صفحات العالم

مهاوي الحل العسكري في سوريا


عبد الاله بلقزيز

اتسعت رقعة المعارك الدموية في سوريا لتصل إلى أحياء داخل دمشق، بعد أن غمرت فصولها الرهيبة مدناً أخرى مثل حمص وحماة ودرعا والبوكمال وإدلب وسواها . وصول المعارك إلى دمشق منعطف كبير وخطر في الحرب، ونتائجه النفسية قد تكون أبعد أثراً من نتائجه العسكرية، ولعل ذلك ما دفع إلى نقل المعركة إلى داخل العاصمة، حتى من دون إحراز سيطرة- بالمعنى العسكري- على ريفها، وقد يكلّف تحصين دمشق، من مثل هذه الاختراقات، الكثير من الدماء والدمار، كما كلفت إعادة السيطرة على مدن أخرى قبلها موتاً، وتهجيراً، وخراباً .

هي حربٌ حقيقية، ولم يعد ينفع أن توصف بأنها مواجهة بين الجيش النظامي ومجموعات مسلحة متفرقة، هي حرب بين جيشين وإن لم يكن التكافؤ بينهما في التسلح والقوة النارية حاصلاً . ومعنى ذلك أن للمعارضة المسلحة مركز قيادة وإدارة للعمليات وخططاً عسكرية وسلاحاً وذخيرة يكفيان لخوض مواجهات طويلة الأمد، على مثال مواجهات حي بابا عمرو في حمص، ومواجهات الرستن وإدلب . ومعناه أن لهذا الجيش كفايته من المقاتلين والمدربين، وقدرته على تنفيذ عمليات عسكرية صعبة، وإمكانات لوجستية يوفرها له فقدان الجيش النظامي السيطرة على مناطق عدّة من البلاد .

لم يعد سهلاً على النظام السوري، إذاً، استئصال معارضة مسلحة زادت عدداً وعدة، وتوسع نطاق انتشارها وعملياتها فتشمل المركز وكبرى المدن، ولا يمكن للاندفاع وراء فكرة الحسم الأمني أن تكون نزهة عسكرية لجيش أرهقه نزف المواجهة منذ عام تقريباً، فضلاً عن أن ثمن الحسم- إن أمكن أمرُهُ- فادح جداً، مثلما يتبين في حمص مثلاً، وقد يصبح صعباً بعد الهزّة النفسية التي أصابت الجيش والأمن، غداة تفجير مبنى الأمن القومي ومقتل عدد من قادته . ومع أن امتناع أية تسوية سياسية للأزمة في سوريا يشجع فريقيْ الصراع على المزيد من الانغماس في الخيار العسكري، إلا أن الذي لم يعد يمكن إنكاره، أنّ مثل ذلك الانغماس سيرفع التكلفة البشرية والسياسية عالياً، وسيدفعها المدنيون قبل غيرهم .

لماذا وصلت الأمور في سوريا إلى هذا الحدّ المخيف من القتل والجنون؟ لا يكفي أن يجاب عن السؤال بأن ثمة من يريد بسوريا الشرّ، وأن المؤامرة عليها من الخارج كبيرة، وهي تدفع الآن ضريبة الدفاع عن الوطن وإسقاط المؤامرة . ليست الرواية هذه مكذوبة تماماً، لكنها لا تقول كل الحقيقة، ولا تقول- مثلاً- إن الأحداث فيها بدأت قبل ستة عشر شهراً، بمطالب مدنية إصلاحية متواضعة في سياق موجةٍ مطلبية عربية عارمة بالإصلاح والديمقراطية . وليس هؤلاء شركاء في المؤامرة لمجرد أنهم خرجوا إلى الشوارع متظاهرين بعد أن انسدّت في وجوههم الآفاق، وهي لا تقول- مثلاً- إن السلطة في سوريا مكّنت أعداءها في الخارج من أن يَنْفُذوا إلى داخلها بعد أن أخفقت في امتحان التقاط دروس اللحظة السياسية واستيعاب الأزمة . ثم إنها لا تقول- ثالثاً- إن طريقة هذه السلطة في إدارة الأزمة هي ما هيأ الأسباب لتدويلها هذا النحوَ من التدويل الذي نراه اليوم .

تدفع سوريا اليوم، ثمن التلكؤ في الجواب السياسي عن أزمتها الداخلية في الوقت المناسب، أي في الوقت الذي كان يسعها أن تستوعب – بيسر شديد – تناقضاتها الداخلية ومطالب جمهور عريض لم يعد يتحمل ذلك القدر الهائل من الانغلاق في النظام السياسي، ومن التهميش والاستبعاد . “الوقت المناسب” هو المفتاح الذهبي في السياسة والعمل السياسي، وهو- من أسف شديد- ما لم تعمل القيادة السورية بمقتضى قاعدته في أطوار الأزمة كافة، خاصة أطوارها الأولى في ربيع وصيف العام ،2011 قبل أن تستفحل وتتعصّى على الاستيعاب، فلقد كانت المطالب من التواضع بحيث لا تتجاوز نطاق تحسين شروط المشاركة السياسية وأوضاع حقوق الإنسان، مثل إلغاء المادة الثامنة من الدستور، وإقرار حرية الصحافة والرأي، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وإلغاء قانون الطوارئ . ولقد اضطرت الأحداثُ النظامَ السوري إلى النزول عند مطالب الانتفاضة وإقرار كثير من مطالبها كتلك التي أشرنا إليها، لكن ذلك حصل خارج “الوقت المناسب” على نحو متدرّج وبالتقسيط، وليس كحزمة واحدة على النحو الذي يوحي بأن النظام قدّم جواباً سياسياً متكاملاً عن الأزمة، ثم على نحو من البطء والتسويف والتأخير، كانت معه المطالب قد انتقلت من ضفتها الإصلاحية إلى ضفاف أخرى أبعد مدىً . وهكذا أتت التنازلات متأخرة عن موعدها كثيراً، في الوقت الذي دخل شعار “إسقاط النظام”، ودخل معه السلاح على خط الأزمة والأحداث .

سوريا اليوم تدفع ثمن إصغاء السياسة فيها إلى دعاة الحل الأمني، ولقد كنّا نبّهنا قبل عام ويزيد، إلى مخاطر الانجرار إلى هذا الخيار لكلفته الباهظة على البلد وأهله والوحدة الوطنية فيه، ونبّهنا إلى حاجة سوريا إلى مقاربة سياسية عميقة وشجاعة لأزمتها تبدأ من حوار وطني صادق وجوهري مع المعارضة الوطنية في الداخل، حتى لا تضطرها تبعاتُ الخيار الأمني إلى الغرق في مستنقع الاستنزاف، وتضطرها التطورات إلى التفاوض بشروط الآخرين: الأعداء والأصدقاء، وماذا يحدث اليوم، غير ما حذرْنا منه أمس؟ ماذا يحدث غير ما كانت سوريا في غنىً عنه لمواجهة امتحان داخلي بدأ هيّناً ولا يحتاج إلى كل ذلك الرد غير المناسب؟

على سوريا، اليوم ألا تعتقد أن إفلاتها من أحكام الفصل السابع، بعد الفيتو الروسي والصيني، يكفيها كي تتحرر من ضغط العالم الخارجي للتفرغ لإخماد المعارضة المسلحة في الداخل، فالإخماد هذا لن يجرّ عليها سوى المزيد من الضغط الدولي والنزف الداخلي . إنها تحتاج الآن إلى أن تتكلم سياسياً، إلى أن تطلق مبادرة سياسية للحوار الوطني والمصالحة الوطنية، إذا كانت ترغب في أن تمكّن الروس والصينيين من مبرر سياسي لاستمرار الوقوف معها دولياً، وأن تأخذ أزمتها نحو وجهة أخرى أقل كلفة من وجهة الحل الأمني .

الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى