إياد الجعفريصفحات سورية

بحثاً عن مسرحية بذيئة/ \إياد الجعفري

 

 

 

حينما كان ميكافيلي يُحتضر، لم يكن يعلم أن كتابه “الأمير”، سيتحول “إنجيلاً” للطغاة. وكان يظن أن مسرحية بذيئة، أرجعته إلى أروقة قريبة من السلطة، هي جُل إرثه الذي سيُشتهر به.

يومها كانت إيطاليا، تشبه كثيراً منطقتنا العربية، وبالذات منها سوريا. مجزأة إلى 12 دويلة. أبناؤها بين مرتزقة، وحالمين، وأفراد جُل اهتماماتهم مصالحهم فقط، أياً كانت الوسائل. وكانت الخيبة تعمّ الغالبية منهم. فيما كان ترابهم مسرحاً لصراع القوى الكبرى في أوروبا حينها. وكان الإيطاليون أدوات في هذا الصراع، الذي تفاقم ليُفجع بعض القوى المتصارعة بنهايات صادمة لحكامها أنفسهم.

فرنسا واسبانيا والامبراطورية الرومانية المقدسة.. قوى جعلت جُل اهتمامها، السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من إيطاليا، ومناكفة نظرائها الأوروبيين على التراب الإيطالي. فيما كان تحللٌ قيميٌ، وريبة دينية، تتسرب في أوساط النخب الإيطالية. تلك كانت الإرهاصات الأولى لعصر النهضة الأوروبية، بدأت ملامحها تتسلل، من إيطاليا، ذاتها، المكلومة والمقسمة، والتي كانت مصدر خيبة لأبنائها الطامحين بأفق أفضل.

عاصر ميكافيللي مايكل أنجلو. وعمل مع ليوناردو دافنشي في واحدٍ من أفشل مشاريعه. كان عصراً مُترعاً بالخيبات، لكن رموزه لم يكن أي منهم يعتقد أنه سيكون من الخالدين مستقبلاً، وأنه سيُكرّس رمزاً لنهوض أوروبا، في مجالات شتى، حتى لو كانت، تلك السمعة السيئة التي طبعت سيرة ميكافيللي، بوصفه، فيلسوفاً للسلطة، واحدةً منها.

في تلك الأثناء، كان الطامحون من أبناء أوروبا، وفي القلب منها، إيطاليا، يتلمسون سبل النهوض بمجتمعاتهم. وكان البحث مخيباً في أحيان كثيرة، لكنه كان يؤسس لنهوض نوعي لتلك المجتمعات، دون دراية واضحة لدى رموز بذلك النهوض.

وفي خضم الخيبات التي كانت تعتمل في أوساط النخب الإيطالية، يومها، كانت الثقة بمقدرات الإنسان، تتزايد. حتى أن كبار العرّافين، الذين كانت نبوءاتهم، زادَ رموز السلطة والفكر، كانوا يتحدثون بنبرة مختلفة، عن أن الإنسان يملك القدرة على معاكسة النجوم، وتحقيق إرادته، بالتصميم. ويستطيع تليين الحظ، في نهاية المطاف.

كان ميكافيللي يومها، نموذجاً صارخاً عن حال النخب الإيطالية، التي تتصارع في وجدانها، تطلعاتها نحو مستقبل أفضل لأمتها، مع تطلعاتها للنجاح الشخصي ضيق الأفق. وفي خضم ذلك الصراع، تتفاعل الريبة بالدين، مع الرغبة في قناعة مريحة تجعل الإيمان يتطابق مع العقل. مهد كل ذلك لحركة إصلاح ديني، عاصر ميكافيللي بداياتها. حركة قِيض لها أن تكون إحدى أيقونات النهوض الأوروبي اللاحق.

وحينما كتب ميكافيللي، كتابه “الأمير”، كانت العودة إلى أروقة السلطة، غايته. لكنه في الوقت نفسه، كان يريد انتهاج سبيل للبحث السياسي، لا تُقيّده الأخلاق بصورة تحرفه عن النتائج المجردة التي يمكن أن يصل إليها العقل. العقل وحده. فكان أن وضع الأسس الأولى للواقعية السياسية، وإن بصورة فجّة للغاية.

وبقدر ما كانت خيبته في “الأمير” كبيرة، جراء اللامبالاة التي لاقاها عمله حينها، بقدر ما كانت تلك فاتحة للمزيد من البحث السياسي الموضوعي المجرّد من أية قيود. فكانت تجربته الثانية في البحث السياسي، التي تجلت في “المطارحات”.

وكتعبير عن حالة الانحطاط القِيمي التي كان لا بد من الوصول إلى قاعها، قبل خوض الإرهاصات الأولى للنهضة، كانت تذكرة عودة ميكافيللي إلى السلطة، مسرحية بذيئة تدور حول الزنى والخداع والفساد الديني. تسببت له بشهرة وصلت به إلى أروقة بابا الفاتيكان نفسه.

اليوم، يمكن للعاملين في المجال العام السوري، بالتحديد، تلمس جانب من ذلك الانحطاط القِيمي، يتكرر في هامشهم. حيث اللامبالاة تعم شريحة واسعة من الجمهور السوري، بعد خيبات مكثفة، نالت من وجدانهم، في تجربتهم المريرة خلال سبع سنوات. خيبة كفيلة بأن يُدبر معظم الجمهور السوري عن الشأن العام، ويجعل شؤونه الخاصة جُل اهتماماته. فتصبح أخبار الغوطة، من الأقل قراءة على صفحات وسائل الإعلام. فيما تتصدر أخبار الممثلة الإباحية التي تقاضي ترامب، مراتب متقدمة من الاهتمام.

أما المهتمون بالشأن العام من السوريين، فحالهم كحال أسلافهم الإيطاليين، قبل 500 عام، ما بين مرتزقة، وحالمين، وأفراد جل اهتمامهم، مصالحهم الشخصية، أياً كانت الوسائل.

في هذه الأجواء، لا يفاجئنا أن يصعد نجم عضو في مجلس الشعب بدمشق، من قبيل “محمد قبنض”. أو أن يصبح نجدت أنزور، المخرج التلفزيوني، رئيساً لذلك المجلس. ولن يفاجئنا في المستقبل القريب، أن تُعرض مسرحية بذيئة في صالون بشار الأسد نفسه، بحيث يصبح مؤلفها، مستشاراً مقرباً منه.

وفيما يتصاعد الصراع بين قوى إقليمية ودولية على التراب السوري، ويقرر بعض قادة تلك القوى أن يحوّل ذلك الصراع إلى تحدّي حياة أو موت بالنسبة له.. تتسرب الريبة أكثر بالفهم التقليدي للدين الإسلامي، إلى نفوس شريحة أوسع من السوريين. وترتفع أصوات بالحاجة إلى مطابقة الإيمان بالعقل، بعد الفشل الصارخ لتجارب الإسلام السياسي، على الأقل، في نسخته الجهادية. في هذه الأثناء، يشق سوريون سبلهم المتفردة إلى النجاح في مجالات شتى، في بلدان اللجوء والمُغترب. ويسجل كل يوم جديد منهم، نجاحاً يُضاف إلى قائمة نجاحات أبناء جلدته. نجاحات ما تزال فردية، بانتظار اللحظة المناسبة لتكثفها، برفقة تحولات نوعية في بنية العقل السوري. علّ ذلك يكون بدايةً لنهضة شبيهة بنظيرتها الأوروبية.

وقد تكون الفاتحة بمسرحية بذيئة، أو ما يشابهها، تكشف بشكل فاضح إلى أي دركٍ وصل الانحطاط القِيمي، إيذاناً بنهوض جديد.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى