صفحات العالم

الوريث احتكر المسؤولية ولم يحسن استخدامها

 


غسان الإمام

في مؤلفه «ذاكرة ملك»، يقول العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني: «السلطة شبيهة بالرحى، فإن لامسها المرء بلطف صقلته، وإن هو على العكس، ضغط عليها بقوة، مزقته إربا إربا».

ما أحرى بالرئيس بشار أن يقرأ «ذاكرة» الحسن الثاني. هذا الملك ضغط على رحى السلطة. فواجه أزمات. ومحاولات انقلاب. واغتيال. وعاد في سنيه الأخيرة، ليشرك أحزاب المعارضة في الحكم. وربما لو امتد به العمر، لمارس الانفتاح المحسوب، لنجله ووريثه الملك محمد السادس.

منذ مقتل شقيقه باسل في عام 1994، ما زال بشار يضغط على رحى السلطة. بدأ في جمع الصلاحيات. واحتكار السلطات منذ عصر أبيه. هذه المركزية الإدارية ذات الأنانية الشديدة، هي في علم النفس، وليدة غريزة التملك في الإنسان. وغريزة التملك والاقتناء هي رديف لغريزة البقاء والدفاع عن الذات. ولا شك أن نظام الطائفة والعائلة مارس الغريزتين الاثنتين، طوال حكمه على مدى 45 عاما.

في إلغائه السياسة، اعتمد بشار سفسطائية الخطاب الدعائي للتغطية على احتكاره السلطة، ورفضه لأي انفتاح في الداخل السوري. لا يدخل في صميم الواقع والتفاصيل، لكي يتجنب ذكر المطلوب والمنشود في أفئدة وعقول الناس. لم يدخل الأب قط في المهاترات العربية. في خصومته الشديدة، كان الابن عالي الوتيرة. كثير الإسهاب في عصر الاختصار. في نبرة مفرداته تعال. واستفزاز. وإهانة «فلان مأمور لعبد مأمور» و«الزعامات العربية أنصاف رجال…».

كي لا أغرق في التحليل، أبادر إلى تقديم أدلة. وشواهد. وأمثلة على احتكاره السلطة، ذلك الاحتكار الذي ألجأه إلى المبادرة من دون مشاورة. ومن ثم، إلى ارتكاب أخطاء فادحة في ممارسة الضغط على الرحى، والعض بنهم على السلطة. لم تكد تمضي 48 ساعة على غياب الأب، حتى تم تعديل الدستور لترئيس الابن. وإيلائه زعامة الحزب. دخل العم رفعت على الخط. كاد يعرقل عملية الاحتكار. قال إنه يملك «وثائق» تخوله الوراثة. بشار الخائف سارع إلى إصدار مذكرة جلب بحق العم! لولا وساطة خليجية حكيمة، لتطور النزاع إلى حكاية مثيرة لفضول الصحافة.

انتزع بشار ملف لبنان. فرض قائد الجيش اللبناني العماد إميل لحود رئيسا. أقصى رفيق الحريري زعيم الأغلبية البرلمانية عن الحكم. استغل بشار الخلاف بين الرجلين. الأول يريد تمويل تطوير الجيش. الثاني يريد استخدام الموارد المحدودة في التنمية. والإعمار بعد الحرب. لم يكن لحود سيئا. كان من أسرة مارونية عريقة. في مسيحيتها اعتدال متسامح يقبل بعروبة لبنان.

لكن قبوله إرادة الفرض التي مارسها بشار وأجهزته الأمنية، أضعف موقفه أمام اللبنانيين. ثم كان خطأ بشار الكبير بفرض التمديد ثلاث سنوات للحود. كان الثمن غاليا. إنذار دولي بسحب القوات السورية من لبنان. ثم سحبها خلال أيام بشكل مهين ومذل لها، إثر مقتل الحريري (2005).

«نحن مع الرأي والرأي الآخر». كانت الممارسة نقيضا صريحا للقول. في خوفه من المشاركة الشعبية في القرار، سحق بشار منتديات الرأي الآخر (ربيع دمشق)، بعد عام من توريثه وترئيسه. لم يكتف بتقويض هذه المنابر المنزلية الخجولة في المطالبة بالمشاركة، فقد عمد إلى سجن الليبراليين واليساريين الماركسيين التائبين الذين يرتادونها. راح يدخلهم السجون والمحاكم العسكرية والاستثنائية. ثم يخرجهم. ويعود ليسجنهم، على مدى عشر سنوات. وبينهم الطبيبة فداء ابنة الزعيم الاشتراكي أكرم الحوراني، وسهير ابنة البعثي الناصري المثقف الراحل جمال الأتاسي.

هذا العداء لليبراليين الذين لا يشكلون خطرا على النظام، لعدم امتلاكهم القاعدة الشعبية، شمل أيضا المثقفين. أصيب طبيب العيون بعمى الألوان. لم يلتق بمثقف سياسي أو عادي. إقامته الدراسية في الغرب لم تكن كافية لاستيعاب مبادئ الحرية، وفهم آليات الديمقراطية الحزبية التي حققت مكاسب اجتماعية لطبقتي البروليتاريا والوسطى بالنضال السياسي السلمي، عجزت الماركسية عن تحقيقها بنضالها الثوري الدموي.

في ابتذال الديمقراطية، ظل الحزب نظريا «القائد» للدولة والمجتمع. لكل قيادي ضابط أمني متنفذ يدعمه. فقد الحزب مشروعيته التاريخية. فور توليه السلطة، أنعم الأب بحكم بالإعدام على المؤسس عفلق. اغتيل المؤسس الثاني صلاح البيطار في المنفى (1980). مات الزعيم الثالث أكرم الحوراني لاجئا لدى الملك حسين. دفن على رابية في عمان.

المنظر غريب. القيادي المخضرم عبد الله الأحمر لا يتقاعد. ما زال يدردش مع وفود الحزب «القائد» في قرغيزيا. منغوليا. بوليفيا. فنزويلا. كوبا، فيما ممثل بشار «سعيد بخيتان» يحاضر كبار أطر الدولة والحزب، بلغة الخمسينات الخشبية، من منبر السد العالي. لا حوار. لا سؤال. لأن الرجل لا يملك حرية الجواب.

كانت الأجهزة الأمنية، بكل تخلفها. وأميتها، بديل القاعدة الشعبية، لإسناد نظام بشار. ارتفع عددها من عشرة أجهزة في عهد الأب، إلى 17 جهازا عسكريا. ومدنيا. معروفا. وسريا. في عصر الابن ربع مليون عميل. وجلاد. ومخبر. وأجير. وضابط. يجوبون يوميا عقول الناس وقلوبهم. يسجلون تقاريرهم لأجهزة متناحرة. متهادنة. عاجزة عن التنبؤ بالانتفاضة. ومرهقة. ومستنزفة في ملاحقتها. وتعذيبها.

في التناقض بين شعار الحزب الاشتراكي ورأسمالية نظام الحكم، تم توليد رأسمالية «اقتصاد السوق الاجتماعي»! عثر الرئيس بشار على «روبوت تكنوقراط اقتصادي» لتطبيق الليبرالية الاقتصادية. الشاب عبد الله دردري درس الاقتصاد في الغرب. في عصر صعود رأسمالية ريغان وثاتشر المتوحشة. خلعت الدولة ملابسها (شركات القطاع العام الرابحة فقط). فباعها الدردري إلى شركات القطاع الخاص. قطاع يدار بعقلية رأسمالية بدائية. وتم تعديل قانون العمل، وسط ذهول واحتجاج نقابات العمال.

كان التطبيق الاقتصادي كارثة من الأخطاء: هوة بين أصحاب المال والكسبة (يسميها بشار فجوة). ارتفع معدل البطالة. ومعه التضخم. كلما غلت الأسعار. زاد بشار الأجور. صب الزيت على النار.

في هذه الأثناء، ازدهرت طبقة الـ«نوفوريش». طبقة رأسمالية مدنية/ عسكرية. طبقة لاهية. بلا تعاطف اجتماعي وخيري. طبقة منعزلة عن شعبها. لها لذاتها. فيلاتها. مزارعها. ملاعبها. كلابها. مهابط طائراتها. طبقة يحتضنها نظام تسلطي (أوتوقراطي) يدين رئيسه فساد الكبار. ويعاقب فساد المرتشين الصغار.

النظام اختصر الطائفة بحكم العائلة. يرضي تجار البازار في المدن الكبرى (دمشق. حلب) بالفتات يلقيها إليهم سياح إيرانيون فقراء. وسياح غربيون بخلاء. في الانتفاضة، صمتت المدن الكبرى البازارية. وثار سكان الريف المحرومون من الغذاء. والماء. والكهرباء. وخدمات الصرف الصحي… وحقوق المساواة في المواطنة.

لتغيير الحال، استعان بشار بحكومات ثلاث لإصلاح الأخطاء، بالأخطاء. جاء برجال من الصف الثالث بالحزب: حكومة معلم المدرسة مصطفى ميرو لمكافحة الفساد. استقالت (2003) متلبسة بالشبهات. نصب بشار مهندس المعمار ناجي عطري «لهندسة» الإدارة. فعمت فوضى البطالة.

بشر بشار بحكومة التغيير، في زمن الانتفاضة. جاء بحكومة مهندس الزراعة عادل سفر. لإطعام مليون جائع مهاجر من أخطاء التطبيق الزراعي في الشرق، إلى أحزمة البؤس حول المدن الكبرى. حكومة التغيير فيها بضعة عشر وزيرا للحزب القائد. ووزارات السيادة محجوزة لوزراء الطائفة.

مع عادل سفر ذي الجذور الشركسية المستعربة، ينتهي سفري في قطار الأب والابن. لا بد من الانتقال من مأزق التاريخ. إلى أزمات الحاضر: الجيش. ميليشيا ماهر الأسد. تهديدات رامي مخلوف. أزمة المعارضة. أزمة خدام والإخوان. أزمة التغطية الصحافية للانتفاضة. ثم ماذا عن المستقبل؟ ماذا عن تغيير الخرائط السياسية والحدودية في منطقة بركانية ملتهبة؟ إلى الثلاثاء المقبل. وإلى كل ثلاثاء، بإذن من الله. ورضاه.

الشرق الأوسط

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى