صفحات العالم

النظام السوري… أهو أكبر من أن يسقط؟

 


Aaron David Miller -Foreign Policy

تبنيت عدداً لا بأس به من الأوهام خلال عملي مع الحكومة الأميركية لكن وهم عائلة الأسد لم يكن يوماً أحدها، فلم أستطع أن أفهم مطلقاً انجذاب زملائي إلى النظام السوري العنيف، فبشار الأسد، في رأيي، حاكم مستبد ظالم يريد أن يكون فرانك سيناترا الشرق الأوسط.

إذا حيرتك سلبية الرئيس الأميركي باراك أوباما في التعاطي مع القمع العنيف الذي يمارسه الرئيس السوري بشار الأسد ضد المعارضة المحلية، تأكد أن حيرتك هذه في غير محلها، فسورية مختلفة كل الاختلاف عن ليبيا، فثمة قضايا كثيرة مرتبطة بنظام الأسد، وقد تترتب على تقويضه تداعيات كبرى، لذلك، يُحجِم الغرب عن الإقدام على خطوة خطيرة مماثلة.

صحيح أن سقوط آل الأسد قد يعود بالفائدة على المصالح الأميركية، إلا أن الرئيس الأميركي لن يشجعه، فيدرك أصحاب النظرة الواقعية في البيت الأبيض أن انهيار الأسد يؤدي إلى مخاطر تفوق بأشواط ما قد يحمله من فرص. لا تتصرف القوى العظمى عادة بالطريقة عينها في شتى الظروف، بل تعتمد أحياناً المراوغة لتعزز مصالحها، ولا يُعتبر هذا بالأمر الغريب، بل يشكل جزءاً لا يتجزأ من إدارة الدول، ففي مواجهة قوى التغيير والتمرد على القمع التي انتشرت في العالم العربي، صارت المرونة أكثر أهمية من الصلابة العقائدية. ولا شك أن آخر ما تحتاج إليه الولايات المتحدة اليوم نموذج عقائدي وإيديولوجي تحدد من خلاله رد فعلها تجاه التغييرات السريعة التي تحدث في عدد من الدول العربية، خصوصاً أن ظروف كل منها مختلفة تماماً.

لم يكن هناك مفر من أن يتحول رد فعل الإدارة الأميركية في معظم الأحوال إلى لعبة مطاردة عقيمة، تَظهر خلالها مشاكل جديدة كل يوم، وينطبق الأمر عينه على ردود الفعل الأميركية المختلفة التي شهدناها حتى اليوم، ففي البحرين، إذ أقامت الولايات المتحدة مقر أسطولها الخامس، وفي اليمن إذ تحظى تدابير مكافحة الإرهاب بالأولوية، آثرت الولايات المتحدة مصالحها على قيمها، فلم نسمع الرئيس أوباما يدلي بخطاب شبيه بخطاب ‘على القذافي أن يرحل’ في تعاطيه مع الرئيس اليمني علي عبدالله صالح أو البحرين.

كذلك، تجلت تناقضات السياسة الخارجية الأميركية وشوائبها بوضوح تام من خلال ردود الفعل المختلفة التي اعتمدتها إدارة أوباما في تعاملها مع ظلم القذافي والأسد لشعبيهما. بدت هزيمة القذافي ممكنة وضرورية للحؤول دون ما اعتُبر جرائم فظيعة ترتكبها قواته في بنغازي، فلم تتمتع ليبيا بأنظمة دفاع جوية تُذكر، فضلاً عن أنها بدون أصدقاء، لذلك، بدا سهلاً نسبياً تشكيلُ ائتلاف من (شبه) المستعدين لخوض هذه الحرب في الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) وجامعة الدول العربية بغية الوقوف في وجه الرجل الذي نعته الرئيس رونالد ريغان ذات مرة بـ’كلب الشرق الأوسط المسعور’، فهو حاكم مستبد غير ذي شأن يعارض الإصلاح والتغيير السياسي، ولو تعمدنا تشكيل هدف أكثر هشاشة، لما حققنا نجاحاً مماثلاً. لكن الوضع يختلف كل الاختلاف في سورية، فلطالما اعتمدت السياسة الأميركية على أمل أن تسقط أسرة الأسد وعلى الخوف ممن سيحلون محلهم في حال انهاروا، وضمِنت ثلاث حقائق تقليدية تبني الولايات المتحدة رداً مختلفاً عما اعتمدته في ليبيا.

أولاً، سورية قوية، إذ يتمتع هذا البلد بنظام دفاع جوي معقد ويملك أسلحة كيماوية وبيولوجية، فضلاً عن عدد كبير من الأصدقاء، مثل إيران و’حزب الله’ القادرين على الرد، وكذلك، لن تنجح الولايات المتحدة في تعاطيها مع سورية في الفوز بالدعم الضروري في الأمم المتحدة، حشد دول حلف شمال الأطلسي، والحصول على موافقة جامعة الدول العربية، علماً أن هذه الخطوات كانت ضرورية للتدخل في ليبيا، علاوة على ذلك، لا يبدو بعض أصدقاء الولايات المتحدة المقربين، بمن فيهم إسرائيل والمملكة العربية السعودية، واثقين من أن سورية بدون الأسد ستصبح أفضل حالاً مما هي عليه اليوم.

ثانياً، شكّلت سورية في عهد معظم الرؤساء الأميركيين (يُعتبر رونالد ريغان وجورج بوش الابن استثناءً) كأساً دبلوماسية غير مقدسة، فمنذ عهد ريتشارد نيكسون وهنري كيسنجر، اعتبر صانعو السياسات الأميركية أسرة الأسد نخبة حاكمة عملية قادرة على تسهيل أو عرقلة السياسة الأميركية في لبنان ومسيرة السلامة العربية-الإسرائيلية. فقد اعتقد الرؤساء الأميركيون طوال أجيال أن الحياة ستصبح أفضل لو أن السوريين يبدلون مسارهم، ولا يسيطر هذا الوهم على الولايات المتحدة فحسب، بل يتحكم أيضاً بالإسرائيليين والعرب والأوروبيين والروس، ولكن كما حدث مع مصارف وول ستريت، اعتُبرت سورية آنذاك (وفي الوقت الراهن أيضاً) أكبر من أن تسقط، وولّد استمرار أسرة الأسد شعوراً غريباً بالراحة.

تبنيت عدداً لا بأس به من الأوهام خلال عملي مع الحكومة، لكن وهم عائلة الأسد لم يكن يوماً أحدها، فلم أستطع أن أفهم مطلقاً انجذاب زملائي إلى النظام السوري العنيف، فبشار الأسد، في رأيي، حاكم مستبد ظالم يريد أن يكون فرانك سيناترا الشرق الأوسط، فهو مهووس بالتصرف على هواه، ونتيجة لذلك، غالى في تقدير شأنه، حتى أنه ابتعد عن السلام مع إسرائيل وحدّ من علاقاته بالولايات المتحدة، واللافت للنظر أن كل الدول العربية، باستثناء ليبيا على الأرجح وسورية، نجحت في توطيد علاقتها مع الولايات المتحدة.

ثالثاً، تتحكم مجموعة من أنصار الواقعية بمقاربة أوباما تجاه سورية، وهنا تختلف هذه المقاربة عن سياسته تجاه ليبيا، التي يؤدي فيها الليبراليون من أنصار التدخل في الإدارة والمحافظون الجدد خارجها دوراً واضحاً. تشمل هذه المجموعة من الواقعيين الرئيس، الذي يدرك أنه لا يملك الكثير من الخيارات في تعامله مع سورية، فقد قيل له إن النفوذ الأميركي محدود في سورية وإنه، إن طالب بإطاحة نظام الأسد ولم يسقط هذا الأخير، فإنه يكون قد خسر علاقته بلاعب أساسي في المنطقة.

في مطلق الأحوال، ماذا يمكنه فعله لردع نظام يحارب في سبيل استمراره؟ سحب السفير الأميركي روبرت فورد من دمشق؟ فرض حظر على سفر الأسد وعائلته؟ حض الأوروبيين على تجميد أموال الأسد؟

في عالم الرموز الذي نعيش فيه، قد تؤكد هذه الخطوات أهمية القيم الأميركية، غير أنها لن تؤثر البتة في مجرى الأحداث في سورية.

بعبارة أكثر بساطة؛ إدارة أوباما قلقة من تدهور الأوضاع إلى ما هو أسوأ في حال سقط الأسد، إليكم بعض السيناريوهات المجنونة المحتملة: حرب أهلية، استيلاء الأصولية السنّية على الحكم، أو نشوء مقر جديد لتنظيم ‘القاعدة’.

طبعاً، سيحمل سقوط نظام الأسد بعض الأوجه الإيجابية، فسينهار نظام عنيف، وستُحرم إيران من شريك عربي ومن نافذة بالغة الأهمية تتيح لها التدخل في لبنان والساحة العربية- الإسرائيلية. كذلك، ستميل ‘حماس’ باتجاه المدار المصري والسعودي، في حين أن ‘حزب الله’، الذي مازال واسع النفوذ في لبنان، سيخسر أحد رعاته الأساسيين، لكن الإدارة الأميركية ترى في هذه المرحلة أن مخاطر إقدامها على خطوات محددة تفوق الفوائد المحتملة. إذن، لا تتوافر أمام الرئيس سوى خيارات سيئة تترتب عليها تداعيات سلبية، لذلك، علينا الاكتفاء اليوم بمراقبة ما يحدث لنرى الاتجاه الذي ستسلكه سفينة الأسد، شمالاً أو جنوباً، ولكن إذا نجح الأسد في البقاء في الحكم، لن أتفاجأ البتة إذا عمدت واشنطن إلى استئناف علاقاتها كالمعتاد بالحاكم العربي المستبد الوحيد الذي يُعتبر أكبر من أن يسقط.

نشر في صحيفة الجريدة الكويتية

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى