حسان عباسصفحات سورية

الوضع الحالي في سوريا ودوائر الحل


حسان عباس

عشرة أشهر على اندلاع الانتفاضة السلمية في سورية. ثلاثمائة يوم ونيف قُتِل خلالها ما يقرب من ستة آلاف شخص (حسب التقديرات الدولية) أي بمعدل عشرين قتيلا يوميا، وعانى خلالها أكثر من مائة ألف مواطن من الاعتقال أو التوقيف. عشرة أشهر والنظام يتغوّل ويزيد من أشكال قمعه ليبلغ درجة من الوحشية يعز نظيرها في التاريخ العربي المعاصر. ويقود بالتالي البلاد إلى نفق ضيق ومظلم يبدو أنه لا يودي إلا إلى الهاوية.

يتميز الوضع السوري اليوم بعدد من المعطيات التي يتوجّب أخذها بعين الاعتبار لمن يريد دراسة الانتفاضة أو تحليل دينامياتها الحالية والمستقبلية، ومن تلك المعطيات يمكننا أن نذكر:

1- تجذر الحراك الشعبي: تزداد الانتفاضة يوما بعد يوم عمقا واتساعا في الواقع السوري، فالبؤر الملتهبة كحمص أو حماة أو درعا أو ريف دمشق اكتسبت غالبية السكان إلى جانبها. والمنطقة التي كانت تجمع بالكاد عشرات المواطنين في مظاهرات سريعة منذ أشهر أخذت تجمع اليوم عشرات الآلاف في تجمعات واعتصامات تبقى ساعات طويلة. ومن المؤكد أن الخوف من القمع الذي يصل إلى حد القتل في أحيان كثيرة هو الوحيد الذي يمنع من تشكل تظاهرات مليونية في المدن الكبرى.

إضافة إلى تعمق الانتفاضة في البؤر التقليدية, نرى رقعتها الجغرافية تزداد اتساعا أيضا. ففي الأشهر الأولى لم تكن المظاهرات لتزيد عن عشرات قليلة تتركز في درعا وحمص واللاذقية بينما وصلت في يوم الجمعة الأخير من عام 2011، وهو يوم الجمعة الثاني من الشهر العاشر من عمر الانتفاضة، إلى ما مجموعه 425 مظاهرة على امتداد البلاد.

ومن الضروري الإشارة إلى أن هذا التجذر لم يكن ماديا فقط، أي لا يأتي من حجم المشاركين في المظاهرات أو عدد المظاهرات فحسب، بل هو تجذر روحي وأخلاقي أيضا. ويتمثل هذا الأمر في الشجاعة الأسطورية للمواطنين المنتفضين الذين لا يزالون يخرجون في المظاهرات غير عابئين بالخطر الحقيقي الذي يهدد حيواتهم. كما يتمثل في دخول الحالة الثورية إلى كل سياقات الثقافة اللامادية اليومية من الشعر إلى الغناء إلى الموسيقى إلى السينما إلى الرقص إلى النكات الساخرة… إن ما أنتجته الانتفاضة السورية من فنون يشكل إرثا ثوريا حقيقيا لم يسبق أن عرفته المجتمعات العربية، إلا مع حركة التحرير الفلسطينية إلى حدٍّ ما.

2- تماسك النظام: على النقيض مما حدث في تونس ومصر، لم يقف الجيش السوري على الحياد وبقي مؤتِمرا في مجمله تقريبا بأمر النظام. ، ولم تخرج قوى الأمن والمخابرات على السلطة الرسمية، فبقيت القبضة الخانقة تمسك بقوة برقبة أي محاولة انشقاق على مستوى الدولة وأجهزتها، لذلك لم نشهد، حتى الآن، حالة مشابهة لما جرى في ليبيا مثلا حيث كانت عناصر هامة من الدولة تعلن انشقاقها الواحد تلو الآخر مما كان يعطي الانطباع بهشاشة النظام رغم صورة التماسك الظاهري الذي كان يعمل على نشرها في الإعلام.

ينبغي هنا أن نذكّر أنه إن كان ولاء الجيش السوري للنظام الحاكم أمرا مؤكدا -أقلّه لدى الوحدات المركزية الضاربة- وله تعليلاته الاجتماعية التاريخية، فإن ولاء الدولة وأجهزتها لا يمكن فهمه إلا في سياق السياسة الأمنية الممارسة، ليس على المجتمع فحسب بل أيضا على الدولة. يكفي أن نذكّر في هذا السياق بشهادات المنشقين من الجيش السوري التي يؤكدون فيها بأن العدد الأكبر من الجنود القتلى في صفوف الجيش كان نتيجة لحالات الإعدام الميداني لجنود وضباط رفضوا إطلاق الرصاص على المدنيين، أو حاولوا أن يفرّوا من ساحات المواجهات مع المتظاهرين العزّل. كما يجدر التذكير في هذا السياق أيضا بالقرارات الرسمية الصادرة في نهاية عام 2011 والتي تمنع الموظفين الكبار والسفراء والوزراء وأعضاء مجلس الشعب، السابقين والحاليين، من مغادرة سورية قبل الحصول على إذن خاص من القيادات الأمنية.

لقد توصّل النظام، من خلال إدارته للمكونات الاجتماعية في سورية إدارة استبدادية لا تقوم على مبدأ المساواة بين المواطنين أمام القانون وإنما تمايز بينهم على أساس درجة ولائهم، توصّل إلى خلق نوع من الحواضن الاجتماعية الحامية للنظام. لا تشكل هذه الحواضن، بأي حال من الأحوال، القاعدة الاجتماعية الاقتصادية “الطبيعية” التي ينبثق النظام منها، والتي تعيد إنتاج نفسها من خلال أجهزة السلطة وإنما هي تشكيلات اجتماعية صنّعها النظام الانقلابي لتشكل المجتمع المضاد الذي تستخدمه السلطة كركيزة وكوسط حماية لها. إنها تشكيلات ترتبط عضويا بالنظام، وبقاؤها من بقائه، ولذا فهي تتوهم أنها تحمي نفسها إذ تحميه من المجتمع الحقيقي.

تبدو هذه الحواضن في المجتمع السوري المعاصر من طبيعتين: الأولى ثقافية وتتمثل بالأقليات الدينية (العلويون والمسيحيون والدروز…)، أو ببعض شرائحها الفاعلة؛ والثانية اقتصادية وتتمثل بالطبقة الغنية الجديدة التي ربطت مصيرها بعلاقات المنفعة المتبادلة مع رموز النظام.

إن تماسك النظام والحالة هذه لا يأتي من قوته البنيوية المرتكزة على متانة علاقاته الداخلية والخارجية وإنما من قوته التسلطية التي ترهب العناصر التي تجسّد هذه العلاقات في الواقع (الموظفون والناس العاديون والعسكر…..) وتحيلها إلى كائنات تراجيدية يدفعها خوفها من الغول إلى الحرص على بقاء الغول مصدر خوفها.

3- تخبّط المعارضة السياسية التقليدية: عمل حزب البعث منذ استيلائه على السلطة على إضعاف الحياة السياسية السورية، ونجح حافظ الأسد خلال عقود حكمه الثلاثة في إفراغ المجتمع من السياسة لتصبح القاعدة الناظمة للعمل السياسي: للبعثيين ومن يواليهم بخنوع كل شيء ولغيرهم السجن أو المنفى أو القبر. وعلى الرغم من الهوامش الهزيلة التي أتيحت منذ وصول بشار الأسد إلى السلطة لم تتسنّ للحياة السياسية السورية الشروط اللازمة للخروج من حالة الموات.

لقد سجّل في بداية الاحتجاجات وجود متواضع لبعض الشخصيات العاملة في السياسة غير أنه ما لبثت أن تجاوزت الانتفاضة كل التنظيمات السياسية المعروفة، وبدأت هذه الأخيرة تلهث للحاق بها. فظهرت محاولات تجميع القوى المشتتة في جبهة واحدة، لحقتها محاولات عديدة أغلبها تمّت خارج البلاد، وبدأت الاصطفافات والانشقاقات والمهاترات تطغى على عمل كل هذه التجمعات مما أفقدها الكثير من مصداقيتها لدى الناس. وعلى الرغم من كل الجهود لتوحيد صفوف المعارضة السياسية في وجه آلة النظام بقي الخلاف سيد الموقف. ومما أضعف المعارضة أكثر فأكثر هو اتخاذ الخلاف، في بعض الأحيان، شكل حسابات شخصية تجري تصفيتها على حساب القضايا الوطنية الكبرى. ناهيك عن الانقسام الكلي حول قضايا تتعلق بمصير الانتفاضة ومصير البلاد مثل الطائفية، والتدخل الأجنبي، ودور “الجيش الحر”….

بالمقابل أفرزت الانتفاضة معارضة جديدة تمثلت بما سمّي بالتنسيقيات أو باللجان التنسيقية، وقد أخذت على عاتقها مسؤوليات تنظيم الاحتجاجات والعناية الطبية بالجرحى والمصابين ومد وسائل الإعلام والمؤسسات الدولية بوثائق عن عنف النظام وأجهزته الأمنية. غير أن هذه اللجان لم تستطع التحول إلى بنية سياسية موّحدة تقود الانتفاضة وتمثلها.

وعليه حدث ما يشبه الانفصال بين جسد الانتفاضة الذي يمثله الثائرون في الشارع ورأسها الذي يمثله السياسيون المعارضون المتنقلون من اجتماع إلى آخر ومن بلد إلى آخر سعيا وراء تحالف ما أن يتقدم خطوة حتى تصدر تصريحات جانبية ترجعه خطوات إلى الوراء.

4- العسكرة المتصاعدة للانتفاضة: بدأت الانتفاضة سلمية واستمرت سلمية ولا تزال في جلّها حتى اليوم، وهي في شهرها العاشر، سلمية ترفض العسكرة. غير أن شروطا موضوعية عديدة أثّرت عليها وجعلتها، على الرغم من مقاومتها لذلك، تتلطخ بصفة العسكرة وتبتعد عن صفة السلمية التي ما فتئت تدافع عنها.

فمن جهة دفعت المبالغة في استخدام العنف من قبل قوات الأمن والجيش بالكثير من العسكريين إلى رفض الانصياع إلى الأوامر الموجهة إليهم بإطلاق الرصاص على الناس فآثروا التمرّد على قادتهم وعصيان أوامرهم. وعلى الرغم من مقتل الكثيرين من هؤلاء بنيران رجال الأمن، أخذت حركة الانشقاقات من الجيش تتسع، وإن شملت في البداية بعض الأفراد والضباط فقط، فقد وصلت اليوم إلى بضعة آلاف وربما عشرات الآلاف. في البداية، نذر هؤلاء المتمردون أنفسهم لحماية المظاهرات السلمية بما حملوه معهم من أسلحة خفيفة لحظة تمردهم، لكنهم ما لبثوا أن نظّموا أنفسهم في جيش موازٍ للجيش الرسمي أطلقوا عليه اسم “الجيش السوري الحر”، وشرعوا يقومون بعمليات عسكرية نوعية ضد أهداف عسكرية وأمنية، تارةً بدافع الرد على هجوم وقع على منطقة، وتارةً بذريعة وقاية المواطنين من هجوم ماثل تحضّر له قوات متوجهة إلى منطقة.

من جهة أخرى، دفعت المبالغة باستخدام العنف من قبل قوات النظام بالعديد من المواطنين من ضحايا هذا العنف، ومن أهل الضحايا إلى التسلح ومواجهة تلك القوات، يدفعهم إلى ذلك حب الانتقام لنفسهم ولضحاياهم حينا، ومشروعية الدفاع عن النفس أحيانا.

تجدر الإشارة هنا إلى أن النظام قد اجتهد منذ اليوم الأول للانتفاضة لحرفها عن مسيرتها السلمية وعسكرتها. وكانت غايته من ذلك جر الانتفاضة إلى ميدان معركة تتحقق فيه للنظام الغلبة المؤكدة، لأنه الأقوى عسكريا عدة وعتادا وتنظيما. وكذلك اكتساب شرعية ممارسة العنف، في نظر الدول الأخرى، في سياق الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب. ولكي تتحقق له تلك الغاية لم يتردد النظام، ومنذ انطلاقة الانتفاضة، في تسليح سكان المناطق المحسوبة من بين المناطق الموالية له. وربما كان علينا أن نعير انتباهنا هنا إلى ما يتردد بين الناس من حكايات عن عمليات تهريب أسلحة من الدول المجاورة تتم تحت أعين، أو بتواطؤ، مسؤولين عسكريين أو مدنيين.

5- الفوضى الأمنية: يجري الكلام عن الفوضى الأمنية للإشارة إلى الحوادث التي تقع على هامش الانتفاضة ولا تنتمي إلى سياقاتها الطبيعية، حتى لو حاول الإعلام الرسمي أن يقحمها فيها لتشويه سمعتها وتأليب الناس ضدها. وربما كان صحيحا ما يتناقله الكثيرون من أن هذه الحوادث تتم بعلم الأمن وتخطيطه، نظرا لشدة قبضة الأمن السوري الأسطورية ولاستحالة القيام بأعمال من هذا القبيل دون معرفته، أو على الأقل من غير أن يغضّ طرفه عنها.

تأخذ هذه الحوادث صفتين رئيستين هما: الإرهاب والطائفية ، وتندرج في سياق الإرهاب عمليات تفجير المنشآت العامة كتفجير أنابيب نقل الغاز والبترول وتفجير سكة القطار الحديدية وتفجير الجسور وأيضا تفجير المباني الحكومية كما جرى في تفجير إدارة المخابرات في دمشق. أما في سياق الطائفية فتندرج كل عمليات الخطف المتبادل بين الطوائف وما يتبعها من جرائم ابتزاز واغتصاب وقتل. وقد ازدادت نسبة هذه العمليات إلى درجة مخيفة، وخاصة في المناطق ذات النسيج الثقافي المتداخل مثل حمص وريفها وريف حماة وريف اللاذقية…

انطلاقا من المعطيات الخمسة المذكورة أعلاه يطرح السؤال عن احتمالات حل الأزمة في سورية. ونعتقد أن هذه الاحتمالات تتموضع في ثلاث دوائر متراكبة، ومترابطة في الوقت نفسه هي، من الأضيق إلى الأوسع، الدائرة السورية، الدائرة العربية والدائرة الدولية. وتتمحور هذه الدوائر حول قضية مركزية يتفق الجميع حولها، بمن فيهم النظام ذاته، وهي أن سورية لا يمكن أن تعود إلى وضع مشابه لما قبل الانتفاضة، ما يعني أن التغيير حاصل لا محالة.

في الدائرة الأولى تبدو ، نظريا على الأقل، ثلاثة إمكانات لحل الأزمة:

الاحتمال الأول هو أن ينجح النظام في سياسته الأمنية ويتوصّل إلى خنق الانتفاضة ليتفرغ بعد ذلك إلى إصلاح نفسه، معتمدا على حزمة الإصلاحات التي تم إنجاز قوانين بعضٍ منها، بأمل استرجاع سلطته على البلد. لكن هذا الاحتمال الصوري لم يعد له أي بارقة أمل ليتحقق. فالنظام يفلس كلياً، ويفقد شرعيته على كل المستويات، ولعله ما كان ليبقى على صورته المتماسكة لولا قوته الأمنية والعسكرية الكاتمة للأنفاس.

الاحتمال الثاني هو أن تنجح الانتفاضة في إسقاط النظام. غير أن المنطق والتحليل لا يشجعان على تصوّر هذا النجاح اعتمادا على موازين القوى الحالية وحدها. لا بد لتحقق هذا الاحتمال من تدخل عنصر من خارجه، كأن يحدث انشقاق شاقولي في الجيش يجعل كفة القوة العسكرية تميل إلى صالح الانتفاضة، أو كأن يحدث انقلاب في قمة السلطة، وهذان أمران لا يوجد في الواقع ما يدفع إلى التنبؤ بحدوثهما؛ أو كأن تتدخل قوة خارجية عربية أو دولية، أو كأن تزداد الضغوط الخارجية لدرجة تؤدي إلى ضعضعة النظام وترنحه.

الاحتمال الثالث هو أن يتم الاتفاق على حل الأزمة عن طريق التفاوض بين قوى الانتفاضة من جهة والنظام من جهة أخرى. لكنّ النظام الذي يتغوّل في حله الأمني لا يبدي أي جِدية في الأمر ولا يسعى إلى التفاوض إلا مع مراياه. والثائرون على الأرض يرفضون رفضا قطعيا أي حوار مع النظام، أما المعارضة السياسية فهي منقسمة على نفسها بهذا الخصوص. وبالتالي لا يبدو أن لهذا الاحتمال الكثير من الحظوظ ليتحول إلى واقع.

يبدو واضحا إذن أن الحلول الوحيدة الممكنة على مستوى الدائرة الأولى هي تلك التي تستدعي تشارك عناصر من خارج هذه الدائرة، أي الانتقال إلى الدائرتين الثانية والثالثة. وهذا ما انعكس على أرض الواقع في تدخل القوى العربية والغربية.

في الدائرة الثانية تظهر جامعة الدول العربية اللاعب الوحيد القادر، نظريا، على التدخل لإيجاد حل للأزمة. لكن أعضاء الجامعة لا يجتمعون على رأي مشترك حول سورية، كما أن الجامعة كبنية وكآليات عمل أعجز من أن تحل أزمة بمستوى الأزمة القائمة، وبخاصة في بلد مثل سورية تتشابك خيوط الأزمة فيه إلى درجة تصعب معها الرؤية بوضوح. ومع ذلك قامت الجامعة بعمل لم يسبق لها أن قامت بمثله إذ فرضت عقوبات اقتصادية على سورية، كما أنها وضعت مبادرة للحل رفضها النظام ليقبل على مضض ببروتوكول خاص بإرسال مراقبين للتحقق من امتثال النظام لشروط الجامعة.

لكن النظام لم يتراجع عن سياسته الأمنية العنيفة حتى مع وجود المراقبين، بل وتحت أنظارهم. وعمّق من حربه الإعلامية على كل من لا يصفق له لتصبح غالبية الدول العربية أعضاء في المؤامرة الكونية المدبّرة ضده.

لقد بذلت الجامعة العربية أقصى ما بإمكانها من جهود لكي تجنب سورية تدخلا أجنبيا جديدا في العالم العربي، لكن تعنّت النظام أفشل، حتى الآن، جهودها تلك، وهذا ما أدّى عمليا إلى توّجه الأنظار نحو الدائرة الثالثة تلمّساً للحل.

في الدائرة الثالثة تتشابه الدول الغربية في موقفها “الراغب المتمنّع” في ما يخص التدخل المباشر. فمن تركيا المتأرجحة بين رغباتها القومية والإسلامية من جهة ومخاوفها من الأكراد والآليفي في الداخل ومن روسيا وإيران في الخارج، إلى أوروبا الغارقة في مشاكلها الاقتصادية وفي رعب التفتت الأوروبي، إلى الولايات المتحدة المثخنة بجراح فشل حلولها العسكرية في المنطقة … كلها لا تريد للتطورات الممكنة في سورية أن تحصل دون أن يكون لها فيها نصيب. لا تريد للأزمة أن تستمر درءا للفوضى الممكنة جدا في المنطقة، ولا تريد للاستقرار أن يعود، مع أي شكل يأخذه هذا الاستقرار، دون أن تحجز لها مكانا فيه. لكنها كلها أيضا تتمنى أن لو أن الاستقرار يحصل دون أن يتطلب منها ذلك “تضحية” ما. وهذا ما يدفع بهذه الدول نحو رمي الكرة في ملعب المحافل الدولية العاجزة، حتى الآن، عن التوصل إلى رأي جامع بخصوص أي شكل من أشكال التدخل غير العسكرية الذي باتت تنادي بها المظاهرات والجيش السوري الحر وأقسام من قوى المعارضة السياسية: حماية دولية، حظر جوي، ممرات آمنة… ناهيك عن التدخل العسكري الذي لا تريده رغم كل جعجعة الإعلام الرسمي بالمؤامرة الكونية الهادفة إلى ضرب سورية.

إنها دوّامة إذن، لكنها دوامة جاذبة نحو قاع العنف المتصاعد والمتمثل حتى الآن بشكل مصغّر من الحرب الأهلية، يمكن أن نسميه “الحرب الأهلية البؤرية”. ولإيقاف هذه الدوامة، لا يزال النظام قادرا على حل الأزمة إذا قبل بوقف القتل وسحب الجيش وإطلاق سراح السجناء ودعوة المعارضة (على أن تمثل الانتفاضة نواتها الأكبر) إلى التفاوض لنقل السلطة. وإن لم يفعل ستستمر حالة الاستعصاء الحالية وستتعاظم حالة “الحرب الأهلية البؤرية” مما سيستدعي بالضرورة تدخلا أجنبيا، أو أجنبيا تحت غطاء عربي، لن يجلب على البلاد سوى الخراب. لكن هل سيرضى النظام بفعل ذلك؟ يبدو للأسف أنه لن يفعل وأنه سيتابع خياره الشمشوني هادما المعبد على رأسه ورأس سورية.

دمشق 7- 1-2012

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى