خولة دنياصفحات سورية

بانياس مدينة خارجة من رواية خيالية

 


خولة دنيا

لأننا شعب يعيش هواجسه بالخفاء.. ويخاف النطق بها

ولأننا شعب ينطق قلبه بما لا تنطق به شفتيه وخاصة في مقابلةٍ ما على تلفزيون محلي، مملوك للدولة، أو لأحد رموز الفساد فيها..

ولأننا بلد مسورٌ  بكذبة الأمن، ومحكوم عليه بعدم وجود وسائل للتعبير … أو جهات مستقلة تنقل الأخبار..

ولأننا شعب نحب الكلام في كل شيء من السياسة إلى المطبخ والثورات العربية في بلدان مجاورة..، ولا نتقن توثيق مانقول .. أو نخاف من أي كلمة مكتوبة يمكن أن تصبح ممسكاً علينا أمام أجهزة أمن لا ترحم أحداً..

ولأننا شعبٌ محكومٌ بالأمل … الأمل الذي مافقدناه رغم تواجدنا في مملكة الصمت المطبقة بإحكام على شفاهنا وأيدينا مانعة أيانا من تدوين كلمة حرية.. أو كلمة صدق لما جرى ويجري في بلدنا .. وكأننا غرباء عنه يجب أن لا يعنينا إلا بقدر مايعنيهم إيصاله لنا..

لكل هذا قررت البحث عن الحقيقة والسعي لسماع مايقال وما لا يمكن أن يقال عبر أثير هاتف مراقب أو الخوف من أن يكون مراقب.

قررت أن أسمع الحكايات من أصحابها.. وأن أنقل هواجس المدن البعيدة من ساكنيها..

أملٌ شابه خوفٌ من مجهول مافتئت الألسن تتناقله بصور مرعبة أحياناً.. ومشوشة أحياناً أخرى

مجهول أضاع الحقيقة بين كاذبين جهاراً وبين مبالغين، ربما، لمايحدث على الأرض.

قررت النزوح باتجاه الغرب.. اللاذقية وبانياس وطرطوس ومن ثم حمص وحماه..

نزوح مؤقت بغرض الرؤية والسماع والإحساس بمالا تقوله الكلمات وتنقله حركة الأيدي وإشارات مبهمة أو متخوفة…

ومن ثم كانت الرحلة من دمشق إلى اللاذقية تشبه السفر في رواية تتحدث عن بلد آخر…

لم أتوقع أن تبدأ تطلعاتي لمعرفة مايجري، من الطريق الدولي المار من بانياس.

قبل بانياس بقليل أخبرنا الأمن أنه لا مجال للمرور..

عاد الباص أدراجه وحاول المرور من طرق التفافية، أيضاً باءت المحاولة بالفشل…

الطرق الجبلية غير مؤهلة لمرور المركبات الكبيرة بسبب ضيقها وتعرجها.

بعد محاولتين وحاجزين أمنيين توقف الباص في محطة قبل بانياس بانتظار الفرج.

كنا نحاول استجلاء الوضع من السائق والمعاون.. مالذي يحدث؟ لماذا عدنا؟ لماذا لا يمكننا المرور؟ ماذا قال الأمن على الحاجز؟.. الخ من أسئلة مقلقة وضرورية…

هناك سمعنا بمايجري في بانياس…

بانياس التي عاشت أياماً لا تنسَ من الرهاب والخوف.. ومالحق بها إثر مظاهرات مطالبة بالحرية ومتضامنة مع درعا.. بانياس التي تنوس بين الأديان وتقف على حافة فتنة تحاك خيوطها في الخفاء.. وتضطلع أيدي كثيرة فيها..

بانياس مدينة البحر الجميل.. والناس الأجمل المتعايشين المتضامنين المتحابين بدون ألاعيب من أي نوع..

بانياس الغارقة في قصة تروى عن رجل فساد كبير يحاول شراء أبنائها، وبين رجال فساد آخرين يحاولون شراء ماتبقى من أبناء.. وأبناء لا مطمح لهم سوى الحرية والغد الجميل…

عاشت بانياس أيامها الماضية عصيبة جداً… قتل الكثير من أبنائها كما قتل الكثير من رجال الجيش ولم تعرف الجهة التي قامت بالقتل… !!! وبقيت معلقة في أعناق رجال العصابات المسلحة المخلوقين من العدم.. أو المجهزين مسبقاً للحظة العدم والفناء هذه.

وعلى إثر اعتقال رجال بانياس وبعض القرى المحيطة.. لم يكن من مجال أمام النساء وقد تقطعت بهن السبل سوى النزول للمطالبة برجالهن.

نعم نزل الكثير من النساء والاطفال إلى الطريق الدولي واعتصموا فيه .. نساء من القرى المحيطة ببانياس من البيضة خصوصاً، كان مطلبهم الافراج عن أزواجهم وأطفالهم المعتقلين بعد أحداث بانياس..

وفيما ننحن ننتظر علق بعض السائقين على حركة الاحتجاج بكون النساء اليوم يغلقن الطرقات ومنذ متى النساء تغلق الطرقات؟

يالها من سعادة شعرت بها.. نعم النساء يعرفن كيف يعترضن ويطالبن بطرق سلمية جميلة ورائعة وبدون أسلحة أو قتل…

والجميل أن لا أحد يعرف كيف يتعامل مع حركتهن هذه.. لا يحملن السلاح كي يبادر احد بالقتل.. وكذلك لا يرفعن الشعارات فقط شعار .. لن نترك الطريق قبل الافراج عن معتقلينا… وكان لهم بعض من هذا.

سررت كثيراً بحركة الاحتجاج التي قامت في بانياس ونتائجها.. تعلمنا أخيراً كيف نطالب بحقوقنا بشكل سلمي ورائع..

أكثر من 10 باصات كانت واقفة قبل بانياس وركابها ينتظرون فرج ما…

أخيرا تركنا الباص مع ركابه واخترنا التنقل بسيارة جابت بنا الجبال بطرق ملتوية كي نتجاوز بانياس.

أكثر من 16 حاجز أوقفنا خلال ساعة وربع من الترحال الجبلي. أبرزنا هوياتنا الشخصية في كل مرة.. تحملنا نظرات الاستغراب من دخولنا (غير المتوقع ربما) إلى القرى، وسلوكنا الطرق الوعرة.. حواجز للشرطة، للأمن، وللجيش… وأيضاً مايسمى باللجان الشعبية بعصيهم وبواريد الصيد المركونة على جانب الطريق…

رأينا أسلحة من مختلف الأشكال والأنواع.. وسمعنا عن عروض بيع أسلحة بأسعار فظيعة… قال البعض أن قطعة السلاح (الروسية) كانت تباع بـ 35000 ل.س وبعد أسبوع أصبحت بـ 150 ألف ليرة سورية..!!! عجبي من هذا الاقبال على شراء الأسلحة وأي صدور ستوجه إليها…!!

بعض الشباب كان يحمل عصا سحرية يكفي أن تضربها بالأرض حتى تمتد ليصبح طولها متراً قيل أنها صينية وهناك أنواع أفضل.. ولكن بما انها حديدية فتكفي بالغرض ورخيصة…!!! (أي غرض تكفي له).

خفت قليلاً على صديقي فقد اخترنا السفر سوية إلى اللاذقية.. كان اسمه عمر ومن الصليبة في اللاذقية وهي منطقة الأحداث الأخيرة ..

كنا نحن الاثنين نحمل هواجسنا التي نريد التأكد منها على أرض الواقع (ماهو حجم الفتنة مما يجري؟ ومامدى بروز الطائفية ودورها في حركة الاحتجاج المدني التي تشهدها المدينة؟)

ولكن الأمور سارت على أفضل مايرام… عند كل حاجز كنت أقول الآن سينتبهو إلى اسمه .. اكتفى البعض بالتدقيق بوجهه.. ولكن تواجده مع نساء أخريات وشبان آخرين في سيارة أنقذ الموقف كثيراً.

الخوف كان واضحاً عند أهالي القرى المحيطة ببانياس، يدل عليه كثافة الحواجز على مداخل ومخارج كل قرية..

ولكن وعموماً كان التعامل محترم وبدون أي ازعاجات..

اضحكتنا الكثير من المشاهد.. شبان عاطلون عن العمل.. أو رجال متقاعدون وجدوا أخيراً ما يقومون به… (مهمة حماية القرية) أصبح لديهم عمل غير مأجور يكافؤو عليه من أهالي القرية…!!

مررنا بمدينة القدموس .. تجاوزناه لنأخذ طريقاً أكثر سهولة وأقل وعورة…. باتجاه مفرق بانياس من الجهة المقابلة للاذقية وجبلة.. بعض الركاب معنا قالوا لا لا نريد المرور ببانياس… لماذا لا يمحوها ونتخلص منها…!!! فتاة قالت أكره بانياس من أين جاءتنا هذه المصيبة..!!

تعب الناس مما يجري وحلمهم بعودة الأمان المزعوم جعلتهم يقولوا مالايقال… نعم الطريقة الأسهل للتخلص من أي مظهر مختلف هي إلغاءه .. إفناءه.. وربما تجاهل وجوده من أصله…!! أما التعامل معه كرأي آخر قابل للنقاش فلم نعتد عليه أبداً…

نعم .. نستطيع الالتفاف على بانياس وكأنها غير موجودة على الخارطة.. ولكن هل هذا يكفي لننام بضمير مرتاح…!!!

عندما تجاوزنا بانياس تنفسنا أخيراً..

الطريق الدولي كان لنا تماماً فلا توجد سيارات مارة والكل متوقف في الجانب الآخر قبل بانياس..

اليوم شعرت بمواطنيتي لهذه الأرض ولهؤلاء الناس

شعور لم أعشه سابقاً في بلاد القمع والصمت…

كنت سعيدة بانتمائي لهؤلاء النسوة القويات الصلبات.. كما كنت مسرورة بانتمائي لأهالي البلدات التي مررنا فيها وخوفهن من غد ملتبس..

شعرت بالانتماء لرجال الأمن والجيش المترقبين لرصاصة طائشة أو قناص ما…

نعم اليوم أنا مواطنة.. ولا أستطيع استيعاب ماقد يقال من بعد بضرورة إزالة بانياس عن الخارطة!!! أو إزالة درعا كما أزيلت حماه سابقاً وإعادة البناء من جديد لمدينة مرنة مطواعة مهادنة..

زمن السكوت انتهى وزمن القبول بالواقع المر أيضاً انتهى.. كما انتهى زمن المهادنة والمطاوعة المجانية.

الناس اليوم هم هؤلاء النساء وهؤلاء الأطفال الذين يريدون غد أفضل وأجمل وأكثر حرية…

اللاذقية اليوم كانت جميلة ورائعة… استطعنا السهر عند الأصدقاء حتى الحادية عشر ليلاً وهذا كان صعباً قبل يوم واحد فقط…

اللاذقية تحتاج لقصة خيالية أخرى..

سأرويها بعد أن أعود…

 

14-4-2011

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى