صفحات العالم

النظام ومعركة المصداقية في سورية؟


د. بشير موسى نافع

افتتح السيد فاروق الشرع، نائب الرئيس السوري، يوم الأحد 10 تموز/يوليو، جلسات اللقاء التشاوري للحوار الوطني. التحق بالجلسة الأولى زهاء 180 من السوريين، ولكن قلة بينهم تحسب على المعارضة الصريحة للنظام، سواء التجمعات الشبابية والتيارات الجديدة على الساحة السياسية، التي تلعب الدور الرئيسي في الحراك الجماهيري، أو القوى التقليدية للمعارضة. يوم الجمعة السابقة للقاء التشاوري، كانت سورية تشتعل بمظاهرات حاشدة تحت شعار ‘لا للحوار’ وقد اختتم فعاليات الجمعة بـ 16 شهيداً وعشرات الجرحى.

في يوم اللقاء نفسه، كانت وحدات عسكرية وأمنية تقتحم أحياء في مدينة حمص والرستن، وتحاصر حماة، ووحدات أخرى تهاجم تجمعات المتظاهرين المسائية في مدن وبلدات سورية متعددة، بما في ذلك أحياء دمشق. الواضح، بعد مرور أربعة أشهر على اندلاع الثورة الشعبية، أن سورية تقف الآن أمام مفترق طرق. فأي وجه للنظام سيراه الشعب أكثر حقيقية ومصداقية، وجه المحاور من أجل بناء سورية جديدة، أو الوجه القمعي المستهدف إخماد حركة الشعب بأي ثمن كان.

في كلمته أمام اللقاء التشاوري، أكد فاروق الشرع على أن هدف مشروع الحوار الوطني بناء سورية تعددية وديمقراطية. لم يتحدث الشرع بأي تفصيل ممكن عن ملامح النظام الجديد، ولكن مجرد الإشارة من نائب الرئيس إلى التعددية السياسية والديمقراطية كان تطوراً جديداً في لغة القادة السوريين. من جهة أخرى، لم يكن بين الجالسين في قاعة اللقاء من لفت الانتباه بشكل خاص. لم يكن هناك أي من الشخصيات المعارضة المستقلة في الخارج، وبخلاف واحد أو اثنين، لم يكن هناك أحد من شخصيات الداخل المستقلة، أو من الهيئة التنسيقية لأحزاب المعارضة الليبرالية والقومية التي شكلت مؤخراً. لم يكن بين الجالسين أي من المجموعة الداعية لمؤتمر الانقاذ الوطني، ولا من اللجان التنسيقية للشباب الذين ينظمون الحراك الشعبي. وبالطبع، لم يكن هناك أي من قادة الإخوان المسلمين، الذين لم يدع أحد منهم أصلاً. ولكن القول بأن النظام كان يحاور نفسه، يحمل شيئاً من المبالغة؛ فليس كل من حضر يمكن أن يحسب كلية على النظام، بالرغم من وجود أكثرية من هؤلاء. وقد حملت كلمات المتحدثين توجهات مختلفة، من الدعوة إلى وضع نهاية لسيطرة الأجهزة الأمنية على الحياة السورية، إلى التخلص كلية من الدستور السوري الحالي. وهذا بالتأكيد مجرد لقاء تشاوري وليس بداية الحوار نفسه، ولهذا اللقاء أن يضع أولويات وآليات الحوار. فلماذا التسرع في إطلاق الأحكام؟

على نحو ما، يمكن لأنصار النظام القول بأن انعقاد اللقاء التشاوري مؤشر على إيفاء الرئيس الأسد بوعوده الإصلاحية، وقد قالوا هذا بالفعل. بعد رفع حالة الطوارئ وتغيير الحكومة ووضع قانون للتظاهر السلمي، سارع النظام إلى إطلاق الحوار الوطني، على الأقل في صيغة لقاء تشاوري أولي، داعياً له طيفاً واسعاً من القوى والشخصيات السياسية السورية. وليس هذا مجرد مشروع لتبادل الرأي، ولكنه يستهدف الوصول إلى تصور وطني للتعامل مع قضايا كبرى للإصلاح، بدءاً من تعديل دستوري، أو حتى الاتفاق على وضع دستور جديد للبلاد، إلى قوانين تنظيم الحياة السياسية الجديدة، مثل قانوني الأحزاب والإعلام.

صحيح أن حركة النظام نحو الإصلاح السياسي وبناء حياة سياسية جديدة تبدو بطيئة، يقول هؤلاء، إلا أنها حركة حثيثة باتجاه وضع الأسس التي يتطلبها إصلاح النظام والدولة، بعد خضوع سورية زهاء نصف القرن لحكم استبدادي ـ أمني. وإن كان النظام يخطو كل هذه الخطوات باتجاه الإصلاح والتغيير، فعلى قوى وتيارات المعارضة السياسية، التقليدي منها والجديد، أن تأخذ هذه الخطوات في الاعتبار، وأن تمد يد الحوار والعون للنظام. ليست سورية بالدولة الهامشية في المشرق العربي – الإسلامي، ودفع سورية نحو الانفجار الكلي، على الطريقة الليبية أو اليمنية، سيترك أثراً بالغاً على الجوار كله، ناهيك عن إضعاف دولة القلب العربية، التي وقفت بصلابة طوال عقود في مواجهة التوسع الإسرائيلي ومشاريع السيطرة الإمبريالية الجديدة.

بيد أن هذا ليس الوجه الوحيد للنظام السوري. فمنذ بداية الحراك الشعبي، لم يتوان النظام عن استخدام أقصى مقدراته الأمنية والعسكرية لقمع الشعب وقواه السياسية.

لا أحد يعرف على وجه اليقين عدد الشهداء والقتلى الذين سقطوا بنيران قوات النظام وأعوانه، ولكن الرقم لا يمكن أن يكون أقل من ألفين. وبالرغم من إلغاء حالة الطوارىء، فإن أعداد المعتقلين تزيد عن الـ 15 ألفاً، يتعرض عدد كبير منهم لتعذيب منهجي، أدى إلى استشهاد أعداد تحت التعذيب. ولم يزل عشرات الألوف من السوريين ممنوعين من السفر أو العودة إلى بلادهم، ناهيك عن أصناف الحظر الأخرى التي فرضت على حياة وعمل الكثيرين بينهم. ومنذ اقتحام درعا، تقتحم الفرق المدرعة وقوات الأمن المدن والبلدات السورية ضمن مخطط أمني ـ عسكري قمعي شامل، حيث تتعرض البيوت والمحال للنهب والدمار، والشبان للاعتقال العشوائي، والكبار للإهانة وإهدار الكرامة. وحتى لحظة انعقاد اللقاء التشاوري كانت الأجهزة الأمنية والوحدات العسكرية الموالية تقوم بعملها كالمعتاد في أنحاء سورية المختلفة: لم يزل السوريون يتعرضون للقتل والإصابة كلما خرجوا للشارع لإعلاء أصواتهم ضد النظام وسياساته، بينما تجري الاعتقالات على قدم وساق، وتبذل العناصر الأمنية ومجموعات الميليشيات المرتبطة بها كل جهد ممكن لتدمير روح السوريين وكسر إرادتهم. لهذا النظام وجهان، يقول معارضوه، وجه تحاوري طارىء، اضطر إلى تبنيه بفعل فشله في إخضاع الشعب وخشيته من الضغوط الخارجية، يريد به تغطية وجهه الآخر، القمعي الأصيل، الذي يعمل بكل طاقته وبدون حدود ولا ضوابط من أجل إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل منتصف آذار/مارس.

الواضح، بالطبع، على الأقل من متابعة ردود الفعل الأولى على اللقاء التشاوري أن الأغلبية العظمى من القوى والشخصيات السياسية المعارضة، ناهيك عن مئات الألوف التي شاركت في تظاهرات جمعة ‘لا حوار،’ لا تأخذ مشروع الحوار الذي أطلقه وينظمه ويقوده النظام مأخذ الجد. قطاع واسع من الشعب والمعارضة السياسية يقول بأن الحوار الحقيقي لابد أن يبدأ بتنحي الرئيس والمجموعة الصغيرة الحاكمة من حوله، وقطاع آخر يقول بأن ثمة شروطاً للحوار لابد أن تتحقق قبل أن ينطلق مثل هذا الحوار. وإن كان لموقف الفئة الثانية أن يمثل الحد الأدنى لمتطلبات إبعاد سورية عن حافة الهاوية، فأمام النظام مهمة شاقة لإقناع السوريين بمصداقية وجهه الإصلاحي. يستطيع قادة النظام، مثلاً، الإفراج عن آلاف المعتقلين في السجون وأقبية الأجهزة الأمنية، وإيقاف الحملة الإعلامية المستمرة ضد ثورة الشعب، والاتهامات الساذجة التي لم يعد يصدقها أحد بأن الجماهير المطالبة بالحرية وقعت أسيرة مؤامرة أجنبية؛ يستطيع قادة النظام سحب قوات الجيش العربي السوري من هاوية المأساة المؤلمة والمدمرة التي دفعوه إليها، ووضع نهاية لسيطرة المؤسسة الأمنية على مقدرات سورية وشعبها، وإعادة المنظمات الأمنية إلى الحجم والوظيفة التي يتطلبها أمن سورية الوطني. ويستطيع قادة النظام فتح أبواب سورية لعودة أبنائها المنفيين منذ عقود ورفع القيود المختلفة على حياة الآخرين ممن هم داخل سورية. كما يستطيع النظام، إضافة إلى هذا كله، الوقوف بوضوح وصراحة للاعتذار للسوريين البواسل عن حفلة الموت والقمع القاتل التي تعيشها سورية منذ أربعة شهور. مثل هذه الخطوات، وليس ما هو أقل، يمكن ربما أن يوفر مناخاً حقيقياً لانطلاق حوار وطني.

بيد أن مصداقية التوجهات الإصلاحية تتطلب ما هو أكبر، تتطلب وعياً أعمق لدى قيادة النظام للحظة التاريخية التي يعيشها العرب والسوريون على السواء؛ فما تشهده سورية، على أية حال، ليس استثناء ولا غريباً. إن كانت سورية هي ‘قلب العروبة النابض’ (هذا الكليشيه الذي نردده أحياناً بدون إدراك كاف لمدلولاته)، فقد كان من الطبيعي والمتوقع أن تكون سورية أكثر العرب تحسساً لوطأة الأزمة التي أخذت تثقل كاهل الشعوب العربية كافة. فبعد أكثر من نصف قرن على الاستقلال الوطني، تعيش البلاد العربية جميعها تقريباً تحت سيطرة أنظمة استبداد وقهر وقمع لا مثيل لها في العالم، وفي ظل حالة من الخراب الاقتصادي والفروق الطبقية الفادحة، وقد انهارت مؤسساتها القضائية والتعليمية، ويروج في فضائها لأصناف من الثقافة الرخيصة التي تصطدم بكل موروثاتها القيمية. ليست هذه أمة من الشاكين، وهي تحمل ضميراً نشأ أصلاً لينفر من الفتنة ودواعيها. ولكن حجم الإهانة التي تعرض لها العرب في القرن الماضي، وخلال النصف الثاني منه على وجه الخصوص، لا يمكن أن تقارن بأية حقبة أخرى في تاريخهم. وقد جاء الوقت لوضع نهاية لهذه الإهانة. ليست هذه حالة تونسية أو مصرية أو يمنية، هذه حالة عربية شاملة، وسورية في القلب منها.

بإمكان القيادة السورية أن ترى هذه الحقيقة، وأن تتعامل مع الشعب السوري على هذا الأساس، ليبدأ بالفعل تغيير جاد، ينقذ سورية من المزيد من المخاطر التي تهدد سلمها الأهلي واستقرارها. وبإمكانها، كما يردد بعض أنصار النظام، التصرف على أساس أن هذه معركة حياة أو موت للطبقة الحاكمة، وإن كان القذافي وعبد الله صالح قد صمدا كل هذا الوقت، فلماذا يجب على النظام أن يتنازل لمعارضيه. لم يعد ثمة جدل في أن السوريين كشعب قد اختاروا، ما تبقى أن تختار الطبقة الحاكمة طريقها.

‘ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى