صفحات سورية

النظام السوري أعلن الحوار على الشعب


د. أحمد اليوسف

من خصوصية ثورة الشعب في سورية ومنجزاتها، هذا الكم الهائل من المفاهيم التي أدخلتها إلى التداول. من آخر هذه المفاهيم مفهوم الحوار.فمع تعمق الأزمة في سورية وازدياد الشرخ مابين السلطة والشعب تحول هذا المفهوم إلى مقولة سياسية بامتياز تتمحور حولها كل المقولات الأخرى إلى الحد الذي جعل النظام نفسه، وهو القائم منذ عقود على أعمدة الصمت والإذعان، يتبنى هذا المفهوم أو بالأحرى يصادره. ولا تحتاج عملية تفكيك الخطاب السياسي للسلطة السورية في تبنيها للحوار إلى جهد كبير. فآلية طرح هذا الحوار وشكل تجسيده على الواقع تكشف عن هشاشة هذا التبني.

لم يكتسب هذا المفهوم زخما من ضرورته السياسية فحسب، فضرورته واكبت احتكار حزب البعث للسلطة وقد أمضى فيها أبدا بكامله. بل إن هذا الزخم يدين، في جزء منه، إلى وسائل الإعلام التي ألقت الضوء على غيابه المطلق عن الثقافة السياسية في دولة القائد الفذ وجمهورية كم الأفواه. من هنا يأتي انزعاج النظام من محطات الإعلام إلى الحد الذي ذهب فيه إلى لعنها علانية واتهامها بالتآمر عليه. فلم تكتف قناة الجزيرة على سبيل المثال بعرض الرأي والرأي الأخر باتجاهاته المتعاكســــة بل بالغت في حرصها على المصداقية في نقلها لثورة الشعب في ســــورية إلى حد نقل الواقع كما هو. اعتبر نقل الحقيقة هذا تصديرا لحبوب هلوسة بدليل أن الشــعب بغالبيته خرج يهلوس مطالبا بالحرية. وذهبت الجزيرة هذه إلى ابعد من هذا فراحت تستقبل على شاشتها كل أطراف الصراع في سورية، من المعارضة التي كشفت عن اتساع افقها السياسي، ومن مثقـــفي السلطــــة ممن يسموا بالمثقف الأمي الذين يؤججون في كل ظهور ثورة الشعب وسخط الضمائر الحية في كل أصقاع العالم.

إن احتلال الجزيرة لقلوب السوريين جعل عملية التحرير من قبل النظام السوري مسألة عصية وخصوصا أن أثيرها دخل إلى كل بيت سوري حاملا معه كل الأسئلة السياسية ومنها سؤال الحوار.

ما الحوار وما فحواه ومضامينه؟ ما هي أسسه وشروطه ومَن مع الحوار ومَن ضده؟

وفق الفهم الأولي والبسيط ،الحوار هو عبارة عن تواصل بين شخصين أو مجموعتين يصبو إلى اتفاق حول قضية محددة. يبنى هذا الحوار على اعتراف مسبق من كل طرف بالطرف الآخر وضمن أدواة تواصل مقبولة من الطرفين. ولدينا في ثقافتنا العربية والإسلامية مرجعية نظرية تؤسس للحوار قائمة على الاعتراف المسبق بالآخر حتى وان كان مخطئا. مثالنا على هذا ما قاله الإمام الشافعي: (قولي صواب يحتــــمل الخطأ وقولك خطأ يحتمل الصواب). من هنا قضية الحوار تنقلنا إلى لب المشكلة السياسية في سورية ألا وهي مشكلة الاعتراف. ولا أقصد هنا الاعتراف بالخــــطأ كنقد للذات فهذا ما لا تستطع السلطات المعصومة كتلك التي في سورية أن تقوم به. بل أقصد الاعتراف بالآخر: بوجوده وبإمكانية صوابه وبمشروعية مطالبه.

تاريخ المعارضة السورية في اغلب تياراتها هو تاريخ تبنّي للحوار بوصفه مطلبا أوليا يؤسس للتغيير. فقد جعلت منه هويتها السياسية التي تتكشف من خلال شعارها القائل: لا لاحتكار السلطة من قبل جهة واحدة أيا كانت. موقفها هذا هو في الآن نفسه موقفا معارضا ودعوة صريحة للحوار ولشرعنة الاختلاف.

بالنسبة لشروط وأسس الحوار ومضامينه تقدم المعارضة، وهي مسنودة اليوم بالشعب السوري، رؤية متكاملة تتضمن فحوى الحوار وآفاق الحل لسورية الغد مفادها ما يلي :

1ـ استبدال الدولة الأمنية بدولة مدنية وبدولة مؤسسات وقانون قائمة على الاعتراف بان أفراد الشعب هم مواطنون أحرار متســاوون أمام القانون.

2ـ المشاركة السياسية بالحكم عبر إنشاء نظام ديمقراطي يسمح بالتداول السلمي للسلطة ويحدد لها مدة معينة قد لا تتجاوز الأربع سنوات مع الاعتراف بالتعددية السياسية التي تحاكي التنوع الثقافي والاجتماعي لجميع أطياف الشعب السوري.

3ـ تبييض السجون الســـورية من معتقلي الرأي وإطلاق الحريات السياسية والسماح بتشكيل الأحــــزاب ونزع الرقـــابة الأمنية عن الإعلام.

4ـ كف سلطة الأمن عن رقاب الناس وكبح تدخله بكل أوجه الحياة الاجتماعية.

5ـ الاعتراف بكل أشكال التعدد الثقافي داخل المجتمع السوري: تعدد اللغات والمعتقدات..الخ.

بالإضافة لكل هذا الذي ذكرناه تقدم المعارضة، مدعومة بالشعب، رؤية للحل تطرحها للحوار مفادها:

تنازل الرئيس الراهن عن الحكم بعدما سحب الشعب الشرعية عنه حقنا للدماء وأن يعهد بها إما للبرلمان أو لنائبه ليتم بعد ذلك تشكيل مجلس وطني انتقالي يضم كافة التيارات السورية من أحزاب ومن ممثلين عن التنسيقيات الشبابية ومن ضباط لم يتورطوا بقتل الأبرياء. ومن ثم ليشرف هذا المجلس على انتخابات تشريعية بمراقبة دولية ضمانا للعملية الديمقراطية. وليتلو هذا في مرحلة لاحقة إجراء عملية انتخاب ديمقراطية لرئيس جديد للبلاد. هذا ملخص ما تتفق عليه المعارضة السورية في تعددها الذي تحرص عليه بعيدا عن الحزب الواحد والكلمة الواحدة والقائد الواحد. فالتعدد والتنوع هو مركز قوتها.

أما بالنسبة لطرح النظام فمع كل محاولاته لدخول القرن الواحد والعشرين فإنه لا زال حبيس إرثه الإقصائي والدكتاتوري. فإلى ما قبل شهر من اندلاع الثورة في سورية بشّر الرئيس بشار وبكثير من الحرص على أبدية السلطة بان الجيل الذي ينتمي إلى هذا الزمن من السوريين لن يرى الديمقراطية وأن الأمر يحتاج إلى أجيال قادمة. وهذا يفسر لنا ربما لماذا تم إعلان إسقاط النظام من قبل الأطفال قبل الرجال. ولا تزال ذهنية الحكم الأبدي متمسكة إلى الآن بنظرية المؤامرة كتفسير للازمة في سورية على فقرها وهشاشتها.

فهاهم منظرو السلطة يردون على كل المتآمرين عليها ,وهم شعوب الأرض كلها وبعض من قاطـــني المجرات الأخرى، ويعبرون عن امتعاضهم لكل من ينكر إصلاحات السلطة ومنجزاتها . وعلى الرغم من غياب أي مشروع سياسي أو اقتصادي لدى النظام وعلى الرغم من سقوط قناع الممانعة بعد إعلان عرّاب النظام رامي مخلــــوف من أن أمن إسرائيل من أمن سورية وعلى الرغم من كل ما سقط من شهداء. لم يجد الموالون للنظام من حرج من إعلان تمسكهم به لا لشيء سوى لأنهم يحبونه: ألا يكفي الحب تبريرا بالسياسة؟

على الرغم من كل ما قدمته السلطة الحكيمة في سورية من مفاهيم تغني علم السياسة مازال هناك مَن يتآمر على حقها الموروث بالحكم. فلها الفضل بإضافة مفاهيم شتى نعجز عن ذكرها كلها هنا منها على سبيل المثال: الشبيحة والمندسين. ولم تكتف سلطة البعث بخلق أو بالدفع إلى خلق المفاهيم بل أضفت معان جديدة على مفاهيم تم استهلاكها منها مفهوم الحوار ومفهوم الآخر. فهاهم جهابذة القومية العربية الذين امتهنوا مقاومتهم وممانعتهم عبر خطابات الجلد يعطون اليوم دروسا إلى كل أنصاف الرجال في كوكب الأرض.

يقول منظرو السلطة: نحن دعاة احترام الآخر بل نحن الآخر ولا آخر سوانا. أليست سورية الآخر وسورية الأسد إلا مترادفات لمعنى واحد؟ فلماذا تصادرون على آخرنا الفذ الممانع؟

وهنا مكمن المشكلة. لقد اختصر الصحفي البريطاني آلن جورج الصورة المأساوية لسورية بكتابه المعنون: سورية لا خبز ولا حرية. ويمكنني أن أضيف: سورية لا خبز ولا حرية ولا شعب حتى. فلقد اعترف النظام على مضض بمشروعية بعض المطالب التي أعلنها الشباب الثائر ولكن دون الاعتراف بمشروعية المطالبين أنفسهم فليسوا سوى مجموعة مندسين وجراثيم. هكذا وباختصار لا مكان للاعتراف في دولة البعث.

أما بخصوص مسألة الحوار الذي أعلن النظام تبنيه عبر مسؤوله الأول أي الرئيس فعلينا أن نصغي جيدا لهذه النظام الجاد دائما فيما يقول. فقد اختبرنا جديته عبر احد عشر عاما من حكمه وله صيت في هذا والصيت أقوى من الفعل. ألم يحرر جسر الشغور من سكانها عبر صيت جيشه فهربوا وكأنهم يهربون من الطاعون؟ ألم يهربوا من صيته قبل أن يبلغهم فعله؟ هذا الصيت الذي اكتسبه من بطولته في قرية البيضا حيث جعل شعبها يهتف باسمه ورأسه للأرض.

نعم إن النظام جاد بإعلانه الحوار على الشعب فبعد أن اعتقل كل من دعا إلى الحوار عبر تاريخه النضالي هاهو يتوجه اليوم إلى كل من بقي خارج المعتقلات ولم تجتث بعد أعضاءه قائلا : أنا المحاور الأوحد تراجعوا عن الفتنة وها قد فتحت طاولات للحوار لها فروع في سجن تدمر وصيدنايا وفي كل أنحاء سورية. لكل من غررت الحرية به وبلغته عدوى الكرامة لقد فتح النظام طاولة للحوار وما عليكم إلا أن تسلموا أنفسكم.

‘ اكاديمي سوري مقيم في كندا

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى