صفحات الرأي

ان الاستبداد أصل بلاء العرب

 


كرم الحلو *

أدرك النهضويون العرب ما بين الحرية والتنمية من جدل واتصال، فرأى الكواكبي ان «الانسان يعيش في ظل العدالة والحرية نشيطاً على العمل بياض نهاره، وعلى الفكر سواد ليله. اما أسير الاستبداد، فيعيش خاملاً خامداً ضائع القصد، حائراً كيف يميت ساعاته ويدرج أيامه وأعوامه، كأنه حريص على بلوغ أجله ليستتر تحت التراب». لكن هذه الرؤية النهضوية المتقدمة تم القفز فوقها في الفكر والممارسة السياسيين العربيين على أساس ان التنمية ممكنة في غياب الحرية، وأن الديموقراطية ليست شرطاً للنهضة، وكانت النتيجة تعايش التخلف والاستبداد وتشديدهما القبضة على الواقع العربي.

وفي ظل الاستبداد ومع تفرد الحكام واستئثارهم وبطانتهم بالسلطة والنفوذ وفي غياب المساءلة والمحاسبة وتقدّم الولاء على الكفاءة والعوامل القرابية والشخصية على الصالح العمومي، تعاظم الفساد واستشرى. ففي تقرير منظمة الشفافية الدولية العام الماضي أن عدداً كبيراً من الدول العربية ينتمي الى قائمة الدول الأكثر فساداً في العالم، حيث احتل العراق والسودان وليبيا واليمن ولبنان وسورية والجزائر ومصر والمغرب مراتب متأخرة تراوحت بين 175 و 85 في سلّم الفساد العالمي الذي ضم 180 دولة. وقد أُهدر بفعل الفساد في نصف القرن الاخير ثلث الدخل القومي العربي الاجمالي او ما يعادل الألف بليون دولار. وفضلاً عن ذلك، أُنفق الثلث الثاني من الدخل القومي على عمليات التسلُّح غير المجدية التي امتصت ما بين 11 في المئة و 25.3 في المئة من الدخل القومي في العقد الاخير من القرن الماضي في بعض الاقطار الغنية.

وثمة تواصل وثيق كذلك بين الاستبداد والفقر، فالاستبداد جعل البشر طعمة للظالمين، على حد تعبير حسن حنفي، حتى باتت فئة قليلة تستأثر بملكية الاراضي والعقارات والثروات والجاه والنفوذ والسلطة والمكانة، بينما تعاني الغالبية الفقر بدرجات متفاوتة، حتى بدا النظام وكأنه «اقطاعيات ومراكز نفوذ موزعة بين الأقرباء والحاشية والزبائن الذين يستعملهم الحاكم في استراتيجيا عامة هدفها المحافظة على السلطة والامتيازات المرتبطة بها» وفق حليم بركات في «المجتمع العربي في القرن العشرين»، وفي ما ذكر عن ثروات بن علي ومبارك والقذافي وعائلاتهم في مقابل بؤس شعوبهم وعوزها أبلغ تعبير عن ذلك الاستبداد.

وتبعاً لهذا الاستبداد الاقتصادي والطبقي تفاقمت الفجوة بين الـ10 في المئة الافقر والـ10 في المئة الاغنى في العالم العربي وفق تقرير التنمية البشرية لعام 2006 الى 2.7 الى 30.6 في الاردن، 2.3 الى 31.5 في تونس، 2.8 الى 26.8 في الجزائر، 3.7 الى 29.5 في مصر، 2.6 الى 30.9 في المغرب، 3 الى 25.9 في اليمن. وتبين الدراسات ان مستوى الفقر قد ازداد في مصر والاردن بالترافق مع قوانين الطوارئ والقيود على الحريات وأن مجتمع التهميش تتسع دائرته في الجزائر بفعل البطالة، 14 مليون جزائري في حاجة الى مساعدة اجتماعية، وأن عدد المهمشين سيظل يزداد طالما ظلت ظروف التحكم والاستبداد على ما هي عليه.

هذه الجماهير المهمشة والمستبد بها تفقد تدريجاً حسها الوطني والسياسي وتنكفئ الى عصبوياتها القبلية والدينية، احتماءً بها، وتضمر تبعاً لذلك انتماءاتها الوطنية والقومية والانسانية. وعلى هذه الخلفية بالذات تنهض الاصوليات وتتقدَّم في ما يشبه الرد على الانظمة الأحادية والرافضة للآخر بسلاحها وأوالياتها نفسها.

ومن مآثر الاستبداد غير المحمودة في العالم العربي هجرة العلماء في مقابل تضاعف أعداد القوات الامنية بقصد حماية الانظمة ضد شعوبها، ففي حين تستقطب القوى الامنية ملايين العناصر، تبين الأرقام ان هجرة العلماء العرب في العقد الاخير من القرن الماضي، بلغت أضعاف مثيلتها في الصين والهند – 476 بالمليون في العالم العربي مقابل 86 في الصين و55 في الهند.

ومن هذه المآثر كذلك الاخلاق السائدة في ظل نظام الاستبداد العربي حيث يسود الخوف وانعدام الثقة بين الحاكمين والمحكومين وبين المحكومين انفسهم إذ يغلب الشك والازدواجية في المواقف، ويطغى التملق، ويتلطى الجميع وراء باطنية خبيثة مداراةً لأرواحهم ومصالحهم. وفي حال كهذا تسود الزئبقية في التفكير والانتماء، فالراغب في الارتقاء يجب ان يكون مستعداً على الدوام لتغيير مواقفه وآرائه تبعاً لمشيئة الحاكم، وأن يكون مطيعاً لتوجيهاته طاعة عمياء، ولو على حساب الحد الادنى من الكرامة والشرف والصدق مع الذات. فالنقد والمساءلة والنقاش من الخطوط الحمر في الانظمة الاستبدادية.

ويبقى الأثر الأسوأ للاستبداد في دفع الأقطار العربية نحو الانقسام والتجزئة، واستدعاء الاحتلالات الاجنبية لحماية المواطنين من بطش حكامهم المستبدين، وفي ما آلت اليه احوال العراق والسودان واليمن وليبيا، أمثلة ساطعة على ذلك.

هل ثمة مجال للشك بعد في أن الاستبداد أصل بلاء العرب وأن ثمة حاجة لكواكبي آخر يحلل طبائعه من جديد مطلع هذا القرن كما فعل الكواكبي مطلع القرن الماضي.

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى