صفحات سورية

بانوراما: سوريا اليوم

 

وجيهة مهنا *

يبدو المشهد السوري موحشاً: في بلد لا يتجاوز تعداد سكانه 23 مليون نسمة، هناك أكثر من 70 ألف ضحية، بمعدل خمسة قتلى في كل ساعة، و17 ألف أرملة، و40 ألف طفل يتيم، وما يقارب 200 ألف معتقل يتعرضون لصنوف مرعبة من التعذيب اليومي، ومليون لاجئ في دول الجوار، ثلاثة أرباعهم نساء وأطفال، بمعدل نزيف وصل في الشهور الأخيرة إلى 40 ألف شخص اسبوعياً، ومليوني نازح داخلي، وأربعة ملايين شخص يحتاجون إلى المساعدات الطبية والغذائية العاجلة، وعشرات المدن الصغيرة شبه المدمرة والخالية من سكانها، وأجزاء كبرى من المدن المليونية صارت ركاماً، وأكثر من 3 ملايين مبنى مدمر، واحدة من أصل كل خمس مدارس مدمرة جزئياً أو كلياً أو يقطنها نازحون، خسائر عظمى في البنية التحتية، في محطات توليد الطاقة وشبكات الطرق والمواصلات، مطار دمشق الدولي شبه مغلق ومطار حلب يشهد معارك يومية.

خريطة انحسار سيطرة السلطة

مع كل ذلك، تخرج من تحت سيطرة السلطة السورية مساحات متزايدة من الأرض، وتقتصر مساحات نفوذها على قلب المدن الكبرى التي يتركز فيها وجودها الأمني والعسكري. حيث أفلت من سيطرتها معظم ريف حلب و60 في المئة من المدينة، ومعظم ريف إدلب، وأرياف دير الزور ودرعا وحماه والقنيطرة، وريف دمشق الشرقي، وجزء كبير من ريفها الغربي، وريف حمص الشرقي، ومحافظة الرقة بالكامل. وتبقى السيطرة نسبية في بقية المناطق، حيث أن اتفاقاً مع القوى الكردية سمح لقوات النظام بالانسحاب من محافظة الحسكة، وإعطائها نوعاً خاصاً من الإدارة الذاتية. وتخرج مناطق واسعة من ريف اللاذقية الشمالي ليلاً من تحت سيطرتها. والحواجز العسكرية والأمنية، وحواجز اللجان الشعبية هي التعبير الفعلي عن مناطق نفوذها، وحدودها، هي ما يرسم خريطة وجودها متزايدة الضيق. ويبقى الحضور الفعلي للنظام ومؤسسات الدولة الرسمية قائماً في محافظات اللاذقية وطرطوس ودمشق والحسكة والسويداء، وأجزاء من مدينة حمص وريفها الغربي، وأجزاء من حماة وريفها الشمالي الغربي، ومدينة درعا، ومدينة دير الزور، وبضعة أحياء في مدينة حلب.

ضمور الولاء

خسارة القاعدة الاجتماعية للنظام تتناسب مع خسارته على الأرض، بل تتجاوزها. إذ أنه، وباستثناء مناطق الولاء الطائفي الصافية للسلطة في اللاذقية وطرطوس، فإنه يمكن رصد الاهتراء البيّن في شعبية النظام ، وهو اهتراء يطال مناطق نفوذه السابقة، ومظهره استمرار الحراك الاحتجاجي السلمي المقاوم وتصاعده، وخاصة على أثر الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها البلاد. كما أن فداحة الخسائر التي يدفعها جمهور السلطة في دفاعه عنها، بدأ يلقي بظلاله على ولائه لها، إذ تنتشر حالات الفرار من الجيش في صفوف من يُعتقد أنهم من داعميه، ويتعمد الأهالي إخفاء أبنائهم، ودفْعهم إلى مغادرة البلاد لتجنب التجنيد الاحتياطي. وعلى سبيل المثال، لم تتجاوز نسبة الملتحقين طوعاً من المطلوبين إلى خدمة العلم في الجيش والقوات المسلحة 3 في المئة في محافظة السويداء، الاكثر هدوءاً من بين سائر المحافظات السورية، وتحفظاً، والتي يفترض أن ولاءها بشكل عام هو للنظام. كما أن تحلل السلطات من مهامها في متابعة آلاف القضايا، من الخطف والقتل وطلب الفدية من صفوف المؤيدين، وفي بعض الأحيان تورطها المباشر في تلك الاعمال (أي أن هناك عصابات من داخل صفوف قوى السلطة ترتكب هذه الاعمال مستهدفة اشخاصاً من معسكرها)، يقنع المزيد من الناس، ممن يعيشون هذه التجارب ومحيطهم الاجتماعي لا بعدم قدرة النظام على الاستمرار في حمايتهم، بل تعيشه على مصائبهم.

.. والكارثة الاقتصادية

وبحسب أرقام «المركز السوري لبحوث السياسات»، انخفض الرصيد الاحتياطي للعملات الأجنبية من 18 مليار دولار قبل الثورة إلى ملياري دولار في نهاية العام الماضي. وقدرت خسائر الاقتصاد السوري بسبب الأزمة حتى نهاية 2012 بنحو 48,4 مليار دولار أميركي بالأسعار الجارية، وهو ما يعادل 81,7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لسوريا العام 2010، وأن إجمالي الخسارة يتوزع على 50 في المئة خسارة في الناتج المحلي الاجمالي و43 في المئة أضرار في مخزون رأس المال و9 في المئة زيادة في الإنفاق العسكري المسجل رسمياً في موازنتي 2011ـ2013، في حين تغيب القيم الحقيقية للإنفاق العسكري المتخِذ شكل معونات مقدمة بشكل أساسي من إيران. وكان الجزء الأكبر من الخسارة في قطاع التجارة الداخلية والنقل والاتصالات والصناعات التحويلية والاستخراجية وهي تشكل 83 في المئة من الخسارة الكلية. كما أشار «البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة» الى أن 12 في المئة من السوريين يعيشون تحت الخط الأدنى للفقر، وأن ما يقارب ثلث السوريين يعيشون تحت الخط الأعلى للفقر، مع تركيز اكبر للفقر في المناطق الريفية، ورجح البرنامج دخول نحو ثلاثة ملايين سوري جديد دائرة الفقر، وأن 1,5 مليون منهم سيكونون تحت خط الفقر الشديد. ويقدر بأن نصف مليون موظف قد خسروا وظائفهم، نتيجة النزوح والهجرة، وبلغ عدد العمال المسرحين من القطاعين العام والخاص قرابة 170 ألف عامل.

الحصيلة العسكرية

عسكرياً يبدو النظام منكفئاً في طور دفاعي، تتحول فيه كل مزاعم الحسم العسكري التي يسوقها إلى حصار مديد لجيوب يتحصن فيها الثوار، أو مُحَاصراً بدوره في مواقع عسكرية متقدمة، يحاول عبر الكثافة النيرانية الجوية كسر الحصار عليها، وتغطية عجز خطوط امداده إليها. ويبدو أن الطور الجديد لعسكرة الثورة السورية يدخل مرحلة الدفاع عن الوجود، إذ إن معظم المناطق المنتفضة أحالها النظام ركاماً، نتيجة استخدامه على مدى السنة ونصف الماضية جميع صنوف نيران الأسلحة المتوافرة لديه، بما فيها صواريخ باليستية من نوع سكود. وهو يعمد إلى ذلك بعد عجزه عن استعادة أي موقع يخسره، مطبقاً سياسة الأرض المحروقة.

حرب اهلية أم ثورة؟

في أيلول/ سبتمبر 2012 أظهرت خدمة «اتجاهات غـــوغـل» (google trends) ارتفــاع نســبة البحــث للمستخدمين في شبكة الانترنت عن «الحرب الأهلية السورية» إلى ثلاثة أضعاف البحث عن «الثورة السورية». ويعتبر هذا مؤشراً قليل الدقة. إلا أنه ومع ارتفاع حدة الصراع واستخدام السلاح فإن انطباعاً عاماً يوحي بانقلاب الثورة إلى حرب أهلية أو طائفية. وتكتسب هذه النظرة أسانيدها الواقعية من تركيبة قوات النخبة المقاتلة في الجيش السوري وأجهزة الأمن، وهي تركيبة شبه صافية طائفياً لصالح أبناء الطائفة العلوية وهم أقلية في سورية يقدر عددهم بـ13 في المئة من تعداد السكان، في حين يشكل السنة الكتلة الكبرى من المنتفضين، وهم الأكثرية الطائفية بنسبة تصل إلى 68 في المئة. ويسود اليوم في الطرفين خطاب طائفي محقون، يستمد دلالته من هوية دون ـ وطنية، ضد الآخر المختلف طائفياً، وهي صارت تنذر بنتائج سلبية على وحدة وسلامة أراضي البلاد، في ظل تعنت السلطة التي يبدو أنها تطبق حقاً شعار «الأسد أو نحرق البلد». من جهة الثورة، بدأ يتراخى تلازم شَرطَي اسقاط النظام وبناء دولة الحقوق والديمقراطية، حيث أن انزياح الثورة باتجاه الحرب الأهلية، وتكاثر المؤامرات والتدخلات الدولية، وانتشار العنف والانقسام والتحريض في المجتمع، جعل من الصعوبة بمكان تخيل القادم.

الاسلاميون

لكن، ومهما تعددت القراءات، فهناك إجماع واضح على غلبة الإسلاميين في أي صيغة حكم قادمة. وفي الواقع الراهن فإنهم ينقسمون إلى تيار عريض خارجي، من بقايا كتلة الإخوان المسلمين التاريخية، تشكل غالبية سياسية في المجلس الوطني، ولكنها ضعيفة التأثير التنظيمي في الداخل، نتيجة سنوات الملاحقة والاجتثاث منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي. يملك الاخوان قنوات مالية هامة، يمولون من خلالها كتائب وفصائل مسلحة تنضوي تحت راية الجيش الحر والمجالس العسكرية. وهناك في المقابل تيار إسلامي سلفي متصاعد، ينحو باتجاه السلفية الجهادية، وتشكل «جبهة النصرة» عموده الفقري، يشاركها في ذلك «غرباء الشام» وإن كانت تلك جماعة غير تابعة تنظيمياً للقاعدة. تعاني هذه الكتل من ضعف سياسي ذاتي ومن توجس شعبي عام تجاهها، إلا أن جمهورها شديد التنظيم والتسليح، وكثير من مقاتلي النصرة هم من غير السوريين، ويعملون بالتوازي مع الجيش الحر، دون اختلاط بينهم، وأحياناً دون تعاون. كما يبدو بأنه لا توجد فروق جدية في الخطاب بين الجماعات المقاتلة من المجاهدين، فأدبيات لواء التوحيد مقاربة لجبهة النصرة، وللجيش الإسلامي الحر. وغير بعيد عن الفصائل الإسلامية المقاتلة، تظهر كتائب وألوية منضوية تحت راية المجالس العسكرية والعسكرية الثورية ، وهي غير معنية بحالة التأسلم العقائدي، وتحمل مشروع نواة جيش وطني.

اعادة اكتشاف السياسة

انقسم النشطاء في مناطق الصراع المسلح إزاء معضلة تراجع العمل السلمي لصالح الممارسة العنفية، وذهب بعضهم إلى حمل السلاح، وهناك من ذهب باتجاه العمل الإغاثي ـ الإنساني ـ السياسي. ويظهر المزاج العام تفهماً شعبياً للطور المسلح، ويحاول استمالته بالنقد والمعارضة والتحريض، وابقائه في حيز الثورة ضد الحرب الأهلية، وتقوم بذلك تنسيقيات الثورة، والمجموعات الشبابية الناشئة والناشطة في مجال حقوق الإنسان والعمل المدني، وشبكات العمل الإغاثي، ونوى الأحزاب السياسية المتشكلة حديثاً وكوادر الأحزاب القديمة، وهم باتوا يحرزون حيث أمكن إنجازات مهمة، تبدأ بالمجالس المحلية ولا تنتهي بالمشافي الميدانية. هذا الفضاء العام بدأ بالظهور بعد افلات مناطق واسعة من سطوة السلطة، بحيث يكتشف الناشطون المدنيون مجالات خصبة للعمل الجماعي، بعد أن كان حكراً على سلطة حرمت المجتمع السوري من ممارسة السياسة.

معادلة «الشرعية مقابل التمويل»

شكلت قضية التمويل الخارجي مصدر إرباك وتشويش على الحراك الثوري السوري، وعامل تنافس وتناحر، وسعت بعض القوى الخارجية إلى تمكين شرعيتها عبر منافذ تمويل لقطاعات مدنية أو عسكرية في الداخل: الشرعية مقابل التمويل، بغض النظر عن الإيديولوجية أو البناء التنظيمي للجهة المانحة، في ظل غياب كامل للشفافية والمصداقية. وقد وقع العديد من التنسيقيات والفصائل المقاتلة ولجان الإغاثة الداخلية في حبائل هذه المعضلة.

تضامن شبه المنكوبين مع المنكوبين

لا يُحسَد السوريون على أوضاعهم اليوم، فهم بين قتيل وشريد وجريح ومعتقل، يتدبرون أمور حياتهم بصعوبة بالغة، في ظروف شديدة الاستثنائية، وهم يجترحون معجزات في البقاء والمقاومة، يستندون إلى حالة مذهلة من التضامن الاجتماعي، حيث تأتي معظم المعونات الإغاثية من الداخل، من مناطق شبه منكوبة إلى أخرى منكوبة. وهم عرضة للأمراض الوبائية بعد أن غابت الخدمات الصحية عنهم، وتراكمت القمامة، وتدمرت شبكات الصرف الصحي، ويعانون انقطاعات كبرى في التيار الكهربائي ووسائل الاتصال، هذا ناهيك عن الحرب اليومية وما يتعرضون له من صنوف القصف والموت والمذابح الجماعية.

تبدو الظروف أكثر ضيقاً في الداخل، وخصوصاً في المناطق المحاصرة منذ شهور طويلة، كحمص القديمة، وداريا، اللتين تشهدان حالات صمود اسطوري، ومقاومة يومية للاجتياح العسكري من قبل قوات النظام. ويحكى بأن مسؤولين أمنيين نقلوا إلى الرئيس الأسد بأن داريا تشكل عقبة لا تُحل أمام الجيش النظامي، فأشار عليهم بتدميرها، فأجاب المسؤولون بأن هذه هي المشكلة تماماً: إنها مدمرة!

* أستاذة الاقتصاد السياسي من سوريا

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى