صفحات العالم

إنهاء التجاور بين الثورات والعنف


حازم صاغيّة

كثيراً ما تتجاور الثورات وأعمال العنف المهووس والمتعصّب، من دون أن يغيب السؤال الحارق: هل الثورات ستكون المحطّة العابرة ليستتبّ الأمر للعنف، أم أن الأخير سيكون هو العابر بما يتيح للثورات الإفضاء إلى عالم بديل أرقى؟

وربّما في حالة الثورات العربيّة، بلغ هذا التجاور ذروته في ليبيا، حيث استفادت مجموعة عنفيّة ومتعصّبة من المناخ الثوريّ الجديد لتقتل السفير الأميركيّ في بنغازي. وعلى مستوى أدنى كثيراً، مارست جماعات محسوبة على الثورة السوريّة أعمالاً أقرب إلى العنف المحض الذي لا صلة له بالثورة وأهدافها.

والحال أنّ التفاؤل الذي أحاط باندلاع الثورات السلميّة، انطلاقاً من تونس، أوحى بأنّ العنف المتعصّب سيُدفع إلى أضيق الهوامش في انتظار أن يذوي ويموت. والتفاؤل هذا لم يكن بلا سند من واقع. فحين صفّت القوّات الأميركيّة سيّد ذاك العنف، أسامة بن لادن، لم يتحوّل الحدث هذا إلى شاغل، بدليل أنّ الثورات، وهي كانت تستقطب الضوء كلّه، عبرت فوق جثّة «شيخ المجاهدين» المرميّة في البحر من غير أن تلتفت إليها.

لقد بدا، بمعنى ما، أنّ تلك الثورات، فيما هي تُسقط الأنظمة، تُسقط «القاعدة» وعنفها أيضاً.

لكنْ تبيّن لاحقاً أنّ الأمور أعقد من هذا التبسيط. فما بين إطالة الأنظمة للصراع واستحضارها للعنف الجهاديّ، كما الحال في اليمن وخصوصاً في سوريّة، وما بين ذيول الثورات ومضاعفاتها، على ما حصل في ليبيا من حرب ومن تسرّب للأسلحة وللمقاتلين، بتنا أمام حقيقة تقول إنّ تجاور الثورة والعنف سيبقى إلى أن تتوافر العوامل التي تُنهيه.

وهذا التجاور نلقاه اليوم في ساحات وطنيّة، لكنّنا نلقاه، على صعيد إقليميّ أكبر كثيراً، في شمال مالي، غير البعيد عن المهدين الثوريّين التونسيّ والليبيّ، حيث تجرى الاستعدادات لتحويل ذاك البلد الأفريقيّ أفغانستان طالبانيّة أخرى.

وليس من المبالغة القول إنّ الثورات العربيّة التي انتصرت مدعوّة إلى مواجهة احتمالات كهذه أكثر ممّا الغرب مدعوٌّ إلى ذلك. فإذا كانت حالة العنف الجهاديّ مصدر قلق أمنيّ للغربيّين (الذين لا يُستبعد لجوؤهم إلى الحرب في مالي)، فإنّها بالنسبة إلى الثورات أكثر من ذلك. ذاك أنّ الدور الجهاديّ، فضلاً عن أخطاره الأمنيّة على بلدانها، يهدّد الثورات في معناها وفي أهدافها، مجبراً إيّاها على أن تفرز نفسها عنه وتنهي التجاور الاضطراريّ معه.

وفي حالة سوريّة يتبدّى أنّ الغرب، والولايات المتّحدة خصوصاً، يدفعان في اتّجاه تسريع ذاك الفرز ومساعدة الثوّار على إنجازه. فإذا كان الدعم الغربيّ للثورة سيتعاظم، مع بداية عهد أميركيّ جديد، فالمؤكّد أنّ على الثورة أن تلاقي هذه الوجهة في منتصف الطريق. ذاك أنّ الذي سيساعد الثوّار لا بدّ من أن يسأل الثوّار أن يساعدوه في معركة ضدّ من هم، في وقت واحد، أعداء الغرب «الصليبيّ» وأعداء الثورات العربيّة في طلبها الحرّيّة.

وقصارى القول إنّ المعركة مع النزعات الجهاديّة، أكانت في سوريّة أم في سواها على نطاق وطنيّ، أم في مالي على نطاق إقليميّ، فرصة للثورات ينبغي ألاّ تُفوّت، فرصةٌ للبرهنة على أنّها ثورات وليست عنفاً، على ما يتّهمها به خصومها الذين لا يريدونها غير ذلك.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى