صفحات العالم

الوعي الألفي كما ينقله خطباء الشام


حسام عيتاني

لم ينتصر الإنسان بعد على خوفه من المستقبل المجهول. لكنه ابتكر ما يهدئ روعه ويطمئنه. فالاستثناء الذي منحه الإنسان لنفسه بين المخلوقات يضعه في موقف حرج يفرض عليه اختراع نهايات استثنائية، هي الأخرى، له.

وظهرت منذ أزمان سحيقة في القدم الأدبيات القيامية أو «الألفية»، التي ترسم بكلمات الإنسان، المصير الذي يعتقد أن الإله أعده له. وهو مصير استثنائي يتلاءم مع الموقع الذي اختاره المخلوق لنفسه. وتعددت أسماء كتاب الأدبيات الألفية التي تعود إلى أصل يهودي سابق للمسيح ثم رافقت ظهور المسيحية، ومنها ما أدرج في «العهد الجديد» كرؤيا يوحنا المعروفة. ويمكن الحديث عن قياميات يهودية ومسيحية وإسلامية وزرادشتية (في المرحلة الوسيطة من تطور هذه الديانة).

الخطوط العريضة للأدب هذا تبدو موحدة: أمة أو جماعة دينية تعاني أزمة حادة لا تنفع معها العلاجات الأرضية وتتكالب عليها المصائب والخطوب ممثلة في أمراض وجوائح طبيعية أو غزوات من شعوب متوحشة كافرة لا تعرف الرحمة. وحكماً يكون مصدر الشر في «الآخر» وفي سيطرة الشيطان عليه. وفي أقصى الحالات، تكون الذات الخاطئة الآثمة قد استدعت الغضب الإلهي لقلة تقواها.

الأزمة الصادرة عن عناصر داخلية، لا يمكن الاعتراف بها في العقل «القيامي». فكل المصائب خارجية وحلولها النهائية خارجية أيضاً، لا تطال البنية التنظيمية (إذا جاز القول) للجماعة أو بنيتها الأيديولوجية – الدينية.

وغالباً ما يحصل لقاء ملحمي خرافي في اتساع أبعاده وعنفه وأعداد المشاركين فيه، بين قوى الخير (الجماعة المكلومة والمظلومة) وبين قوى الشر (الكائنات البشرية الأقرب الى الوحوش الكاسرة)، لينتصر الخير بعد لأي وامتناع. ولا يندر أن تبرز في هذه القصص ظواهر طبيعية أو فلكية تنذر بوقوع الكوارث أو أن تحضر الملائكة والشياطين وتشارك في القتال الذي ينتهي في العادة نهاية تليق بحدث له هذه الأبعاد. فيحلّ السلام في العالم أو تعيش الأمم عصراً ذهبياً من «ألف عام» (ومن هنا مصدر تسمية هذه الأدبيات). وتختتم البشرية وجودها بالعودة إلى خالقها. وبما اأن الوظيفة الدنيوية للقصص هذه من الأسباب الرئيسة لوضعها، يمكن أن يظهر القائد الديني – السياسي في المشاهد الأخيرة. فإحدى القصص البيزنطية تتحدث عن تسليم الإمبراطور البيزنطي تاجه على قمة جبل الهيكل في القدس إلى الذات الإلهية معلناً بذلك نهاية ملكوت الأرض وبداية ملكوت السماوات.

مهما يكن من تفاصيل هذه القصص وتطابقها أو تنافرها مع المسار العام للدين الذي وضعت في كنفه، فإنها تعبر عن همّ جمعي في مرحلة تاريخية تكون في العادة مكتظة بالصعوبات، كتلك التي واجهت المسيحيين الأوائل، أو أثناء أزمات الإمبراطورية الرومانية – البيزنطية، أو الخوف اليهودي من تكرار السبي البابلي، أو فترات الصراعات المذهبية والقومية بين شعوب وطوائف الدول العربية – الإسلامية. ويمكن الزعم بوجود تفسير تاريخي لظاهرة الأدبيات الألفية.

ما يعنينا هنا هو انتشار صنف مشتقّ من أدبيات الألفية، اليوم على ألسنة وبأقلام مؤيدي الحكم في سورية. وتتشارك هذه الأقاصيص أيضاً في عناصر عدة: مؤامرة انخرطت فيها دول كبرى استخدمت كل حيلها لتستميل من باع الصداقة والأخوة، لإسقاط نظام كل عيبه وقوفه مطالباً بكرامة شعبه أمام طواغيت العالم ومناطحاً قوى الشر لاستعادة الأرض المحتلة في الجولان وفلسطين. الأزمة الداخلية غير موجودة سوى في هامش القصة وفي صيغة موجزة على النحو الآتي «الإصلاحات التي أقرها السيد الرئيس كفيلة بإنهاء الظواهر السلبية».

الصياغات المتعددة للرواية الألفية – القيامية التي يروجها الحكم في سورية لا تنقصها عناصر تشويق وأبطال ملحميون ومؤامرات وخيانات وتحذيرات من امتلاك البطل قدرات شمشونية تهدم الهيكل عليه وعلى أعدائه. ولا يبخل المتحدثون باسم النظام في تكرار مقولتين يريدونهما حقيقتين: إن المؤامرة تتعلق وتتركز على الدور الخارجي لسورية، والمشاركون في تنفيذها في الداخل ليسوا أكثر من مرتزقة موزعين على «عصابات إرهابية». فما من شك عند هؤلاء في شرعية النظام أو في ممارساته أو في الوسائل التي يديم نفسه بها. مسألة الشرعية وبقاء النظام أو إصلاحه بما يتجاوز الخطط التي طرحها النظام لإصلاح نفسه، غير مقبول النقاش فيها.

المقولة الثانية إن الحكم السوري يبلغ من القوة ما لا يدركه أعداؤه وما سيفاجئهم عندما تقع الواقعة، عندها سيأخذهم أخذ عزيز منتقم. والجيش السوري قوي بما يتيح له فرض حظر جوي على البحر المتوسط إذا حاول أحد منع تحليق الطائرات الحربية السورية، وهو قادر على تغيير المعطيات «فوق الاستراتيجية» في العالم، من الصين إلى البحر الأحمر. غني عن البيان أن أحقر الدوافع هي التي تحرك خصوم الحكم في دمشق وأن التحالف المناوئ يضم كل شذاذ الآفاق والمجرمين الدوليين في حين أن النبل والشهامة والأخلاق الفروسية من نصيب أنصار الرئيس بشار الأسد دون غيرهم، وفق ما يعيد المتحدثون باسم الحكم.

وتصور كهذا للعالم الحديث ولكيفية بناء وتنفيذ السياسات فيه، ينم ليس فقط عن استغباء للمواطن السوري ثم العربي عبر تقديم قصة قيامية تشبه ما كان يتلى على مسامع الأطفال لتخويفهم قبل النوم، بل عن قصور في استقراء معطيات الواقع الموضوعي والاستدلال منها وبناء المواقف على أساس هذين الاستقراء والاستدلال. ومقابل الانتصارات الهائلة التي يعد أنفسهم بها خطباء الحكم في سورية، يتساءل المشاهد عن أسباب عجز النظام عن تسوية مشكلات بسيطة تنتمي انتماء ناجــــزاً إلى هذا العالم، كالفقر وبقاء الأرض محتـــلة منذ أكثـــر من أربعة عقود.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى