صفحات الثقافةفاديا لاذقاني

بال الغريب/ مزمور الناجي


فادية لاذقاني

إلى، ندى منزلجي. ‘لماذا تكتئبين يانفسي؟ لماذا تئنين داخلي؟’ ‘اغسلني جيداً من اسمي/ أنا عالمٌ بمعاصيّ/ وخطيئتي أمامي كل حين’ – صلاتان، المزامير.

منذ سنوات، قال لي صديق ‘منطقيّ جدّاً’ : في زيارتي كلها لم أجد أحداً منكم، حتى المرتاحين مادياً، مبسوطا في الغربة. كفاكم عيشاً في الماضي مادمتم اخترتم العيش هنا. ‘

قلتُ له : أما عرفتَ متلازمة الناجي؟

الغريب مسافرٌ وصل. المسافر لا وصولَ له!

الويل لبالك من برزخه المعلق بين هلاكَين. قال بال المسافر لباله.

الويل لروحك من استحالة فطور الوالدة وعطر بتلات فللها تحت وسائد النوم. قال بالُ الغريب لباله.

لا اصطفاف الزهور الأنيق لك هنا، وما أنت ببالغ نارنج باحة الدار ورحيق ليمون الحقول هناك. أنشد مزمور الناجي لنزف قلبه.

قبل أطفال درعا. كنت ملعوناً مرةً.

بلا إنذار، بل ربما في أكثر المناسبات عيداً و ‘سعادة’، تنزل على أذنك الأغاني، وعلى رئتيك الورد الجوري. تنفتح أسفار كتاب ‘النوفرة’ و الحارات العتيقة وبردى. تخاف اختناقَك و تبحث لك عن مراتع الأم تقيكه و الدّوار. لا تجد ثمة من ‘يدثرك’ ولا من ‘يزمّلك’.

تقول لك الأنهار : ‘ لن يهدأ بالُ بالك أيها المسافر. لا ضفاف لمستقرّك. في مركبك فقدت البوصلة. وبك حلت لعنة الانطراد والتشرد’.

تقولُ لك الشوارع الأنيقة والأبنية المنظمة والمكتبات والجنائن والمسارح وصالات الموسيقى : هات لي ذكرى طفولة واحدة في هذه الزوايا. في ‘شرق’ ولادتك ناغيتَ وضحكت صغيراً. فما بالك معتصر الروح تتراكم أيامك في المسافات الجديدة؟ أتراك لا تعرف في أية أرض ستدفن؟

ما لدمعك المالح يهطل وراء مقود سيارتك في طرقات السفر السريعة؟ تهزأ منك مسّاحات الزجاج، فليس ثمة إلا غلالة الدروب، وخطر الامّحاء. تتساءل أياماً عن سرّ بكائك الغزير ‘من دون سبب’. تكتشف بعد مدةٍ أن ذلك كان فترة حصولك على جنسية بلد التبني!

ما لحرقة القلب ورجفة اليد وتعثر خطوك، إذ تضع مظروفك في صندوق الاقتراع؟ وتدقيقك كطفلٍ وجلٍ في أول حبوه، خشية الخطأ في مراسٍ لم تتعلمه هناك؟ ثم مرارةٌ تصّاعدُ من أعمقك إمّا تتهادى وجوه من يحلمون بفعل ذلك في ‘جناين الورد’، ‘باب توما’ و’سوق الجمعة’؟

المنهال من عينيك دمٌ حارقٌ/ لا شفيعاً تجد، ولا مجدَ لحياتك /

تميزك اللوعة المقيمة /

وخزانة حكمتك فارغة.

‘لماذا تكتئبين يانفسي؟ لماذا تئنّين داخلي’.

… ثم كان أطفال درعا وورود غياث. صرتَ ملعوناً ألف مرة.

لم يعد لك سوى المجزرة.

يتضاحك، آخرَ جملته الهاتفية، ابن أخيك الصغير ‘رح نرجع لبيتنا.. إذا ماتهدم’. ويضحك، ويضحك. فلا تعرف بماذا يمكن أن تحسّ، ولا ماذا تقول، ولا ماذا تكتب.

أنت لم تمت. أنت لست تحت القصف. أنت لست بين شعبك الأول. لا يغفر لك سُهادك وأمراض جسمك وانقسامات ذاتك في برزخ اللازمان واللامكان. يسخر من عذابك المزعوم بعض الأصدقاء الذين ما غادروا ‘هناك’. يرفضون لروحك بطاقة الانتساب إلى جحيمهم العاديّ، و’تدخلك’ في شؤون البلد مادمت تتكلم مع أولادك أحياناً لغة البلد الذي رأوا نور الحياة فيه.

في مكان عملك تذهب كآلة. تتظاهر بالنظر إلى زملائك، وبصرك وسمعك ساجيان بما سمعتَه وشهدتَه، الليلة الفائتة، عن بيت أمك الذي صار ركاماً. وعن منصور يهرع تحت القنص لتفقد ريتا فلا يعود ولا تعود. مغزوّ أنت بالهشيم من فوقك ومن تحتك، من أمامك ومن خلفك،. يحدق فيك زملاء العمل متسائلين فتتكلم معهم لغتهم ولغة تبنيّك، التي لم تهدهدك بها من ولدتك. و تنتبه ألا يزلّ لسانك فينطق كلمات حريق قماطات ولادتك، و قد يفعل أحياناً.

‘لماذا تكتئبين يا نفسي؟ لماذا تئنّين داخلي’.

من درسٍ عمليّ في الطب النفسي :

قال لنا الأستاذ الكبير: نسميها ‘ متلازمة الناجي’. عُزلت هذه المتلازمة ودُرِست عيادياً منذ الحربين، ولعلّي بها موجودة منذ الأزل. هذا حال الذين نجوا من الحرب. ما أشقّ شعور الناجي من أهوالها، يرى رفاقه يغادرون من كل حدب وصوب. مثله كمثل الناجي من زلزالٍ عصف بأقربائه وأحبائه واستغنى عن أخذه هو. فلكأنه يعيش على حساب موتهم!. نجا جسمه العضوي وغرق منه جسم الحب والحياة والمشاعر في طوفان الخراب. ينطق بها أعراضاً صباح مساء. فما يبرح ينشد موته، عارفاً أو غير عارف، تختلف الأشكال كل حسب وسائله وحيل نفسه. ‘ لماذا يا موت أخذتهم ولفظتني؟’ قد نجد صغير هذه المتلازمة بكل بساطة عند مريض قلبٍ نجا بفضل زرع قلب آخر له. وعند المهاجرين الذين يتركون أسرهم في الفقر ويأتون لبلاد ‘الراحة والهناء والمال’. ‘الناجي’ يجب عليه النضال كل يوم كي يحيا!

كانت المريضة لاجئةً سياسيةً من أميركا اللاتينية. لها وضعٌ مرموق في فرنسا. هذه ثالث محاولة للانتحار تنجو منها بسبق الحياة على الموت بقدر شعرة. كانت تأتي لمواعيدها قائلةً إنها لا تعرف لم تأتي. أتت ستة مواعيد. في المرة السابعة. كان إله ‘الناجي’ نائماً، فغافلَته وصعدت إلى السماء.

كاتبة من سورية

2 آب 2012

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى