صفحات العالم

النظام يريد اسقاط النظام !?


م. ليث الشبيلات

من الذي يفتح باب التدخل الأجنبي في سورية وفي غيرها? أهو الشعب ? أم هي أجنحة متكلسة وخلايا فاسدة متورطة نائمة في صلب النظام?

لا يستطيع المتابع لمواقفنا في العقود الماضية أن يتهمها بالتحجر أيديولوجيا , بل كانت دائماً تتجاوز الخلاف الفكري وحتى النقدي لأحداث لا تُغْتَفَر وذلك في سبيل تحقيق المصلحة القومية للأمة ومكوناتها القطرية. وذلك للأسف على مرجعية المقارنة بين السيئ والأقل سوءاً وليس على مرجعية الجيد والأفضل جودة ! ولكن مهما اتخذنا من مواقف تبدو غير متجانسة مع غضبنا ونقدنا لمواقف وقرارات سبقتها , إلا أننا لم نترك ولو لمرة واحدة التذكير بأن مواقفنا المستجدة لا تجب ولا تلغي ولا تقلل من شأن نقدنا الحازم لما سبق وحتى لما لحق من أوضاع قائمة , ولكنها مصلحة الأمة التي تقتضي منا أن لا نتكلس وأن لا نتعامل مع الشأن السياسي بلونين فقط : إما أبيض أو أسود ! غير متناسين طبعاً عدم ترك النضال المستمر للوصول إلى ما هو أبيض.

فمواقفنا في العقدين الأخيرين من دعم خندق الممانعة الذي كانت سورية فيه حجر الرحى السياسي واللوجستي لم تمنعنا يوماً عن التشديد على وجوب إعطاء الشعب حقه في الحياة الحرة الكريمة المحمية من القمع والاستبداد وبوجوب قطع دابر الفساد. ولم تمنعنا التذكير بدور سورية الرئيسي المؤسف في اعطاء الشرعية للتدخل العسكري الأجنبي في العراق والمشاركة فيه. ولم تكن تلك المواقف صادرة من مكان بعيد عن دمشق بل في دمشق نفسها وفي محاضرات علنية وبحضور رموز كبيرة في النظام . ففي مكتبة الأسد في دمشق عام 1997 أضفنا إلى نقدنا لسكوت المثقفين عن وجود قوات عربية في حفر الباطن مقولة اشتهرت عنا بعد ذلك وعليها تدور هذه المقالة : ( سألني سائل ما هي برامجك المقترحة لمقاومة الصهينة فأجبت حالاً إنه برنامج النقطة الواحدة : برنامج الحرية الفكرية والتحرر من استعباد السلطة فمن سلّم حرية رأيه وفكره إلى سلطة بلده العربية لن ينهض للدفاع عن بلده عندما تتغلغل فيه السلطة الاجنبية فالعبد عبد ولو تعلا يستمرئ العبودية كائنا من كان سيده والحر لا يطيق الأغلال ولو كانت أخوية ذهبية) وبناء على هذا الأساس فإن نهوض الشعب السوري اليوم لا يمكن إلا أن يصب باصالة في الخندق الثابت لمناهضة الصهيونية وليس في خندق الأجانب الأعداء ! ومن المعيب على أية شخصية فكرية أو وطنية أن تجنح إلى هلوسة اتهام شعب بالميل نحو الخيانة.

وإن أي ادعاء بتباين الموقفين الرسمي والشعبي في ما يخص مقاومة الصهيونية وتحرير فلسطين لصالح الموقف الرسمي ادعاء خطأ . بل إن أي تباين في هذا الأمر هو بكل تأكيد لصالح الشعب مصدر السلطات. فالشعب الذي يصارع لتحقيق ما لم نتوان عن تكرار النصيحة بشأنه لإخواننا الرسميين في سورية لن يسلم حريته لأي أجنبي وهو الذي يرفض تسليمها إلى شقيقه العربي السوري بالمغالبة والقهر. وكلنا يعلم بأن سقف الموقف الرسمي السوري من قضية فلسطين هذه الأيام هو التفاوض مع العدو بشروط أفضل من الغير. وهذا الموقف لا يرضينا استراتيجياً ولا يرضي بكل تأكيد الشعب السوري المنتفض من أجل حريته (لا من أجل المطالبة ب¯السلام ). كما يجب ألا يرضى بأكثر من ذلك أولئك الداعمين بغير قيد ولا شرط إجراءات السلطات القمعية استناداً إلى نقاء تمسكهم بمبادئهم القومية! إن غالبية أصدقائنا المناضلين المعارضين الممسكين بالجمر داخل سورية يصرون على ضرورة وقف القتل وسحب الجيش وإطلاق المعتقلين قبل أي حوار كانوا دائماً المنادين به وكنا دائماً نسعى لاقناع أصدقائنا في السلطة بضرورته من دون جدوى, فكيف يقفز المؤيدون من دون قيد أو شرط من خارج سورية فوق أصدقائهم ورفاق نضالاتهم السوريين هؤلاء مصنفينهم بالضرورة (عملياً على الأقل) في خندق العمالة للغرب? هل أصبح أمثال حسن عبد العظيم والطيب تيزني وعارف دليلة والبني وحبيب عيسى وميشال كيلو ورجاء الناصر وأفاضل كثر غيرهم في خندق القوى المعادية عند هؤلاء لمجرد أن النظام رفض دوماً وما زال يرفض الجلوس إليهم بإيقافه الحملة العسكرية وإطلاقه المعتقلين والسماح بحرية التعبير?

إن القلة العميلة من المعارضة التي كانت وما زالت تستجدي الأجنبي التدخل ليس لها أي وزن داخل سورية. وإن الغالبية الساحقة من المعارضة ترفض أي تدخل خارجي بل وتشير باصبع الاتهام إلى تدخلات خارجية لصالح السلطة.

لذلك يبدو للأسف أن شعار النظام يريد إسقاط النظام هو الأقرب واقعاً للمعالجة التي نتابعها بقلق وغضب فبمثل هؤلاء الأصدقاء لا يحتاج النظام إلى أعداء. وإن أبسط الناس بات يدرك بأن الأجنحة المتكلسة داخل السلطة والتي قد يكون بعضها على ارتباط مع مصالح أجنبية هي وحدها (فيما عدا بعض المعارضة العميلة في الخارج) التي تدفع بالأمر إلى وضع يفتح الباب على مصراعيه لتدخل أجنبي يزيد من تقزيم المنطقة بإدخال حدود إضافية جديدة تؤمن بقاء الكيان الصهيوني. إن التدخل الأجنبي يفضي سياسياً إلى إعادة شرعية وطنية عربية للجهة التي حضر الأجنبي لمحاربتها رغم طغيانها وفسادها للأسف! ويقلب الحركة الجماهيرية الشرعية النبيلة إلى صفوف العمالة رغم طهرها ونبل مقصدها للأسف. لذلك على الشعب السوري أن يدرك بوضوح لا يحتمل اللبس أن مقتل ثورته يكمن في التدخل الأجنبي مهما غلت التضحيات, فالصبر على التضحيات يزيد من تمكين الشرعية أما التدخل فيقتل الشرعية المتعاظمة تراكمياً في لحظة واحدة وبطلقة واحدة.

وفي هذا المجال أخاطب أصدقاء تعطلت بوصلتهم فدلتهم بغير اتجاه نواياهم الوطنية القومية الصادقة, بأن علينا إن كنا غيورين على سورية الممانعة أن نصر بكل ما أوتينا من قوة على ضرورة إعطاء الشعب حقه في الحرية والمشاركة في صنع قرارات بلده والإطاحة بكل الفاسدين المعروفين الذين لم يضح بأي واحد منهم حتى اليوم رغم أن وجودهم وتصرفاتهم هي الشرارة التي أشعلت فتيل احتجاجات بدأت بالمطالبة بالحرية وانتقلت بعد حماقة مسؤولي درعا وجرائم تعاملهم مع الأطفال وتحقير وإذلال أهاليهم إلى دعوات لاسقاط النظام. بل ورغم تصريحات بعضهم التي تطالها جرائم الخيانة العظمى. ولا يعقل أن تصل بنا السذاجة الوطنية إلى المناصرة العمياء لمرتكبي جرائم لمجرد ان الضحية تحظى بتعاطف انساني عالمي قد يفضي بسبب ضعف تحرك المواطنين العرب في معظم أرجاء الوطن العربي إلى درجة تحريك تدخل خارجي. فالمطالبون بحقوقهم الشرعية في سورية لم يتحركوا بتحريك أجنبي. والسؤال الذي يجب أن نطرحه هو: لماذا سلبت حقوقهم ابتداء ولماذا يبقى سلبها سبباً في حماية البلاد من التدخل الأجنبي? إن سلب الحقوق والاصرار على عدم إعادتها إلا بأشكال كاريكاتورية صورية هو وحده الذي يهيئ الطريق أمام أي تدخل أجنبي محتمل , وليست المطالبة بتلك الحقوق. فكيف تكون المطالبة بالحقوق مفضيةً إلى الخيانة ويكون سلبها والرتع في الفساد مفضياً إلى الوطنية?

تجمعنا صداقات كثيرة مع إخوة معارضين في سورية (معظمهم في الداخل)ونحمل لكثير منهم احتراماً فرضوه بصلابتهم ومثابرتهم. وأذكر تعليقاً لي على الكلمات التي ألقيت في دوما بمناسبة ثورة 23 يوليو عام 2003 : (قد عرفت بسقوفي العالية ولكنني اليوم تعلمت الصلابة والشجاعة منكم رغم أن ظروف الحريات عندكم أصعب بكثير منها عندنا). واستحضر ما كنت أخاطب به الكثيرين في المؤتمرات المتفرقة: (نحن الشخصيات والتنظيمات المعارضة لا نرتفع إلى ما تفرضه علينا المسؤولية حتى نجنب شعبنا التحرك والتضحية. إن الجماهير تسبقنا فإلى متى هذا التقاعس?) وقد سبقتنا الجماهيرفعلاً في مصر وفي تونس وتوقعنا أن تسبقنا الجماهير في سورية والأردن وغيرها لأننا لا نشفي غليلها بتحقيق حتى بعضٍ من مطالبها. وكنت أتمنى أن يقرأ النظام في سورية وكذلك النظام عندنا الواقع المتذمر منه وأن لا ينغشا من عدم قدرة القيادات المعارضة التأثير لإصلاح ما يعرفه الناس من مفاسد فيصدقا آيات المدح والتبجيل النفاقية التي يصل بعضها إلى العبادة لأن الناس سيقفزون فوق معارضاتهم التي لم تستطع تحقيق المطلوب وسيرفعون شعارات في الشارع انفرد بالجهر بها قلة من المعارضين بينما اكتفى الباقون بالهمس بها.

إن حركة الشارع ليست تذمراً من الأنظمة فحسب ! بل إنها إعلان تذمر من قيادات معارضة لم تفلح في فرض الإصلاح وتجنيب الشعب النزول إلى الشارع . ونحن إذ ندرك أن الغضب الكبير المحق قد أوصل الشارع في سورية إلى المطالبة بإسقاط النظام لندرك في الوقت نفسه أن غياب رؤية وبرامج وهياكل وكوادر مدربة وتوافق على شخصيات قيادية تقود مرحلة التغيير بحنكة وحكمة ودراية في ظل أوضاع داخلية نعرفها وأوضاع خارجية تخفى مخططاتها عن الكثيرين سيؤدي فقط إلى التشفي بالإسقاط من دون القدرة على البناء المخطط. وللأسف فإن النظام هو المسؤول الأول عن غياب مثل هذه الرؤى والتطلعات والبرامج الناضجة والهياكل المؤهلة للتغيير السلمي بإلغائه القمعي المستبد المستمر للآخر. ففي مصر وتونس سقطت رموز بارزة وما زال النظام (وكثير من رموز ثانوية) مترنحاً غير ساقط سقطة النهاية رغم حيادية نسبية لأهم مؤسسة وطنية تصدت لواجب جسر الانتقال إلى مستقبل يجتث جذور النظام مؤسساً لشيء جديد ! ويزحف الخلاف مبكرا في صفوف تيارات توحدت على الاسقاط ولم تتوحد على البناء منذراً بأخطار جسيمة ناهيك عن أعظم خطر موجود : الضغوط الأجنبية الاقتصادية الحيوية ثم السياسية التي تقصف قصفاً عنيفاً مكتوم الصوت كل توجه نحو الاستقلال الحقيقي الذي أضاعتها الأنظمة الساقطة. فالوضع كما نرى مختلف في سورية ولا طريق أقرب للأمان من نضال طويل صلب صبور يسحب مراكز القوة من المستبدين والفاسدين واحدة واحدة ويعيدها إلى الشعب في سلسلة من العمليات الجراحية لا في عملية واحدة. نحن نتفهم عواطف الغضب الجياشة من المعالجة الأمنية التي يندى لها الجبين, ولكن هل المراد هو الانتقام? أم إنه بناء مستقبل زاهر? علينا أن نقرأ رسالة نيلسون منديلا الصادقة الناصحة الموجهة للثورة العربية التي يقول فيها : عندما خرجت من السجن بعد 27 عاماً كنت أفكر بما سنفعله بمستوطنين أجانب غزو بلادنا وأصبحوا مواطنين من الدرجة الأولى فذبحونا وأذلونا واضطهدونا وسرقونا! هل نعمل على اجتثاثهم والانتقام منهم ? لم تكن المعجزة في نصرنا عليهم بثورتنا! إنما تمثلت المعجزة بانتصارنا على مشاعر الانتقام وبقرارنا العمل على القبول بمشاركتهم لنا في مواطنة لم يكونوا يستحقونها ابتداء بسبب حصولهم عليها اغتصاباً, فأجرينا محاسبة مفضية للتسامح معيدة الحقوق والثروات المسلوبة من غير تنكيل شديد بالمعتدين عليها فنجحنا في معجزة بناء جنوب أفريقيا جديدة تتقدم بسرعة هائلة بسواعد سودها وأبناء غزاتها السابقين البيض. ولولا ذلك لكنتم رأيتمونا اليوم بعد عقود من انتصار ثورتنا نتخبط في نزاعات واضطرابات أضاعت أهداف ثورتنا وبلادنا.

وقد تبدو الأوضاع عندنا في الأردن أفضل حتى الآن وهو ما يرجوه كل مخلص إن كان يعكس الحقيقة, وهو ما نستبعده بكل أسف. ولنا في هذا مثال واحد يكفي للتدليل على تفكير الأنظمة الأحادية الملغية للآخر على اختلاف قمعها من قبضة حديدية إلى قبضة ناعمة فما زال الأخ الكبير كما سماه أورويل هو الذي يخطط لكل شيء من دون استشارة . فإجراء تعديلات على العقد الاجتماعي (الدستور) تجري دراستها بالكتمان وستعلن نتائجها من دون حوار مع صاحب الشأن , الشعب, الذي إنما وجدت الدساتير لحمايته ولرعايته ولمنع إهانته والاستبداد به وبثرواته ولتحقيق أمانيه القومية. فلا يمكن للمشتكى منه أن يكتب شروط المشتكي وفي غيابه . ففي مسألة دقة المحافظة على الحقوق علمنا القرآن قمة الحرص على الحقوق بقوله في الكاتب العدل: (فليكتب بينهما كاتب بالعدل ولا يأبى كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ), فأمر بأن يملي صاحب الحق على الكاتب بالعدل حقه لا أن يملي المحقوق ذلك. فكيف يغيب المشتكي ولا يسمح له بحضور جلسة الكاتب بالعدل فيكتب المشتكى منه شروط العلاقات العادلة بينهما في غياب المظلوم ثم ننتظر بعد ذلك انصافاُ وعدلاً ?

فلا النظام ولا الاصلاحيون يتعلمون من قريب تاريخهم ناهيك عن قديمه. فقبل 22 سنة عندما كنت مقرراً للمؤتمر الوطني الأردني 1989 المزمع عقده وأفشله بعد ذلك انقلاب المعارضين على شعارهم المجمع عليه لا للميثاق الذي أعلن عنه الديوان الملكي كرد على مؤتمرنا, حاول رئيس الوزراء المرحوم الأمير زيد بن شاكر أن يثنيني عن فكرة المؤتمر في نقاش في مكتب نائبه الأخ سالم مساعدة وسألني ما الفرق بين المؤتمر والميثاق ? فأجبته :  الفرق كبير! حتى لو جاءت النصوص متشابهة! فمؤتمرنا يعقد برعاية الشعب المشتكي الذي يختار لجنته التنفيذية للمتابعة وتحمل المسؤولية , بينما ينعقد الميثاق برعاية المشتكى منه ويلتئم ويصرف بأمره. هذا شأن يخصنا ولا يخص الديوان الذي يرغب فقط في تنفيس حراكنا وسحب البساط من تحتنا بالميثاق. ولم تمض سنة واحدة على الميثاق إلا وقد تم دفنه سراً من دون جنازة.

ألم يأن لنا أن نتعلم من فشل كل اللجان التي تنعقد بمبادرة من السلطة ? إن من المضحك المبكي أن القائمين على السلطة الذين لم يكونوا مولودين عندما كان هذا الشعب يمارس نضالاته قد سبقوا شعبهم نضجاً فأصبحوا أوصياء(بالفقاسات الاصطناعية) على من يجب أن يتتلمذوا عليه ! فلم يبلغ عندهم الشعب وكهوله الذين ربوهم وارضعوهم وصبروا عليهم سن الرشد بعد, فنصبوا أنفسهم أوصياء عليهم وعليه! وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصفه لإحدى إشارات آخر الزمان الأخرى غير كثرة الشرط (الشرطة) بقوله : (…وان تلد الأمة ربتها ) أي أن تلد الجارية سيدتها.

العرب اليوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى