صفحات الرأي

حوار الطرشان في محنة الإخوان/ ماجد كيالي

تنطوي المقولة الرائجة “من ليس معي فهو ضدي”، والتي تطغى على المناقشات الفكرية والسياسية الحامية في بلداننا، على عقلية تأسّست على الانغلاق والتعصّب والقطع والضدّية. وهذه العقلية هي من نتاج الصراعات الهوياتية، التي تحيل الأفكار والسياسة والقضايا إلى “أديان” أخرى، ينجم عنها ثنائيات الحلال والحرام، والمقدس والمدنس، والتكفير والتخوين، بدلاً من التواصل والتفاعل والانفتاح والتكامل، التي هي نتاج العقلانية والسياسة.

هكذا، ففي الساحة الفلسطينية، مثلاً، ينبغي للمرء وفقاً لهذه العقلية أن يكون، وبالإكراه، وبمعزل عن إرادته، وحتى بمعزل عن القضية المطروحة، إما مع فتح أو مع حماس، إما مع أوسلو أو مع الكفاح المسلح، وها نحن بتنا، بسبب التطورات في مصر، إما مع “الإخوان” أو الجيش وأجهزة الأمن، وهذا ينسحب على كل المواضيع والقضايا.

وفي الواقع فإن هذه الثنائيات القطعية ظالمة وتعسفية وهي تنطوي على تسطيح وابتزاز ومصادرة للعقل وللتفكير النقدي، فليس من المعقول اختصار الفلسطينيين بحركة فتح أو بحركة حماس، ولا اختصار القضايا الفلسطينية المعقدة والمركبة بإجابات من نوع نعم او لا، مع أو ضد. هكذا، أيضاً، ففي الموقف مما يجري في مصر ليس من المعقول أن تكون إما مع السيسي أو مع الإخوان، وبالعكس، وقس على هذا المنوال، ذلك أن الأمر، كما في الموضوع الفلسطيني، يحتمل وجهات نظر أخرى، ثالثة ورابعة وخامسة، وكل طرف له ماله وعليه ماعليه.

المعنى من كل ذلك أن أي موقف لا ينبغي أن ينطوي على التعصّب لجماعة سياسية ضد أخرى، ولا مع شخص ضد آخر، بسبب أي اعتبار، ودون أي تمييز من أي نوع، أي أن المعيار هنا يتحدّد في الدفاع عن القيم، أي في الوقوف مع قضايا الحرية والمساواة والكرامة والعدالة والديموقراطية والسلام، فلا قضية أسمى من ذلك، ولا جماعة فوق ذلك، لا من الإخوان المسلمين ولا من “الإخوان العلمانيين”.

وبكلام أكثر مقاربة، فإن هذا يعني أنه ثمة مشروعية في تعاطف أي كان مع مظلومية إخوان مصر، وفي رفض الطريقة التي تم تنحيتهم فيها عن الحكم، وضمنه فض اعتصامهم بالقوة، على الرغم من الاختلاف معهم، في افكارهم وخياراتهم وسياساتهم.

هذه الفكرة تفيد أن مصارعة الإخوان المسلمين ينبغي ان تبقى محصورة في إطار الصراع السياسي، الذي تحدده القوانين والدساتير، بوصفهم بشراً أولاً، وباعتبارهم جماعة سياسية ثانياً، وكونهم من المكونات السياسية لمجتمعاتنا. والقصد من ذلك أنه لا يجوز، ولا بأية حال، مصارعة الإخوان، أو غيرهم، وفقا لترسيمات مسبقة، وجاهزة، هوياتية أو أيديولوجية، لأن ذلك قد يفضي إلى الإنكار والعداء والإقصاء، وهذه كلها بمثابة وصفة لزعزعة الاستقرار وسيادة علاقات الكراهية والعنف وتخريب المجتمعات وسيادة الاستبداد.

ولعل مصدر هذه الفكرة يكمن في وجوب عقلنة السياسة، أو أنسنتها، باعتبار أنه لايوجد شيء جوهري ثابت وخطأ في اية مجموعة بشرية او سياسة، لأن القول بذلك، على خطئه، هو قول عنصري وينطوي على الغطرسة والكراهية وتشريع العنف ضد من نختلف معه، وكل طرف إزاء الطرف الآخر.

الآن، من المثير أن نتفحّص المقولات التي تلقى عن حق أو من دونه، بحقّ الإخوان في مصر، مثلاً. فمع بعض التحكيم للتفكير النقدي، والحسّ الأخلاقي، يمكننا ملاحظة عدة مسائل، أولها، أن الديموقراطية والليبرالية تتناقضان، ولا تستقيمان، مع الإقصاء والعزل الجماعي والهوياتي، لأن ذلك يجرّدهما من مضامينهما المتمثلة بالحرية والمساواة والمشاركة وسيادة الفرد.

ثانيا، لا شك أن تجربة “الإخوان” في الحكم، وفي إدارة الصراع مع التيارات الأخرى، تضمّنت أخطاء كثيرة أدّت الى تراجع شعبيتهم، لكن ما ينبغي الانتباه إليه، أن ذلك حصل، بالضبط، بسبب وضعهم في دائرة الاختبار، أي في امتحان الحكم، وليس بإقصائهم وشيطنتهم، والتنكيل بهم، لأن تلك الممارسات ليست من الديموقراطية، وإنما من الاستبداد، وهذا يعني أن هذا التيار ربما تتطور لديه قابليات الديموقراطية طالما انخرط في مسار العملية الديموقراطية، لا في مسار العنف والعزل والتهميش.

ثالثا، يستحسن في غضون ذلك أن لا ننسى أن الاستبداد إنما تكرّس في بلداننا بسبب جبروت النظم التي تدعي القومية واليسارية والعلمانية والمقاومة تحديداً. أي أن هذا الأمر ليس سمة ملازمة للتيار الاسلامي وحده، وإنما هو للأسف يشمل كل التيارات السياسية العربية، وهذا ناجم عن نقص تمثّل فكرة الليبرالية أو الحرية في معنى الديموقراطية عند تياراتنا السياسية التي اختزلت الديموقراطية بمجرد انتخابات، ما يفضي بنا إلى نتيجة مفادها تحميل مسؤولية هذا الأمر للجميع.

رابعاً، واضح أن ثقافة شعب مصر وثورته احدثت تغييرات في إدراكات الإخوان بدليل جلبهم الى انتهاج الاعتصام والحشد السلمي في الميادين بدلا من التفرق والتذرر الذي كان يمكن أن يدفع بعضهم للذهاب إلى العنف.

خامساً، ثمة مفارقة هنا مفادها أن الإخوان يتم محاكمتهم أو الحكم عليهم خارج القانون، والأنكى انه يتم ذلك، على الأغلب، وفق ادعاءات او ذنوب لم يرتكبوها بعد، أو قد يرتكبوها في المستقبل، وذلك فقط لمجرد كونهم حركة ذات هوية معينة، اتفقنا او اختلفنا معها، هذا دون ان نقلل من أخطائهم، علما أن الأخطاء التي ارتكبها غيرهم منذ عقود لم تتم محاكمتهم عليها قط.

طبعاً، ثمة بين التيارات الإسلامية من يعتقد انه يخدم هذه التيارات بدفاعه المطلق عن خياراتها ومواقفها وسياساتها، وهذا غير صحيح، فهذه التيارات كغيرها يقودها بشر، وهؤلاء بدورهم بحاجة الى اعمال العقل والنقد والمساءلة والمحاسبة لتقويم سياساتهم والارتقاء بها.

وقصارى القول، ففي الصراعات الأيدلوجية والهوياتية على المكانة والسلطة، وفي وضع يدّعي فيه كل طرف احتكار الحقيقة والتاريخ وروح الشعب، يغيب العقل ويضيع معنى السياسة، وتصبح الصراعات ذات طبيعية صفرية، على الوجود فلا يعود ثمة قيمة للبشر. هكذا تنشأ حرب الضحايا ضد الضحايا، حرب المظلومين ضد المظلومين، حرب الكل ضد الكل، في حين ينعم الاستبداد بالسيادة والسلام!

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى