صفحات الرأيوائل السواح

انحطاط اليسار العربي

وائل السوّاح

ساهمت الثورة السورية في كشف عورة وعار البقايا المتهلهلة لما كان يوماً من الأيام يساراً عربياً متألقاً وتقدمياً وقائداً للتحركات الشعبية. لكن انحطاط اليسار لم يبدأ مع الثورة السورية، بدأ في الحقيقية قبلها بأكثر من مئة عام، عندما حول لينين النظرية الماركسية من نظرية مكافحة تقدمية متفاعلة ومتطورة إلى عقيدة منغلقة وأحادية وجبانة. بدأ الانحطاط إذاً مع “تطوير” لينين للماركسية بتحويله الثورة الاشتراكية من ثورة عالمية تبدأ في أكثر البلدان الرأسمالية تقدماً إلى ثورة في بلد واحد هو بلد لا يزال الإقطاع فيه مهيمناً ولم يتح للرأسمالية فيه أن تلعب دوراً قائداً، وبإضافته لفكرة التحالف بين العمال والفلاحين، وابتداعه نظرية الحزب باعتباره “جريدة ودزينة من الثوريين”.

واليوم، يتحول اليساريون العرب والسوريون أكثر فأكثر إلى منفعلين أكثر منهم فاعلين، فيبنون سياستهم كرد فعل على سياسة الغرب الإمبريالي وإسرائيل. كان هذا موقفهم من الثورات في تونس ومصر وليبيا وقبلها موقفهم من الحركة الخضراء في إيران صيف 2009 التي قامت لتقليص سلطة رجال الدين وإحقاق الحق للإيرانيين من النساء والرجال. فعندما بدأت الحركة الخضراء في إيران وقفت ضدها أطياف واسعة من اليسار الإيراني والعربي، فأدانت ثورة الحقوق المدنية مصنفة إياها كمؤامرة أمريكية (أو أميركية- سعودية) لـ “تفكيك الجمهورية الإسلامية واسترضاء إسرائيل وتمهيد الطريق لامبريالية الليبراليين الجدد”. وعبّر أحد اليساريين عن جوهر هذا الموقف بقوله: “أنا مع الثورات التي تغضب إسرائيل فقط، أما عندما تكون إسرائيل سعيدة بثورة ما فلن أكون سعيداً”.

هذا قلب لجوهر القضية، فبدل أن نحدد نحن هدفنا وطريقنا نترك للآخرين فعل ذلك، وعوضاً من أن يكون الهدف هو محاربة الطغيان وإحقاق الحقوق المدنية وإحلال مبدأ المساواة مكان مبدأ هيمنة الدكتاتورية الدينية أو العسكرية، ينحدر الهدف إلى مجرد اتخاذ المواقف التي تعاكس الموقف الأمريكي والغربي عموماً.

ولقد تكرر ذلك في الانتفاضات التونسية والمصرية والليبية بسبب المسألة نفسها، وتحول بذلك ديكتاتور دموي وتافه كمعمّر القذافي إلى بطل قومي، هتف باسمه اليساريون العرب كما هتفوا من قبل لطاغية العراق صدام حسين، وكما هتفوا من بعد لبشار الأسد. محامون وكتاب وفلاسفة لا يخجلون من رفع صوتهم هاتفين للطاغية. ثمة ههنا مشكلة.

وفي سوريا يرتكب اليساريون الخطأ المعيب والمهين نفسه عندما يدافعون عن نظام ديكتاتوري طائفي قمعي ودموي لأنه نظام “ممانع لإسرائيل، وعلماني، ومعاد للإمبريالية.” في الحقيقة هم يدافعون عن نظام هادن إسرائيل وحمى حدودها طوال أربعين عاماً، وحارب المقاومة الفلسطينية، ودمر المخيمات الفلسطينية في سوريا ولبنان، وحارب العلمانية ودعم تيارات إسلامية غير سياسية، لكنها غير متسامحة أيضاً، واحتضن سياسة نيو- ليبرالية في الاقتصاد عمقت الهوة بين الأغنياء والفقراء ودمرت الطبقة الوسطى وحاربت المنافسة وعززت الاحتكار، وأعادت سوريا من مكان كان مستوى الدخل الإجمالي القومي للفرد الواحد فيه أعلى من نظيره التركي ويكاد يلامس الدخل القومي للفرد في كوريا الجنوبية إلى المرتبة 111 في العالم (قبل اندلاع الانتفاضة).

ولا يتردد هذا اليسار في ازدراء الثورة السورية بحجة أنها تمرّد مسلح وثورة إسلامية متطرفة، إلا أننا لا نتذكر أن هذا اليسار قد وقف إلى جانب هذه الثورة في بدايتها عندما كانت ثورة سلمية ومدنية وديمقراطية، بل اختار عوضاً عن ذلك محاربتها منذ اليوم الأول. وينتقد اليسار الثورة السورية لأنها “طائفية”، إلا أنه يتجاهل كل المجزر الطائفية التي تقوم بها قوات النظام وميليشيا الشبيحة الطائفية الموالية له. ويغض الطرف – كأنه لا يرى – عن صور أطفال ونساء قتلوا من غير ذنب في قرية آمنة ذنبها أنها ليست مغرمة بعلمانية النظام. لكن هذا اليسار هو نفسه الذي لا يجد غضاضة في دعم حزب إسلامي مغرق في التطرف الإسلامي هو حزب الله بحجة أنه حزب ممانع، وهو نفسه الذي وقف قبل أربعة وثلاثين عاماً مؤيداً لاختطاف الخميني للثورة الإيرانية الديمقراطية التي حولها آيات الله إلى ثورة دينية ألغت الحريات المدنية وحجبت المرأة بالإكراه وسحقت الثوريين الديمقراطيين أو أجبرتهم على الرحيل خارج إيران.

لكن مهلاً! إن التعميم دائماً قاتل، ولذلك وجب تدارك ما سبق بالقول إننا نتحدث عن الجزء الأكبر من اليسار العربي، لكن ليس كل اليسار. فمن هذا اليسار من يشارك بقوة في الثورة السورية وفي رسم مستقبل أكثر مدنية وديموقراطية لها، ولا ننسَ قائداً يسارياً هو عبد العزيز الخير اختطفته أجهزة النظام قبل أشهر دون أن تعترف بوجوده لديها، ولا ننسَ مفكراً يسارياً متميزاً هو سلامة كيلة، شارك بالقول والفعل في الثورة السورية، واعتقل من قبل الأجهزة الأمنية وعُذِّب تعذيباً شديداً قبل أن يرحل خارج البلاد كونه فلسطينيا. ولا ننسَ المفكر اللبناني فواز طرابلسي الذي يدعم بصراحة الثورة السورية ليس في وجه النظام فحسب وإنما في وجه رفاقه اليساريين أيضاً. وأخيراً فإن صحافياً متوازناً مثل خالد صاغية لم يستطع إلا أن يترك وظيفته المهمة في جريدة “الأخبار” اليسارية بسبب موقف الجريدة الممالئ لنظام دمشق.

ليست الثورة خيراً مطلقاً. ولقد قلت في مكان آخر إن الثورة شرّ، لكن لا بد منه. وللتخفيف من جانبها الشرير ينبغي لكل الديموقراطيين والليبراليين واليساريين الانخراط فيها للعمل على ألا يختطفها المتطرفون كما فعل الخميني قبل ثلاثة عقود. وكلمت تأخر ذلك الدور بات مستقبل سوريا مهدداً بأن ينحو في اتجاه مظلم لا يبشر بخير.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى