صفحات العالم

بابا عمرو أعطى الأسد ما يريده


بعد سقوط بابا عمرو، تتخذ الأزمة السورية بعداً جديداً تختلط فيه النتائج العسكرية بالجهود السياسية، بغية استكمال انتصار أمني لنظام الرئيس بشّار الأسد بمكسب سياسي يمهّد للحوار الداخلي على الإصلاحات. ليس الأمر كذلك بالنسبة إلى المعارضة، بعد ليّ ذراعها العسكرية

نقولا ناصيف

وضعت سيطرة نظام الرئيس بشّار الأسد على حيّ بابا عمرو في حمص وقائع جديدة في النزاع الدموي الدائر بينه وبين المعارضتين المسلحة والسلمية، وبينه وبين العرب والغرب المنادين بتنحّيه. وقد يكون أبرز الخاسرين من سقوط بابا عمرو ثلاثة ليس بينهم المجلس الوطني السوري في أيّ حال، هم المعارضة المسلحة والسعودية وقطر، إذا كان لا بد من الأخذ في الاعتبار المسافة التي اتخذتها واشنطن في الأسبوعين الأخيرين من الحدث السوري، وصحّت فيها ـــــ ربّما ـــــ المعادلة اللبنانية المبتكرة، وهي النأي بالنفس، ما خلا التنديد بالعنف والإلحاح على وقف النار وتوفير المساعدة الإنسانية والإصرار على أن أيام نظام الأسد معدودة.

وتكمن الوقائع الجديدة، المكمّلة لسقوط بابا عمرو، في الآتي:

1 ــ استفادة الأسد من الإخفاق الذي طبع المؤتمر الدولي لأصدقاء سوريا في تونس، وتعذّر اتفاق المشاركين فيه على خطوات إجرائية فعلية مؤلمة للنظام، واكتفاء المؤتمر بتضامن قليل الفاعلية، لم يتعدَّ التنديد بالعنف والتمسّك بالمبادرة العربية وحضّ مجلس الأمن على انعقاد لن يحصل، وإضفاء نصف اعتراف على المجلس الوطني السوري. خرجت الرياض منه ممتعضة وغير راضية، وواشنطن متحفظة عن تسليح المعارضة. وكلتاهما تقود العرب والغرب في معركة إطاحة الأسد.

أضاف هذا الإخفاق أسباباً جديدة إلى الأسد كي يمضي في حسم أمني للمعارضة المسلحة بلا تردّد، متجاهلاً مؤتمر تونس، بعدما رفض نتائجه. إثر فشل الجامعة العربية ومجلس الأمن ومؤتمر تونس، أصبحت الأرض وحدها قادرة على فرض الأمر الواقع الجديد للخاسر والرابح في آن واحد.

2 ــ التشكيك المتلاحق في المعارضة السورية ولافتة المجلس الوطني، ومدى الوثوق بخوضها معركة إطاحة الأسد. بعد التحفّظ عن تسليحها، أحاطها الأميركيون، في الاستخبارات والجيش والخارجية في سلسلة مواقف متتالية في الأيام الأخيرة، بكثير من الريبة في هوية هذه المعارضة، ومقدار تورّطها في التعاون مع تنظيم «القاعدة» والخشية من انتقال أيّ تسليح لها إلى التنظيم المتطرّف، كما إلى تيّارات سلفية نشطة داخل سوريا، تشارك في الحرب على نظام الأسد.

أطلقت هذه الريبة يد الرئيس السوري في مباشرة تصفية الشقّ العسكري في المعارضة، وقد بات يلتقي مع الأميركيين على تشخيص عدو واحد داخل سوريا هو الأكثر تأثيراً في الأحداث، والأكثر خطراً على مستقبلها: «القاعدة».

3 ــ أبرزت سيطرة الأسد على بابا عمرو صحّة الأدلة التي حاول النظام، طوال الأشهر الماضية، تأكيد عدم الرهان على إسقاط الرئيس ببثّ الفوضى، وتعليق الآمال على انهيار الجيش السوري، أو في أحسن الأحوال انقلابه عليه، والاعتقاد بأن مهاجمته مدناً وقرى سنّية تعجّل في تفكيكه بتسّرب النزعات المذهبية إلى صفوفه على طريقة الانشقاقات التي شهدها منذ أيلول. بيد أنه هاجم عواصم الإخوان المسلمين والتيّارات السلفية بعنف، وقوّضها واستولى عليها وأعادها إلى النظام، كدرعا وجسر الشغور وحماه وحمص. لم ينهر الجيش وهو يقصف مدناً سنّية، وإن فرّ منه عسكريون.

4 ــ لا يصلح أيّ من الحلّين الليبي أو اليمني للنموذج السوري. لا التدخّل العسكري من الخارج، ولا فرض تسوية على الرئيس بإرغامه على التخلي عن كل صلاحياته والخروج من معادلة التسوية هذه. ومع أن كلاً من الحلين الليبي واليمني لم يوفر تماماً ـــــ وبعد ـــــ التسوية لهذين البلدين، مكتفيين بإقصاء الرئيس بالقوة أو طوعاً، إلا أن للنموذج السوري حلاً سورياً يستمده من طبيعة الصراع وقواه، وموقع الدولة وولاء جيشها، والدور الإقليمي لسوريا في منطقة تجعل من هذا البلد ـــــ لا من النظام بالتأكيد ـــــ مفتاح العقد الذي تنبى عليه القنطرة اللبنانية.

ولأن الأمر كذلك تعذّرت، إلى الآن على الأقل، إطاحة الأسد من الداخل وتسليح المعارضة والاعتراف بالمجلس الوطني والتدخّل العسكري والرهان على انقلاب الجيش على رئيسه.

5 ــ حسم الجيش في بابا عمرو المعقل الرئيسي للإخوان المسلمين والتيّارات السلفية المناوئة للنظام، بعدما تنقّلت المواجهة بينهما بين درعا وجسر الشغور وحماه والزبداني وصولاً إلى حمص. كانت المعركة الأخيرة الأقسى باعتمادها القضم البطيء الذي مكّن الجيش من ابتلاع أجزاء الحيّ وتدمير بنى المسلحين ووجودهم تماماً في كل مرحلة تجاوزها. لا يعود الأمر سهلاً بعد اكتشاف نفق يربط بابا عمرو بالحدود السورية ـــــ اللبنانية في الشمال بطول ثلاثة كيلومترات كانت الأسلحة تُهرّب منه.

6 ــ تشير سيطرة الجيش على بابا عمرو إلى تقويض ثاني محاولة لفرض أمر واقع على النظام، هي اقتطاع جزء من البلاد وإخراجه من سلطته. كانت المحاولة الأولى في الأشهر الأولى من الاضطرابات، عندما تفاقم التصعيد في درعا، ثم انتقل إلى جسر الشغور، سعياً إلى إقامة منطقة حدودية عازلة تحظى بحماية الجيش الأردني في درعا، والجيش التركي في جسر الشغور، تمثل قاعدة تجمّع المعارضة المسلحة، لتنطلق من خلالها معركة تقويض سلطة الأسد وهدم نظامه بالقوة والتفتيت، والغطاء الخارجي ببعديه المجاور والدولي.

كلتا المحاولتين سقطت. خرج الأردن باكراً من دعم المعارضة عند حدوده، بعدما وفّر لدرعا كمّاً كبيراً من المعلومات والأسلحة والمسلحين، ثم ارتأى البقاء في منأى عمّا يجري على حدوده تفادياً لانتقاله إلى الداخل. بدورها أنقرة قادت لأشهر معركة إسقاط الأسد، مرة باستضافتها الانشقاق وإقامة مخيّمات اللاجئين والفارّين، وأخرى بتخويفها النظام بدعم منطقة عازلة والقول من فوق السطوح إنها لن تقف متفرّجة على ما يجري، قبل أن يحوّل رئيس الوزراء رجب طيّب أردوغان الخلاف مع الأسد ثأراً شخصياً. في الشهرين الأخيرين خفتَ التهديد التركي دون التخلي عن تنديده بالنظام، فانهار الرهان على منطقة عازلة في ريف إدلب. كانت ثمّة محاولة صغيرة وهزيلة لم تطل في تلكخ، المتاخمة للحدود مع شمال لبنان.

كانت المحاولة الثانية في الانتقال تدريجاً من المنطقة العازلة الحدودية إلى المنطقة العازلة المقفلة في وسط البلاد، قد عبّرت عنها المعارضة المسلحة بالسيطرة على حماه، ثم محاولة السيطرة على الزبداني لمحاصرة العاصمة وقطع طريق دمشق ـــــ بيروت والاستيلاء على المطار نافذة على الخارج، والوصول إلى خط إمداد جردي في السلسلة الشرقية للبنان عبر البقاع، وعرسال خصوصاً.

أخفقت الخطة مجدّداً. استعاد الجيش السيطرة على حماه، الرمز القديم لثأر لم ينطفئ بين الإخوان المسلمين والنظام، ثم على الزبداني. فأضحت حمص مدخلاً إلى تكرار المحاولة بتحوّلها، انطلاقاً من بابا عمرو، منطقة عازلة مقفلة في منطقة بالغة الحيوية والدقة، في وسط سوريا، تقود إلى الحدود اللبنانية ووادي خالد. بعد سقوط بابا عمرو قُطع تماماً شريان الاتصال بالشمال اللبناني، البوابة الفسيحة لتهريب مسلحين وأسلحة إلى المعارضة المسلحة في سوريا.

7 ــ يفتح سقوط بابا عمرو الباب على مرحلة جديدة، في نزاع لن يفتقر بالتأكيد إلى المواجهة الدامية والكمائن والاشتباكات بين بلدة وأخرى، ولن يحجب كذلك السلاح الأكثر إيلاماً وهو الاغتيالات والتفجيرات، بل يمنح سقوط هذا الحيّ الرئيس السوري فرصة كي يثبّت قواعد جديدة في الصراع: لا حوار بين السلطة والمعارضة إلا تحت سقف النظام، وفي ظلّ الرئيس، ومن خلال الدستور الجديد الذي أقرّه الاستفتاء أخيراً.

قاعدة كهذه لم يتردّد الغرب والعرب في رفضها قبل أشهر، وتشبّثت بها روسيا والصين. إلا أن استعادة الجيش السلطة على معقل رئيسي للمعارضة المسلحة، كان قد مثّل رمزاً قوياً للقول للأسد إنه يوشك على أن يفقد السيطرة على بلاده، تعيد الجدل إلى بداياته تحت وطأة ميزان قوى جديد، وعودة كل حمص إلى سلطة الرئيس السوري.

الأحبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى