صفحات سورية

النظام السوري.. مستشارون مضللون وإعلام خشبي

 


محمد فاروق الإمام

لأول مرة تشهد سورية انتفاضة شعبية بهذا الحجم وهذا الزخم بعد أن كسر الشباب حاجز الخوف، شملت كل المدن السورية بلا استثناء، وضمت كل النسيج الوطني السوري بكل أعراقه وأديانه وطوائفه ومذاهبه وتوجهاته السياسية والفكرية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، والكل يهتف (الله.. سورية.. حرية وبس) شعار رددته حناجر المحتجين الغاضبين الذين دانوا مرغمين لنحو نصف قرن لشعارات زائفة ممجوجة أطلقها حزب البعث الشمولي الحاكم منذ تسلق صبيانه جدران السلطة في دمشق قبل 48 سنة (بالروح بالدم نفديك يا….) (الثالوث المقدش: وحدة.. حرية.. اشتراكية)، وعاش الشعب كل هذه السنين العجاف مقموعاً سجيناً معتقلاً منفياً مذبوحاً وقد صادر البعث حريته، ومزق وحدته، وعمل على إطفاء سُرج عقول الناس والحجر على أفكارهم وتكميم أفواههم، وسرقة جيوبهم ونتاج عرقهم وجهدهم.

اليوم انتفضت الجماهير وكسرت حاجز الخوف وتحدت آلة القمع الأمنية للنظام البعثي الشمولي الاستبدادي، وهي تعرف تمسك النظام بالحكم، وتعرف تحجّر فكره وما يملكه من ترسانة عسكرية هيأها لمثل هذا اليوم، وتعرف أن ثمن الحرية التي تنادي بها غالياً وأن عليها دفعه بلا تردد، وهذا ما كان، فقد قدمت محافظة درعا وحدها نحو مئة شهيد ومئات الجرحى، وقدمت اللاذقية أكثر من اثني عشر شهيداً وعشرات الجرحى، وكذلك فعلت باقي المحافظات السورية، وقد تحمل الأيام القابلة مزيداً من زهق الأرواح ومزيداً من سفك الدماء، وقد وطّن الشباب السوري نفسه على تحمل هذه الأعباء والمضي في الانتفاضة إلى منتهاها، حتى ينتزع السوريون حريتهم ويغيروا نظام البعث الشمولي الذي جثم على صدرهم نحو نصف قرن، وليفتحوا آفاق جديدة للجماهير السورية بعيداً عن القمع والخوف والفساد والسجون والمعتقلات والملاحقات والسوق إلى المحاكم العسكرية وتلفيق التهم والخضوع للقوانين العنصرية والإقصائية والقتل والنفي والتهجير، ولتعود سورية إلى سابق عهدها واحة للديمقراطية والأمن والطمأنينة والسلام ورغد العيش والتعايش السلمي كما كانت عليه في خمسينات القرن الماضي.

النظام السوري سيتمسك بكل قواه بتلابيب السلطة، فمعدته لا تستطيع هضم حقائق الحياة ومتغيرات العصر، وهو معذور وقد جاء من عمق سنين التخلف البعيدة، ونشهد ذلك من خلال خطواته المترددة وإجراءاته الانفعالية وتصريحات مستشاريه الذين قربهم ليشيروا عليه ويمدونه بماء الحياة لأطول مدة ممكنة، غير متعظين بمن سبقهم، وقد فعلوا نفس الفعل الذي يقوم به سدنة الحكم في سورية اليوم ولم يحقق لهم إلا مزيداً من الاستهجان والإصرار من الجماهير والتعجيل بسقوطهم المزري ورحيلهم المخجل.

رأس النظام السوري المرتجف والمهزوز وغير المتوازن دفع بمستشارته بثينة شعبان تنافح عنه، وتقدم سيلاً من الوعود لا تتعدى حرف (س وكلمة سوف.. سنعمل على تشكيل لجان، وسوف نصدر القوانين والمراسيم)، وكان آخر وعود (س وسوف) أن هناك مرسوماً سيصدر قريباً بإلغاء قانون الطوارئ واستبداله بقانون لمكافحة الإرهاب، وأن على السوريين أن يثقوا بالسيد الرئيس لأنه يحبهم حتى الثمالة وجز الرقاب وبقر البطون وبتر الأطراف، مدعية تارة بأن من افتعل الأحداث الدامية عصابة جاءت من خارج الحدود ملوحة إلى الأردن، ثم تحولت لتتهم الإخوة الفلسطينيين بأنهم كانوا وراء عمليات القتل والإرهاب، ثم راحت لتتهم عناصر مشبوهة تقوم بقتل الناس وتبث الفتنة الطائفية، مستشهدة بما تدعيه زوراً وبهتاناً برواية ممجوجة سخيفة ومضحكة تدعي فيها (بأن أحداث ثمانينات القرن الماضي الدامية كانت نتيجة قيام الإخوان المسلمين في اللاذقية بقتل شيخ علوي وآخر سني لتلتهب الأحداث وتجري الدماء)، ثم ما لبثت أخيراً أن حمّلت الأصوليين والإسلاميين مسؤولية العنف في البلاد، وأيدها في ذلك مفتي السلطان أحمد حسون، مؤكداً أن عمليات التحقيق مع بعض المقبوض عليهم الأجانب ستثبت براءة النظام وطهارة يده من عمليات القتل، وبالفعل أعلن التلفزيون السوري عن أن أجهزة الأمن الساهرة على أمن المواطن وسلامته ألقت القبض على عنصرين يحملان الجنسية الأمريكية اعترف أحدهما أنه كان يصور المظاهرات ويبعث بالصور إلى أمريكا لتشويه الحقائق وليسيء إلى سمعة سورية، فيما أقدمت السلطات السورية على طرد مراسل وكالة رويترز بتهمة أنه كان منحازاً وغير مهني في تغطيته للأحداث.

لقد عملت الفضائيات والقنوات العربية والأجنبية على تغطية الأحداث في سورية في غياب تام من قبل الإعلام السوري الذي كان يصور سورية بأنها واحة للهدوء والسكينة والأمن والسلام، اعتماداً على تصريحات السيد وزير الأعلام السوري الذي كان يقول: (الوضع هادئ تماماً في جميع أنحاء سورية)، وكذلك فعل رئيس الاتحاد العام للكتاب السوريين، في الوقت الذي كانت فيه المناطق السورية تلتهب والمظاهرات تعم كل المدن، والشهداء يسقطون والدماء تسيل، وكلام الوزير المستغفل والمستهين بعقول الناس يذكرنا بما كان يبثه التلفزيون الرسمي التونسي أيام الثورة التونسية، وما يبثه التلفزيون المصري أيام الثورة المصرية، حين كانت التظاهرات بالملايين والشهداء بالعشرات والجرحى بالمئات، برامج قديمة عن الطبيعة الخلابة والأماكن الأثرية ومظاهرات التأييد للنظامين الفاشيين المستبدين، ولم يستفد الإعلام السوري من تلك الحالتين المخزيتين للإعلام الكاذب آنذاك في تونس ومصر، مغمضاً عينه عن شبكة الأقراص اللاقطة التي تغطي أسطح العمارات في سورية من أقصاها إلى أقصاها، حيث يتابع الشعب السوري حقائق ما يجري في بلده عبر القنوات الفضائية العربية والأجنبية دون أي عناء أو صعوبة أو حجب.

ويحضرني في هذا السياق وأنا أتابع عشية يوم الجمعة قناة بي بي سي العربي في قراءتها لأحداث ذلك اليوم الذي تحول فيه الشعار من إسقاط الفساد، وتحقيق الحرية إلى إسقاط النظام. في حوار بين القناة والصحافي السوري فايز سارة الذي تحدث عن ضحايا جمعة العزة، وسأله المذيع: الرئيس السوري أمر بعدم إطلاق النار على المتظاهرين لماذا إذاً سقط قتلى وجرحى؟ أجابه سارة ببساطة: ربما هناك من لا يطيع أوامر الرئيس!

ومساء السبت تباكت المستشارة بثينة شعبان في لقاء لها مع قناة بي بي سي العربية واضعة ما يحدث في سورية على شماعة المؤامرات الخارجية التي تستهدف سورية، كونها بلد الصمود والممانعة وحاضنة المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وبأن سورية مستهدفة بمشروع فتنة. وكان مستهجناً استغراب شعبان لنبأ إطلاق 260 سجيناً سياسياً، وقد قرأت في الرقم تضخيماً قائلة: (لا علم لي بوجود هذا العدد من المعتقلين السياسيين في سورية) وأن حزب البعث يدرس منذ العام 2005 إصدار تشريعات إصلاحية، وكأن الإصلاحات التي تمس حياة المواطن وأمن الوطن تحتاج إلى كل هذه السنين الطويلة من التفكير والدراسة التي لم يتمخض عنها شيء، في مقابل قرار ليّ عنق الدستور السوري وتبديل نصوصه ليتلاءم مع سن بشار الأسد ليرث أباه في احتلال منصب الرئاسة لا يحتاج لأكثر من دقائق معدودة.

ولم يخجل الإعلام السوري من استعراض مظاهرات مسرحية مؤيدة للنظام ترفع صور بشار وتهتف (بالروح بالدم نفديك يا بشار.. الله وبشار وبس) في مواجهة انتفاضة الشعب المليونية، وقد كشف سكان دمشق عن حقيقة هذه المظاهرات الأراجوزية في رسائل الكترونية وصلت إلى صحيفة (القدس العربي) وقد جاء في إحدى هذه الرسائل (أن سكان دمشق وبعض المحافظات السورية يعانون من مجموعة من السيارات التي تجوب الشوارع ليلاً وتطلق أبواق السيارات حتى ساعات الفجر، في محاولة لإشاعة جو مؤيد للنظام، ما يحرم الكثير من الأهالي من النوم بسبب الضجيج المتعمد الذي تتغاضى السلطات عنه باعتباره حرية تعبير) وفي رسالة أخرى يذكر أحد المواطنين يقطن بالقرب من أتوستراد المزة يقول فيها: (يمشون في خمس سيارات ويقفون في أول أتوستراد المزة ويقطعون الطريق، فيتجمع وراءهم كم كبير من سيارات المارة، وتأتي سيارات أخرى لتغلق الطريق عليهم من الخلف، فيزدحم الشارع، ويقومون عندها برفع صور السيد الرئيس والسير ببطء وإطلاق الأبواق، والهتاف للرئيس وتأتي كاميرات التلفزيون السوري وقناة الدنيا لتصورها على أنها مظاهرة تأييد عارمة).

النظام السوري الذي يعتمد على تضليل مستشارة السيد الرئيس وأكاذيب إعلامه الخشبي لابد له وأن يحصد الريح في حربه مع الجماهير، والتي هي حرب غير متكافئة لصالح هذه الجماهير التي تنتفض لانتزاع حريتها والانعتاق من القمقم الذي حبسها النظام فيه لأكثر من أربعة عقود، في مقابل دفاع مهزوز وغير متوازن لنظام يترنح أمام صولة الجماهير وضرباتها التي سجلت حتى الآن تفوقاً بالنقاط ولابد لها من تسديد الضربة القاضية، والتي ستكون قريبة إنشاء ليسقط هذا النظام في وحل صلفه وكبره وجبروته وغبائه.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى