صفحات العالم

النظام السوري و”عسكرة” الانتفاضة الشعبية

 


ياسر الزعاترة

لم يكن بوسعنا أن نتورط في مستنقع الازدواجية في المحطة السورية، ولن نقول مثلما قال الأمين العام حسن نصر الله في معرض تعليقه على الحراك الشعبي البحريني إن الموقف في حالة دول المقاومة والممانعة قد يختلف عما عداه (لم يتحدث للأمانة عن تجاهل المطالب الشعبية، بل عن البحث عن مقاربة سياسية معقولة، مع أن تعاطي الحزب مع الأحداث لا يعبر عن هذا التوجه).

وعموما لم نقتنع يوما بأن بالمقاومة والممانعة تقف حائلا دون منح الناس حريتهم، ومن يعتقد أنه يلبي بالفعل أشواق الناس في العزة والكرامة ومواجهة الأعداء لن يخشى الاحتكام إلى صناديق الاقتراع إلا إذا كان دكتاتورا في الداخل، بل إن مسار المقاومة والممانعة يغدو أكثر قوة حين يكون المقاومون والممانعون أحرارا وليسوا عبيدا لفرد أو نخبة معينة.

كنا ندافع عن النظام السوري تبعا لمواقفه المتميزة في دعم المقاومة في فلسطين ولبنان، وموقفه من العراق ودعمه للمقاومة وصولا إلى إفشال المشروع الأميركي الذي كان يخطط لإعادة تشكيل المنطقة.

ولعلنا نشير هنا إلى ما كنّا نلاقيه من صعوبة في إقناع السوريين بحقيقة مواقف نظامهم المشار إليها، الأمر الذي يبدو مفهوما إلى حد ما، لأن من الصعب على المظلوم أن يرى خيرا في من يدوس على حريته وكرامته.

من هذا المنطلق تحدثنا في البداية عن الإصلاح، وليس عن التغيير الجذري، وهو ما تردد أيضا في الساحة الشعبية السورية، لكن الرئيس لم يقابل مطالب الإصلاح السورية الشعبية إلا بالسخرية كما في خطابه أمام مجلس الشعب، مع أن السخرية لم تعهد عنه، ولا نتجاوز الحق إذا قلنا إن خطابات المديح لسيادته التي سمعناها تتردد في المجلس قد أشعرتنا بالخجل كعرب ومسلمين.

دعك من الأسباب التي قادت إلى انفجار مدينة درعا، وهي أسباب لا داعي للتفصيل فيها، لكنها تعبر عن العقلية الأمنية التي تحكم البلد، بدءًا باعتقال طبيبتين والإمعان في إهانتهما، لمجرد قول إحداهما لصديقتها “عقبال عنا” في التعبير عن فرحتها بما جرى في مصر، وليس انتهاء بموقف المحافظ من توسط وجهاء المدينة من أجل الإفراج عن الأطفال الذين اعتقلوا بسبب كتابتهم على الحيطان ضد النظام احتجاجا على ما وقع للطبيبتين، وهو موقف طاعن في الازدراء كما روى القوم.

عندما خرج الناس يطالبون بالإصلاح والحرية، ردّ عليهم الرئيس بالخطاب الساخر إياه، ثم رد تاليا بالرصاص الحي، وعندما انتفضت المدن الأخرى وتواصلت عمليات القتل خرج بإصلاحات شكلية مثل إلغاء قانون الطوارئ ومحكمة أمن الدولة، وذلك بدل الحديث عن إصلاحات دستورية ذات معنى.

ومع تواصل مسلسل القتل، ومعه التشويه الإعلامي للانتفاضة الشعبية والحديث عن مندسين وإرهابيين، تطورت المطالب الشعبية من إصلاح النظام إلى إسقاط النظام، الأمر الذي كان طبيعيا من دون شك، ولو اختلفت الاستجابة وتقدم النظام بإصلاحات حقيقية لاختلف الموقف برمته.

بعد اتساع نطاق الاحتجاجات وتوحد مطالب الناس في شعار إسقاط النظام، تفتق ذهن النظام عن خطة لعسكرة الانتفاضة، وذلك بأن يجري تحويلها من انتفاضة سلمية إلى تمرد مسلح، وبالطبع من خلال فبركات أمنية من جهة، ومن خلال مجموعات سلفية جهادية مخترقة من جهة أخرى، ونعلم أن للنظام خبرته الطويلة في التعامل مع هذه المجموعات اكتسبها خلال عمله معها في السياق العراقي، مع أنه ما لبث أن انقلب عليها بعد الضغوط الأميركية ووضوح فشل مشروع الاحتلال لحساب الحضور الإيراني، مع إعلان النوايا الأميركية بالانسحاب.

ونعيد التأكيد على أننا نتحدث عن اختراق، إذ لا يعتقد أن التيار المذكور يمكن أن يفكر بمثل هذا المسار، وقد ذهب أحد أهم منظري هذا التيار (أبو محمد المقدسي) إلى الاحتفال بالثورة الشعبية للسوريين.

الطرف الآخر المتهم بحمل السلاح من قبل النظام هو الإخوان، وهنا لا تنطلي اللعبة على أحد أيضا، ليس فقط لأن الإخوان هم الأكثر حرصا على سلمية الثورة بعدما رأوا ثمارها في تونس ومصر (دعك من مرارة تجربتهم الماضية)، بل لأنهم لا يملكون القدرة أيضا، من دون أن يقلل ذلك من دورهم وحضورهم كجزء من الشعب السوري، هم الذي دفعوا أثمانا باهظة في مواجهته طوال العقود الثلاثة الماضية.

يخطئ الرئيس السوري إن اعتقد أن هذه اللعبة (لعبة عسكرة الانتفاضة) ستكون مجدية في مواجهة الانتفاضة الشعبية، في استعادة للمواجهة التي خاضها نظام والده مع الإخوان المسلمين مطلع الثمانينيات، والتي انتهت بمجزرة حماة الشهيرة التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من الناس الأبرياء.

يخطئ في هذا التقدير لجملة من الأسباب، أولها أن ما جرى في مواجهة نظام الأب كان تمردا مسلحا بالفعل، وكان يتلقى دعما ما من بعض الدول العربية، بل كان يُسمح له بجمع التبرعات حتى في أميركا والدول الغربية، وإن تم ذلك لأغراض ابتزاز النظام وإضعافه وليس إسقاطه واستبداله بإسلاميين راديكاليين، أما اليوم فهناك إصرار على نبذ العنف، حيث يهتف الناس في الشوارع “سلمية سلمية”، أما قصص السلاح فلا يبدو أنها تمر على الناس، بما في ذلك تمثيليات الجنائز التي تبث كل يوم على تلفزيون السوري (يذهب سوريون إلى أن بعضها لعناصر من الجيش والأمن رفضت إطلاق النار على المتظاهرين).

هناك ثانيا ما يتعلق بالوضع الدولي، ففي الحالة السابقة كانت هناك الثنائية القطبية، أما اليوم فالمشهد مختلف كما يعرف الجميع، ولن يكون بوسع روسيا أو الصين الدفاع عن قتل الناس الأبرياء في الشوارع، بدليل موقفهما في السياق الليبي حيال قرار مجلس الأمن رقم 1973.

هناك ثالثا ما يتعلق بالوضع الإعلامي، وهذه نقطة بالغة الأهمية، إذ إن ثورة المعلومات والاتصالات لم تعد تسمح لأحد بقتل الناس في السر، وزمن الهواتف المحمولة ذات الكاميرات وزمن اليوتيوب يفضح كل شيء، وبالتالي يستثير الرأي العام دولا وجماهير.

الأهم من ذلك كله هو ما يتعلق بالموقف الشعبي، ففي مطلع الثمانينيات لم يكن ثمة إجماع على الثورة على النظام، أما اليوم فالإجماع شبه متحقق إلى حد كبير، وحتى الحديث عن انحياز الطائفة العلوية للنظام لا يبدو محقا، لأن جزءا كبيرا منها ليس مع النظام، مع أن جرّ الكثير من أبنائها في معركة الدفاع عن النظام لا يبدو مستبعدا، وقد رأينا كيف تم تسليح الأقلية العلوية في مدينة بانياس التي كانت الأكثر تعرضا للقمع بعد درعا، ولا قيمة للقول إن أعداد المتظاهرين ليست كبيرة مثل مصر واليمن، لأن الخوف من دولة أمنية قمعية هو السبب، وينطبق ذلك على تردد بعض المناطق عن المشاركة، الأمر الذي لن يلبث أن ينتهي لينخرط الجميع في الثورة.

في هذه الأثناء برزت مفاجأة في منتهى الإثارة تمثلت في التصريحات التي أدلى بها رامي مخلوف، المليادرير (ابن خال الرئيس)، لصحيفة نيويورك تايمز، والتي قال فيها “إذا لم يكن هناك استقرار داخلي هنا (في سوريا)، فمن المستحيل أن يكون هناك استقرار في إسرائيل”، ما يذكرنا بتصريحات مشابهة للقذافي.

كل ذلك يؤكد أن النظام لم يكن مخلصا في مقاومته وممانعته بقدر ما كان يعبر عن مصالح نخبته الحاكمة التي رأت أن كلفة المقاومة والممانعة أقل من كلفة الاستسلام كما كان يردد الرئيس السوري نفسه، الأمر الذي كنا ندركه بالطبع، من دون أن يدفعنا إلى التردد في مديح تلك المواقف قياسا بمواقف أنظمة أخرى كانت تذهب في الاتجاه الآخر، ومن أجل مصالح نخبها الحاكمة أيضا.

اليوم تبدو تصريحات رامي مخلوف محرجة إلى حد كبير للتيارات التي تدافع عن النظام وتقف معه في معركته مع شعبه، وفي مقدمتها حزب الله ومن يدور في فلكه، فضلا عن جحافل من القوميين واليساريين الذين لا يستحون من دفاعهم عن قتل النظام لأبناء شعبه، فضلا عن ترديد حكاية المؤامرة الخارجية، لكأن النظام هو وحده عنوان الوطنية والقومية، بينما السوريون مجرد جحافل من العملاء والمأجورين.

إنه منطق النخب الحاكمة التي تعلن استعدادها لحرق الأخضر واليابس من أجل مصلحتها بعد أن جمعت الثروة مع السلطة، وفي هذا الصدد يقول مخلوف في ذات المقابلة إن النخبة الحاكمة في سوريا قد تكاتفت أكثر بعد الأزمة (لا يريد الاعتراف بأنها ثورة مع أن كلامه يعكس ذلك)، مضيفا القول “نؤمن بأنه لا استمرارية من دون وحدة، وكل شخص منا يعرف أننا لا يمكن أن نستمر من دون أن نكون موحدين. لن نخرج ولن نترك مركبنا ونقامر. سنجلس هنا، نعتبرها معركة حتى النهاية”. وفي النهاية يعود إلى الدولة العبرية ليقول للغرب “يجب أن يعلموا أننا حين نعاني، فلن نعاني وحدنا”.

في ضوء هذه المعادلة، يمكن القول إن النظام قد قرر الذهاب بعيدا في منظومة القمع، كما يؤكد من جهة أخرى أن الانتفاضة الشعبية في سوريا قد تجاوزت فكرة الإصلاح، الأمر الذي يدركه النظام الذي أخذ يهرب إلى الأمام بتعزيز منظومة القمع والقتل، بدليل الدبابات التي أدخلها إلى مدينة درعا وبانياس وحمص ومدن أخرى، ويتوقع أن يدخلها إلى سائر المدن المنتفضة بالتدريج.

في هذا السياق جاء تحذير رئيس الوزراء التركي (أردوغان) من مغبة تكرار “حماة” أخرى، مع أن الأمر لن يكون بهذه السهولة، لكن أنقرة التي خاب أملها بسلوك النظام لم تجد غير هذا الكلام المتشدد لكي تعبر من خلاله عن مخاوفها مما يجري، وهي التي اتهمت طوال أسابيع بمحاباة النظام تبعا للعلاقة المتميزة معه، ويبدو أنها أدركت أن الشعب هو الأبقى، وأن النظام في طريقه إلى الزوال ولا يواجه أزمة محدودة النطاق وحسب.

من الصعب الحديث عن مآلات الانتفاضة الشعبية السورية بعد دخول العامل الدولي على الخط، ولا شك أن التدخل الغربي لا يمكن استبعاده، لكن الشعب السوري لن يقبل على الأرجح تكرار السيناريو الليبي، حتى لو سكت على عقوبات تطال رموز النظام.

لكن تعويل النظام على تحويل الانتفاضة الشعبية إلى تمرد مسلح، ومن ثم إصراره على هذا المسار على نحو غير مقنع للداخل والخارج، مع تصعيد آلة القمع قد يسهل لعبة التدخل، لا سيما أن أطرافا في المعارضة السورية في الخارج قد لا تجد في الأمر غضاضة بسبب قناعاتها الخاصة، ومواقفها من النظام.

هل فات أوان الإصلاح؟ من الصعب حسم جواب السؤال، وسيعتمد الموقف على ماهية الإصلاح المطروح وتطور الموقف الشعبي، إذ إن إعلان النظام عن خطوات إصلاحية حقيقية تفكك النظام الأمني، وتشمل تعديلات دستورية تطال المادة الثامنة من الدستور، وصولا إلى دستور جديد يؤسس لديمقراطية حقيقية وليس ديكورية على النمط السائد في مصر وتونس واليمن قبل الثورات، هذا الأمر قد يفضي إلى توقف الثورة في انتظار انجلاء الموقف.

لكن هامشية هذا الاحتمال، بل استحالته في واقع الحال، معطوفا على الإسراف في سفك الدماء كما وقع إلى الآن ويتوقع أن يتواصل خلال الأيام والأسابيع المقبلة، سيجعل هدف إسقاط النظام هو الوحيد المتاح.

ويبدو أن لدى الشعب ما يكفي من الجاهزية والإصرار على هذه المعركة، وهو مستعد لدفع أثمانها الباهظة. ويبقى موقف الجيش الذي نتوقع منه أن لا يقل انحيازا للشعب من موقف الجيش التونسي والجيش المصري.

 

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى