاريخ الكبير من أن يستمر بفضل كل واحد منكم. إن هذا التيار يمضي نحو مزيد من العدالة، ومزيد من الحرية، ولكنها ليست تلك الحرية المطلقة التي يتمتع بها الثعلب في قنّ الدجاج. إن هذه الحقوق، التي صاغ برنامجها الإعلان العالمي في عام 1948، تعم الجميع. فإن صادفتم من الناس أحداً لا يستفيد منها، فارثوا له، وساعدوه على تحصيلها.

رؤيتان الى التاريخ

عندما أحاول فهي الشيء الذي تسبب بنشوء الفاشية، الشيء الذي أدى الى اجتياحها لنا هي وحكومة فيشي، أقول لنفسي إن الملاكين، بما يتصفون به من أنانية، كانوا يرتعدون خوفاً من الثورة البلشفية. فأسلموا القياد لمخاوفهم. لكن لو انبرت اليوم، كما انبرت آنذاك، أقلية نشطة لكان ذلك كافياً، لأننا سنمتلك الخميرة لكي يختمر العجين. طبعاً، إن تجربة عجوز مثلي، مولود في عام 1917، لتتميز عن تجربة شبان هذه الأيام. وغالباً ما أطلب الى معلمين في مدارس ثانوية أن يتيحوا لي إمكانية التحدث أمام تلاميذهم، أقول لهم: إنكم لا تمتلكون، كما كنا نمتلك، الأسباب الواضحة لكي تلتزموا. أما نحن فكانت المقاومة في نظرنا هي عدم القبول بالاحتلال الألماني، وبالهزيمة. وكان ذلك أمراً بسيطاً نسبياً، بسيطاً مثل ما حدث بعد ذلك من إزالة للاستعمار. ثم حرب الجزائر. إذ كان من البديهي أن تصبح الجزائر مستقلة. وفي ما خص ستالين، فقد صفقنا جميعاً لانتصار الجيش الأحمر على النازيين، في عام 1943، لكن عندما علمنا بالمحاكمات التسالينية الكبرى التي جرت في عام 1935، فإن ضرورة الاعتراض على هذا الشكل الذي لا يُطاق من الشمولية فرضت نفسها كبداهة، على الرغم من أنه كان علينا أن نولي الشيوعية أذناً صاغية لموازنة الرأسمالية الأميركية.

لقد أتاحت لي حياتي الطويلة سلسلة متتالية من أسباب الغضب. لم تكن تلك الأسباب وليدة انفعال بقدر ما كانت ثمرة إرادة التزام. فطالب دار المعلمين الشاب الذي كنته كان متأثراً جداً بسارتر، زميل الدراسة الأكبر. وكان مؤلفا سارتر “الغثيان” و”الجدار”، وليس “الكينونة والعدم”، مهمين للغاية في تكويني الفكري. لقد عوّدنا سارتر أن يقول لنا: “أنتم مسؤولون من حيث انكم أفراد”. وكان مغزى ذلك هو الحرية المطلقة. إنها مسؤولية الإنسان الذي لا يمكنه أن يفوّض أمره لا الى سلطة ولا الى إله. بل على العكس، ينبغي له أن يلتزم باسم مسؤوليته ككائن إنساني. عندما دخلت دار المعلمين الكائنة في شارع أوْلم في باريس، عام 1939، دخلتها كمريد متحمس للفيلسوف هيغل، وكنت أحضر الحلقة الدراسية التي يُشرف عليها موريس مرلو بونتي. كان تعليمه يتحرى التجربة المحسوسة، تجربة الجسد وعلاقاته بالحس، كمفرد كبير قبالة جمع الحواس. بيد أن تفاؤلي الطبيعي الذي يريد أن يكون كل مرغوب ممكناً جعلني أميل الى هيغل. إن الفلسفة الهيغيلية تفسر تاريخ الإنسانية الطويل على أنه ذو وجهة: إنها حرية الإنسان متقدماً مرحلة بعد مرحلة. والتاريخ مصنوع من صدمات متتالية، ما يعني أخذ التحديات في الاعتبار. ثم إن تاريخ المجتمعات يتقدم، وفي النهاية، بعد أن يبلغ الإنسان حريته الكاملة، نحصل على الدولة الديموقراطية في شكلها المثالي.

طبعاً، هناك تصور آخر للتاريخ. فأوجه التقدم التي تحققت من طريق الحرية، والمنافسة، والركض وراء “الأكثر دائماً”، يمكن أن تكون معيشة كإعصار مدمر. هكذا يتصورها صديق لوالدي، الرجل الذي تقاسم معه مهمة ترجمة مؤلف مارسل بروست “البحث عن الزمن الضائع” الى اللغة الألمانية. إنه الفيلسوف الألماني فالتر بنيامين. لقد استخلص رسالة تشاؤمية من لوحة الرسام السويسري بول كلي، “ملاك الجديد” (أو “ملاك التقدم”) Angelus Novus، حيث يبسط الملاك ذراعيه كما لو أنه يصدّ ويدفع عاصفة يماثلها بالتقدم. يرى بنيامين، الذي انتحر في ايلول/سبتمبر 1940 هرباً من النازية، أن وجهة التاريخ هي السير الوئيد الذي لا يقهر من كارثة الى كارثة.

اللامبالاة: أسوأ المواقف

حقاً إن أسباب الغضب قد تبدو اليوم أقل وضوحاً أو العالم أشد تعقيداً. من يقود؟ من يقرر؟ ليس من السهل دائماً التمييز بين كل التيارات التي تحكمنا. فما عدنا نواجه نخبة نفهم بوضوح تصرفاتها السيئة. إنه عالم فسيح، نشعر جيداً بأنه مترابط يتكل بعضه على بعض. ونحن نعيش في حالة من التواصل لم يسبق لها مثيل. لكن في هذا العالم أشياء لا تُطاق. ولا بد لرؤيتها من إمعان النظر، والبحث. أقول للشبان: ابحثوا قليلاً تجدوا. إن أسوأ المواقف هو اللامبالاة، كأن تقول: “ما باليد حيلة، انني أتدبر أمري”. فبتصرفك على هذا النحو انما تفقد أحد المكونات الجوهرية التي تصنع الإنسان. ان أحد المكونات لا بد منها هو ملكة الغضب ونتيجته الالتزام.

يمكن الآن تمييز تحديين كبيرين جديدين:

1 ـ البون الشاسع بين أفقر الفقراء وأغنى الأغنياء الذي لا يكف عن التعاظم. وهذا من مبتكرات القرن الواحد والعشرين. فأفقر الناس في عالم اليوم لا يكاد أحدهم يكسب دولارين يومياً. ولا يمكن ترك هذا البون ويتعمق. إن هذه الواقعة وحدها يجب أن تحدث التزاماً.

2 ـ حقوق الإنسان وحالة الكوكب. أتيحت لي بعد الحرب فرصة المشاركة في تحرير الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تبنته منظمة الأمم المتحدة في العاشر من كانون الأول/ديسمبر 1948 في قصر شايو بباريس. آنذاك كنت رئيس مكتب هنري لوجييه، الأمين العام المساعد للأمم المتحدة، وأمين سر لجنة حقوق الإنسان، وبهذه الصفة اشتركت مع آخرين في كتابة ذلك الإعلان. ولا يسعني نسيان الدور الذي لعبه في إعداد الإعلان رينيه كاسان، المفوض الوطني لشؤون العدالة والتربية في حكومة فرنسا الحرة، عام 1941، والذي نال جائزة نوبل للسلام عام 1968، ولا ما قام به بيار منديس فرانس في نطاق المجلس الاقتصادي والاجتماعي الذي أحيلت عليه النصوص التي وضعناها، قبل أن تنظر فيها اللجنة الثالثة للجمعية العمومية، المكلفة بالقضايا الاجتماعية والإنسانية والثقافية. في ذلك الحين كانت هذه اللجنة تضم ممثلي الدول الأربع والخمسين الأعضاء في المنظمة الدولية، وكنت أتولى أمانة سرها. ونحن ندين لرينيه كاسان بالفضل في استعمال مصطلح الحقوق “العالمية” وليس “الدولية” كما كان يقترح أصدقاؤنا الأنكلوسكسونيون. إذ كان هذا هو الرهان عند الخروج من الحرب العالمية الثانية: التحرر من التهديدات التي فرضتها الشمولية على الإنسانية. وللتخلص منها لا بد من الحصول على تعهد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة باحترام تلك الحقوق العالمية. وهي طريقة لإبطال حجة السيادة الكاملة التي يمكن لدولة أن تعتد بها بينما تقترف جرائم ضد الإنسانية على أراضيها. وكانت هذه حالة هتلر الذي كان يعتبر نفسه سيداً في بلاده، مباح له إبادة شعب. إن هذا الإعلان يدين بالكثير للنفور العالمي من النازية، والفاشية، والشمولية، وحتى، بفضل حضورنا، لروح المقاومة. وكنت أشعر بوجوب العمل سريعاً، وعدم الانخداع بالنفاق الذي يكتنف إعلان المنتصرين تأييدهم لتلك القيم التي لم يكن الجميع ينتوي إعلاء شأنها بإخلاص، والتي حاولنا فرضها عليهم.

غضبي بخصوص فلسطين

اليوم ينصب غضبي الأكبر على ما يحدث في فلسطين، قطاع غزة والضفة الغربية. هذا النزاع هو منبع غضب في ذاته. ولا بد حتماً من قراءة تقرير ريتشارد غولدستون الصادر في أيلول/سبتمبر 2009 حول غزة. وفيه يوجه هذا القاضي الجنوب افريقي، اليهودي، والذي يزعم أنه صهيوني حتى، الاتهام الى الجيش الإسرائيلي بارتكاب “أعمال مماثلة لجرائم حرب، وقد تكون، في بعض الظروف، شبيهة بجرائم ضد الإنسانية” أثناء عملية “الرصاص المسكوب” التي استمرت ثلاثة أسابيع. لقد عدت شخصياً الى غزة في عام 2009، حيث تمكنت من الدخول مع زوجتي بفضل جوازي سفرنا الديبلوماسيين، لكي نتفحص عياناً ما يقوله التقرير. أما الأشخاص الذين كانوا يرافقوننا فلم يسمح لهم بدخول قطاع غزة. هناك وفي الضفة الغربية، زرنا مخيمات اللاجئين الفلسطينيين التي أقامتها منذ عام 1948 وكالة غوث وتشغيل اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، الأونروا، حيث ينتظر أكثر من ثلاثة ملايين فلسطيني طردتهم إسرائيل من أراضيهم عودة الى الديار تزداد الشكوك في حصولها. أما غزة فهي سجن كبير غير مسقوف لمليون ونصف المليون من الفلسطينيين. سجن ينتظم الناس فيه من أجل البقاء على قيد الحياة. وما يتردد في ذاكرتنا ويساورها أكثر من مشاهد التدمير المادي التي عايناها، مثل تدمير مستشفى الهلال الأحمر بـ”الرصاص المسكوب”، هو سلوك الغزاويين، وطنيتهم، وحبهم للبحر والشاطئ، واهتمامهم الدائب براحة أطفالهم، الكثر والمرحين. لقد تأثرنا بأسلوبهم الحاذق في مواجهة أنواع العوز والحرمان المفروضة عليهم.

رأيناهم يصنعون اللبن ويستخدمونه بدلاً من الاسمنت المفقود لإعادة بناء آلاف البيوت التي دمرتها الدبابات. وأكدوا لنا سقوط ألف وأربع مئة قتيل نساء، وأطفال، وشيوخ من ضمنهم في المخيم الفلسطيني في أثناء عملية “الرصاص المسكوب” التي شنها الجيش الإسرائيلي، مقابل خمسين جريحاً فقط في الجانب الإسرائيلي. انني أوافق القاضي الجنوب أفريقي على ما توصل اليه من نتائج. فأن يتمكن يهود من أن يقترفوا بأنفسهم جرائم حرب أمر لا يحتمل. إن التاريخ، ويا للأسف، قلما يقدم أمثلة على شعوب تتعظ من تاريخها الخاص.

أعلم أن حماس التي فازت في الانتخابات التشريعية الأخيرة لم تتمكن من تجنب إطلاق القذائف على المدن الإسرائيلية رداً على حالة الحصار والعزلة المفروضة على الغزاويين. وأعتقد يقيناً أن الإرهاب غير مقبول، لكن يجب الاعتراف بأنكم إذا كنتم محتلين بوسائل عسكرية متفوقة للغاية على أسلحتكم لا يمكن لرد الفعل الشعبي أن ينحصر في اللاعنف.

هل ينفع حركة حماس إطلاق القذائف على مدينة سديروت؟ الجواب لا. هذا لا يخدم قضيتها، لكن يمكن تفسير هذه الحركة بما يعتمل في صدور الغزاويين من سخط. وفي مفهوم السخط، يجب فهم العنف على أنه محصلة مؤسفة لأوضاع غير مقبولة بالنسبة الى من يعانون منها. والحال يمكن أن يقال إن الإرهاب نوع من السخط. وإن هذا السخط تعبير سلبي. لا ينبغي أن نسخط (أو نفقد الأمل)، ينبغي أن نأمل. إن السخط إنكار للأمل. وهو مفهوم، وأكاد أقول إنه طبيعي، غير أنه ليس مقبولاً. لأنه لا يسمح بالحصول على نتائج يمكن على سبيل الاحتمال أن تصنع الأمل.

اللاعنف

أنا على يقين بأن المستقبل ينتمي الى اللاعنف، والى المصالحة بين الثقافات المختلفة. من هذا الطريق سيكون على الإنسانية أن تجتاز مرحلتها المقبلة. وفي هذه النقطة ألتقي مع سارتر، فلا يمكن إعذار الإرهابيين الذين يرمون بالقنابل، ولكن يمكن فهمهم. كتب سارتر في عام 1947: “أعترف بأن العنف تحت أي شكل كان إنما هو فشل. غير أنه فشل لا مفر منه لأننا نعيش في عالم من العنف. وإن كان حقاً أن اللجوء الى العنف يبقى هو العنف الذي يخاطر بإدامته، فالحق أيضاً أن هذا هو الوسيلة الوحيدة لإنهائه”. لا يسعنا أن ندعم الإرهابيين كما فعل سارتر باسم هذا المبدأ إبان حرب الجزائر، أو عند وقوع الاعتداء على رياضيين إسرائيليين أثناء دورة الألعاب الرياضية في ميونيخ عام 1972. هذا العنف غير فعال حتى أن سارتر نفسه خلص في أواخر أيامه الى التساؤل عن معنى الإرهاب والشك في مبرر وجوده. ثم ان القول بأن “العنف غير فعال” أهم من معرفة ما إذا كان يجدر بنا أن ندين أولئك الذين يستسلمون له أم لا. إن الإرهاب غير فعال. وفي مفهوم الفعالية لا بد من أمل غير عنيف. فإن كان ثمة أمل عنيف فهو في شعر غيوم أبولينير: “كم هو عنيف الأمل!”؛ لا في السياسة. لقد أعلن سارتر في آذار/مارس 1980، قبل ثلاثة أسابيع من وفاته: “يجب أن نفسر لماذا كان عالم اليوم، وهو عالم رهيب، مجرد لحظة لا غير في التطور التاريخي الطويل، ولماذا كان الأمل على الدوام هو إحدى القوى المهيمنة على الثورات والعصيانات، ولماذا ما زلت أشعر بالأمل على أنه تصوري للمستقبل”.

يجب أن ندرك أن العنف يولي ظهره للأمل. ولا بد من تفضيل الأمل عليه، أمل اللاعنف. هذا هو السبيل الذي ينبغي علينا أن نتعلم اتباعه. وسواء أكان ذلك من جانب المضطهدين أم المضطهدين، لا بد من ولوج باب التفاوض لإزلة الاضطهاد، إن هذا المسعى هو الذي سوف يقطع دابر العنف والإرهاب. ولهذا يجب عدم السماح بتراكم كثير من الحقد.

إن رسالة رجل مثل مانديلا، ومارتن لوثر كينغ، تجد مصداقها في عالم تجاوز صدام الأيديولوجيات والشمولية الزاحفة. إنها رسالة أمل في مقدرة المجتمعات الحديثة على تجاوز النزاعات من خلال التفهم المتبادل والتأني الفطن. ولبلوغ هذه الغاية يجب الاستناد الى الحقوق التي من شأن انتهاكها، أياً يكن الفاعل، أن يثير غضبنا. لا مجال للتساهل في هذه الحقوق.

من أجل عصيان مدني

لقد سجلت ولست الوحيد رد فعل الحكومة الإسرائيلية وقد جوبهت بصنيع مواطني بلعين كل يوم جمعة عندما يأتون، من دون رمي بالحجارة، أو استعمال القوة، الى الجدار الفاصل حيث يحتجون على بنائه. لقد وصفت السلطات الإسرائيلية هذه المسيرة بأنها “إرهاب غير عنيف”. لا بأس. يجب أن تكون إسرائيلياً حتى يمكنك أن تصف اللاعنف بأنه إرهابي. ولا بد بوجه خاص من أن تكون مرتبكاً إزاء فعالية اللاعنف الذي يتوسل استثارة التأييد، والتفهم، ومساندة كل من في العالم من مناهضين للاضطهاد.

إن الفكر الانتاجوي، الذي يحمله الغرب، قد أدخل العالم في أزمة يستلزم الخروج منها إحداث قطيعة جذرية مع الهرب الى الأمام المتمثل بـ”الأكثر دائماً” في المجال المالي كما في مجال العلوم والتقنيات. لقد آن الأوان لكي تصبح كفة الهم الأخلاقي، والعدالة، والتوازن المستدام، هي الراجحة. لأن المخاطر الجسيمة تتهددنا. ويمكنها أن تضع حداً للمغامرة الإنسانية على كوكب بإمكانها أن تجعله غير صالح لسُكنى البشر.

لكن يبقى صحيحاً أيضاً أن تقدماً مهماً قد تحقق في ميادين عدة منذ عام 1948: إزالة الاستعمار، نهاية نظام الفصل العنصري، تدمير الامبراطورية السوفياتية، سقوط جدار برلين. في المقابل كانت السنوات العشر الأولى من القرن الواحد والعشرين مرحلة تراجع. هذا التراجع أفسره جزئياً بالمدة التي ترأس فيها جورج بوش الولايات المتحدة الأميركية، والحادي عشر من أيلول/سبتمر 2001، والنتائج الكارثية التي استخلصتها الولايات المتحدة، مثل التدخل العسكري في العراق. لقد حلت بنا تلك الأزمة الاقتصادية غير أننا لم نتعلم منها مباشرة سياسة إنمائية جديدة. كذلك لم تتح قمة كوبنهاغن بشأن الاحتباس الحراري انتهاج سياسة حقيقية للحفاظ على الكوكب. إننا نقف على عتبة، بين أهوال العقد الأول من هذا القرن واحتمالات العقود التالية. لكن يجدر بنا أن نأمل، يجب أن نأمل دائماً. كان العقد السابق، عقد التسعينات، مصدر تقدم متعدد المجالات. لقد أمكن للأمم المتحدة أن تدعو الى مؤتمرات مثل مؤتمر ريو حول البيئة في عام 1992، ومؤتمر بكين حول النساء في عام 1995، وفي أيلول/سبتمبر 2000، بناء على مبادرة الأمين العام للأمم المتحدة، كوفي عنان، أقرت الدول الـ191 الأعضاء الإعلان حول “أهداف الألفية الثمانية من أجل التنمية”، الذي تعهدت فيه على وجه الدقة أن تخفض الى النصف حجم الفقر في العالم من الآن الى عام 2015.

وإني ليؤسفني أشد الأسف ألا يكشف كل من أوباما والاتحاد الأوروبي حتى الآن عن مقدار مساهمتهما المفترضة للانتقال الى مرحلة بناءة، استناداً الى القيم الأساسية.

كيف أختم هذه الدعوة الى الغضب؟ سأختتمها مستعيداً ما قلناه، نحن قدامى حركات المقاومة والقوات المحاربة لفرنسا الحرة (1940 1945)، في الثامن من آذار/مارس 2004، في مناسبة الذكرى الستين لبرنامج المجلس الوطني للمقاومة، من أن “النازية قد هُزمت، بفضل تضحية اخوتنا وأخواتنا في المقاومة وفي الأمم المتحدة ضد الهمجية الفاشية. غير أن هذا التهديد لم يختف كلياً، وإن غضبنا ضد الظلم ما زال متقداً لم يفتر”.

لا، هذا التهديد لم يختف كلياً. لذلك ما زلنا ندعو الى “عصيان سلمي حقيقي ضد وسائل الاتصال الجماهيرية التي لا تقترح لشبيبتنا من أفق سوى الاستهلاك الجمعي، واحتقار من هم أضعف، وازدراء الثقافة، وفقدان الذاكرة المعمم، والمنافسة القاسية يخوضها الجميع ضد الجميع”.

الى الذين واللواتي سوف يصنعون القرن الواحد والعشرين، نقول مع محبتنا:

“الخلق، هوالمقاومة.

المقاومة، هي الخلق”.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى