بدرالدين حسن قربيصفحات سورية

النظام السوري وخطاب الرحيل

 


بدر الدين حسن قربي

-1-

يسجل للرئيس السوري بشار الأسد غيبة صغرى كانت عقب خطابه الأول أمام مجلس الشعب بعد اندلاع الثورة الشعبية، كما تسجل له غيبة ثانية أكبر من بعد خطابه الثاني أمام مجلس الوزراء. وهي غيبة امتدت لأكثر من شهرين، ولكنها كما في الأولى كثرت فيها الروايات والتنبؤات وتعددت الاتهامات والشائعات إلى الحد التي جعلت بشار الأسد يشير إليها في خطابه الثالث على مدرج جامعة دمشق قبيل أيام، ليصرف الناس عن أهميتها وخطورتها بقوله: تأخري في الحديث حتى اليوم فسح المجال للكثير من الشائعات في البلد، أنا سمعتها وأنتم سمعتموها، ولكنها ليست مهمة.

وإذا كان قد سُجّل على الرئيس التونسي السابق أنه رحل، وعلى المصري أنه قد تنحّى من بعد الخطاب الثالث لكل منهما، فإنه يمكن اعتبار خطاب بشار الأسد الأخير من هذه الزاوية خطاباً تاريخياً عن حق وحقيقة، لأنه بمثابة خطاب الرحيل لشعب قال كلمته فيه بإسقاط النظام، ليدخل بعدها عاجلاً غير آجل في غيبة بلا رجعة يرتاح السوريون من بعدها إلى الأبد ومعهم غيرهم من الخيّرين مَن كان منهم فوق الأرض، وترتاح عظام من كان منهم تحت الأرض، وأمنيتهم لسورية الحرة الأمن والأمان، وللسوريين الأحرار المحبة والسلام، ودعاؤهم بالرحمة والرضوان لكل الشهداء الكرام، ولأرواحهم جميعاً ألف سلام وسلام.

الخطاب الثالث الأخير رغم تاريخيته، لكنه كان عقيماً كالخطابين الأول والثاني، أهدر ملايين الساعات من وقت الناس بلا جديد، ظهر فيه طبيب العيون مصرّاً على ألا يرى حقيقة ما يجري حوله من مستجدات أكّدت خروج المارد السوري من قمقمه متحدياً قامعيه ومستعبديه وسارقيه، وقراره القطعي رحيل النظام، كما أكّد الخطاب ما هو مؤكَّد من أن النظام عصي على الصلاح والإصلاح فضلاً عن اتصافه بالصلف والغطرسة واستغباء الناس، فبدا كاتب خطاب الوداع كأنه أحد الإعلاميين الذين يظهرون على الفضائيات السورية، لأنه جاء على نفس المنهج والطريقة التي يتكلمون بها على الفضائيات إلى الحد التي جعلت خطابات القذافي بالمقارنة معها ورغم بلاهتها تبدو خفيفة الدم وفيها بعض المتعة.  أما عن الخطيب، فيبدو أنه قد بذلت له محاولات جمّة، وأعدّت الترتيبات الكثيرة ليظهر متماسكاً وقوياً على الشاشات وأمام الحضور، ممن يعرفون أكثر من غيرهم بكثير واقع الأمر وحقيقة ما تعرض له مقامه في الشارع من المتظاهرين والمحتجين من تكسير للتماثيل وتمزيق للصور، وكلام هشّم هيبته، ونادى بسقوطه ورحيله، مما وصلت أخباره وصوره أنحاء الأرض الأربعة، وما غيابه لأكثر من شهرين ودخوله المسرحي إلى مدرج الجامعة، وخروجه السريع منه، وخوف أن يحصل معه ما كان أثناء خروجه من مجلس الشعب بعد خطابه الأول، ونشفان الريق المتكرر وحركاته المختلفة والخوف الممتد في العينين أثناء خطبة الوداع إلا تأكيد على تأثره وتعبه وتوتره ووقوفه في طريق مسدودة لا خيار فيها إلا الرحيل، وقد أحاطت به خطيئته بما ارتكب من فواحش القتل وفظائع سفك الدماء مما يمكن اعتباره بامتياز جرائم ضد الإنسانية، وذلك رغم كثرة ما قيل في الخطاب عن الآليات المزعومة واللجان التي تشكل بعضها وبعضها الآخر في طريقه للتشكيل أو في طريقها للبحث والعمل، مما فات وقته، وانقضى زمنه.

الخطاب الثالث أو الأخير للنظام السوري، كان أشبه ما يكون بطبخة بحص لا دسم فيها ولا فائدة، ولكنه الأمل أن يكون هو الظهور الأخير لبشار الأسد وأن لا خطاب بعده، ويؤمئذ يفرح السوريون ومعهم كل أحرار العالم بإنجاز الاستقلال الثاني لسورية أرض البطولات بعد أن قضي على المجرمين والقتلة وسفّاكي الدماء بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين.

-2-

أشار بشار الأسد في خطابه الثالث قبيل أيام إلى أن تأخره في الكلام إلى السوريين كان سببه اللقاءات المستمرة مع مجموعات شعبية من المواطنين من أماكن مختلفة حتى إذا تكلم كان حديثه إلى الناس عما سمعه ولمسه منهم بشكل مباشر. وعليه، فمن المناسب أن نعرض بإيجاز لقاءه مع وفد أهالي جوبر أحد أكبر ضواحي العاصمة دمشق قبيل عشرة أيام تقريباً كنموذج مناسب من هذه اللقاءات وإحدى خلفيات خطابه مما نشرته وقتها المواقع الالكترونية السورية. لقد طرح الوفد الجوبراني نقاطاً مهمة ومثيرة بل وجريئة جداً على الرئيس السوري، نشير إلى أهمها:  تحدّث الوفد عن الممارسات الأمنية الوحشية، وما واجهه بعض الموجودين في الوفد من التعذيب خلال توقيفهم بسبب المظاهرات، وأظهر الحضور رغبتهم جميعاً بسماع رأي الرئيس في هذه الممارسات، ومعرفة ما إذا كان لديه خطة لكبحها، ولاسيما أن حاجة الناس للحرية والكرامة التي ينادون بها هي أكثر من حاجتهم إلى الخبز حسب قولهم.

انتقد الوفد الخطوات الإصلاحية للنظام، وأوضح عدم ثقة الشعب بها وبيان عدم جديتها.

كما انتقد الوفد الإعلام السوري بالكامل، وتحدث عن كذبه وتضليله وإثارته للفتنة، ومثّلوا لذلك بفيديو البيضا وتدعيس الأمن على رؤوس السوريين، وما كان بعده من إنكار وفبركة، ثم اعتراف.

ثم تحدثوا عما حصل في درعا، وممارسات عاطف نجيب فيها، ومجزرة حماة في الأسبوع الثاني من حزيران الجاري.

ثم كان حديثهم عن الفشل الاقتصادي في العشر سنوات الماضية من حكم الرئيس الابن.

أما عن أجوبة الرئيس على بعض النقاط المثارة والأسئلة من قبل الوفد فهذا بعض أهمها أيضاً:

ابتداءً، إذا تبين لي أن الشعب لا يريدني فسأستقيل وسأعود للعيش في المنزل الذي نشأت فيه. لدي عائله وأبناء وأصدقاء من أيام الدراسة وهذا يكفيني.

إن إطلاق النار على المتظاهرين خطأ غير مسموح ومن لديه اسم عنصر أمن أطلق النار فليزودنا به وسنقوم بمحاكمته.

أما عمّا يجري من تعذيب للموقوفين فغير مقبول، وهو بسبب العقلية الأمنية القديمة لدى عناصر الأمن. سيتم سحب الأمن من بين الناس بشكل نهائي.

ثم إن التلفزيون السوري لا يعمل بشكل جيد. هناك مناطق نفى التلفزيون وجود مظاهرات فيها، وتبين لنا عكس ذلك.

أما عن القوانين الإصلاحية التي نعرضها فهي تحمل أخطاء كثيرة بسبب الاستعجال في صياغتها، لأنه لا أحد يريد أن يعطينا فرصة، فهم يريدون كل شيء خلال خمسة عشر يوماً. أما عن العميد عاطف نجيب فهو ابن خالتي، وهو ليس في السجن ولا يشغل أي منصب بعد إقالته، وإنما لا يوجد حتى الآن أي ادعاء شخصي عليه، وهذا أمر ضروري لمحاكمته. وما حصل في حماة لن أسكت عنه وسأحاسب الصغير والكبير عما فعلوه. أنا لا أعتب على من يتظاهر بل أعتب على من يصور ويرسل المقاطع.  أما عن تحسين الوضع الاقتصادي، فكل الخطوات التي قمنا بها لتحسينه في السنوات الأخيرة كانت فاشلة.

إذا علمنا أنه في نهاية لقاء استمر ثلاث ساعات، استمع فيها الوفد الجوبراني أجوبةً لكل ما سأل عنه، حتى كاد أن ينسى سجناءه ومعتقليه في قيعان سجون الرئيس وزنازين مخابراته وقواه الأمنية لما رأى من صراحة الإجابات وبساطة الكلمات ولكنهم وهم يودّعون الرئيس ويودّعهم تذكّروا فطلبوا منه الإفراج عمّن تبقّى من معتقليهم.

لا شك أن ما قاله وفد أهل جوبر كان صريحاً وجريئاً، وأن ما قاله بشار الأسد لهم فيه الكثير من الملاحظات والتعقيبات التي يمكن الكتابة فيها، ولكننا نتركها للقارئ يلتقطها بمثابة اعترافات مما لا فائدة منه والرئيس يودّع، والنظام في طريقه إلى الرحيل.

-3-

في خطاب الرحيل بتاريخ 20 حزيران/يونيو 2011 على مدرج جامعة دمشق، أشار بشار الأسد إلى أنه في لقاءاته المتأخرة مع مجموعات شعبية معدّ لها من قبل الجهات الرسمية، استمع مباشرةً إلى قضايا كثيرة ومشاكل متراكمة، ذكر منها على سبيل المثال ما تدفعه الأجيال الجديدة من أثمان مرحلة من الصدام كانت بين السلطة والإخوان المسلمين منذ أكثر من ثلاثين عاماً في عدم التوظيف وعدم إعطاء موافقات أمنية لقضايا مختلفة، بما فيها عدم منحهم حتى جوازات سفر بمن فيهم المقيمين في الخارج. ويعترف بأنه حمّل نفساً وزر أخرى، وأنها قضايا تتعلق بالعدالة والظلم الذي يحس به كل مواطن وأشار إلى أنه منذ سنتين تقريباً أعطى توجيهات لكل السفراء بالخارج أن يبدؤوا بإعطاء جوازات سفر لهم. وهي إشارة لافتة تستوجب بعض التوقف والتوضيح.

ابتداءً، لسنا في موطن التقييم والإدانة لأي طرف فيما كان من الصدام في حينه فهذا ليس وقته، ولكن مما لاشك فيه أنه نتج عن هذه الكارثة عشرات الآلاف من المفقودين في ذمة النظام السوري على امتداد أكثر من أربعين عاماً ممن قضوا قتلاً وتعذيباً وذبحاً وحرقاً وسحلاً ومجازر فرادى وجماعات ممن لا يُعرَف لهم مقر ولا قرار، ومازالوا في مستندات الدولة ووثائقها أحياء، ومثلهم من المنفيين والمهجرين قسراً وطوعاً وأمثال أمثالهم من الأجيال الجديدة ممن أشير إليها في الخطاب، وهي أعداد لو ضُمت إلى بعضها فإنها تقترب من المليون مواطن عندهم من الآلام والأوجاع والقهر الكثير الكثير.

كنا دائماً نكتب وما أكثر من كتب من الخيّرين، ونناشد مع كل صاحب ضمير لفك حصار الإخفاء والتعتيم وتكسير جدر الصمت عن هذه الآلاف ممن هم في بلدهم مفقودون. وكنا نقول وما أكثر ما قيل بأن استحقاقات مثل هذا الأمر قادمة لا محالة، طال الزمان أو قصر. وكان النظام في مقاومته وممانعته يذهب أبعد وأبعد عناداً وضلالاً، فيمعن في ملاحقة الأحياء من أسرهم وأقاربهم وأولادهم وأحفادهم في أنحاء الأرض الأربعة، ويصرّ على تجريدهم من حقوقهم المدنية والإنسانية ومنع حتى المستندات عنهم بما فيها الجوازات وهو مما أشير إليها في الخطاب.

هل يمكن لأحد تصور معاناة عشرات الآلاف من المهجرين والمنفيين في كل دول العالم في مسألة منع الجوازات عنهم على وجه التحديد قرابة ربع قرن مما أشير له بالذات في الخطاب الأخير لبشار الأسد، بأنه منذ حوالي سنتين أعطى أوامره بإيقاف المنع وتسهيل منحها.  وهل يمكن لأحد تصور حجم الفساد والرشاوي والنهب والابتزاز في عموم السفارات السورية الذي كان في مقابل ذلك؟

إن عيون مئات الآلاف من الضحايا كانت ترنو معاً من عالم الغيب والشهادة، وتستصرخ دائماً الضمائر والمروءات في الدعوة إلى فك الحصار عنهم والكشف عنهم أحياء وأمواتاً، وعن أماكن دفنهم فرادى أو جماعات ورفع الظلم والمعاناة عن الأحياء منهم، ولكنها كانت على الدوام تواجَه بمقاومة النظام وممانعته وقهره وبطشه، لتوضع في خيار وحيد ويتيم، هو انتظار سقوط السجّان ولتسأل دائماً: لماذا كل هذا الصلف والعجرفة والغطرسة، إذا كان المصير هو السقوط.

إن عيون مئات الآلاف من الضحايا ومعها عيون الملايين من السوريين الصابرين والمصابرين، هي اليوم في خير حال من أحوالها وهي ترى نهضة شعب من رقدة العدم عرف طريقه، بعد إذ صبر على قامعه وسجّانه طويلاً طويلاً، وكانت قيامته ليأخذه أخذاً وبيلاً، بصرخته المدوية في أنحاء الأرض: هيهات منّا الذلة، الشعب السوري ما بينذل، الموت ولا المذلّة. وقراره القاطع: الشعب يريد إسقاط النظام.

تبقى كلمة حق لابد منها، بأن ما أشار إليه بشار الأسد من المظلومية الكبيرة وللمرة الأولى في تاريخ النظام السوري من الأب والابن للأجيال الجديدة تحتسب له ولكنها جاءت متأخرة جداً جداً، بل وهو يودّع السوريين في خطاب الرحيل.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى