صفحات العالم

بداية النهاية للنظام أو بداية الأسوأ لسورية


عبدالوهاب بدرخان *

قد تكون البدايات غامضة وقد يكون توقع النهايات متسرعاً. لكن المؤشرات باتت قوية الى حدّ أن عاندتها تساوي اندفاعاً الى انتحار مشهدي مفزع ينذر بانتحارات متوالية لا تحافظ على/ أو تنقذ شيئاً على افتراض أن هذا كان الهدف من الإيغال في العنف والشدّة المفرطين.

لكن سقوط طاغية ليبيا شكّل ايذاناً خطيراً بأن سقوط الشعوب لم يعد وارداً وما على الأنظمة المتهاوية سوى أن تتجه الى المخرج. لذا استعد المجتمع الدولي للتقدم خطوة تالية في الضغط على النظام السوري. رفضت روسيا، ومعها الصين، مشروع قرار لفرض عقوبات، مع علمهما أن هذا لم يعد خياراً، بل بات تهوّراً في تحمل المسؤولية الدولية. كانت موسكو أرجأت مراراً رحلة مبعوثها الى دمشق، آملة بأن يتمكن الحل الأمني من تطبيع الوضع، وبالتالي أن يسحب الملف السوري من التداول في مجلس الأمن. ورغم أن مبعوثها يصل الآن متأخراً جداً على الحلول العقلانية، إلا أن الحرج يحتّم هذه المهمة لإحاطة دمشق بما سيكون، فثمة حدود للاعجاب المطلق بنظامها وللتفهم العميق لخصوصية وضعها الجيو- سياسي وللصداقة القديمة، وحتى السعي الى حماية المصالح والديون يقضي بالإلتفات الى ما بعد هذا النظام. وهذا ما حصل أيضاً لروسيا مع التغيير الليبي، وتعلّمت منه.

حتى ايران نطق لسانها أخيراً. لا بد أن الخوف على مصالحها هو ما أنطقها وليس حرصها على «حل بعيد عن العنف» لم تحاوله مع شعبها، ولا تلبية المطالب «المشروعة» للشعب السوري. وصلت ايران الى خط النهاية في التفرج على فشل حل أمني قدّمت له بعض الخدمات والخبرات، ما جعلها تشرع في رسم مسافة متخيّلة بينها وبين النظام السوري. لم تعد تخشى سقوطه فحسب وانما بدأت تحصي خسائرها. كشفت أنها قدمت اقتراحات ونصائح «خطيّة» لتجاوز الأزمة، وفُهم أن السوريين رفضوا تدخلها. من الواضح ان ايران تسارع الى الحد من انعكاسات تحالف مع سورية بات عبئاً، ومن تفاعل أزمة تنذر بتداعيات خطيرة عليها وخصوصاً على حليفها «حزب الله» الذي بات الحزب الحاكم عملياً في لبنان.

سواء كان التغيير المدروس في الموقف الايراني جاداً أو للاستهلاك الاعلامي الموجّه نحو دول الخليج، فإن حصوله مباشرة بعد محادثات ايرانية – قطرية له دلالات. كانت طهران عبرت مراراً، خلال الشهور الماضية، عن تطلعها الى حوار مع دول الخليج، وتقصّد وزير الخارجية علي أكبر صالحي توجيه نداءات الى السعودية بقيت من دون صدىً. كان الهدف أولاً هو التفاهم على الوضع في البحرين، ثم أصبح البحرين وسورية. والأكيد أن أمير قطر قصد طهران بعد مشاورات معمقة مع مختلف العواصم الخليجية، ولا سيما الرياض، ما حمّله موقفاً خليجياً وجعله بالتالي محاوراً بالنيابة عن دول الخليج. في بداية اذار (مارس) الماضي، ومع وصول قوات «درع الجزيرة» ولو بأعداد رمزية الى المنامة، تلقت ايران صفعة في ادارتها للاحتجاجات البحرينية إذ وجدت نفسها أمام مواجهة لم تحسبها ولم تردها، وما لبثت علاقات اعتقدتها «حميمة» مع الكويت أن تأزمت بدورها. في ذلك الوقت أبلغت سورية ايران أنها لا تستطيع الوقوف معها ضد دول الخليج وطالبت هذه الدول بمساندتها اذ كانت بوادر انتفاضتها تظهر، فحصلت على مساندة الحكومات التي صمتت شهوراً خمسة الى أن قال الشعب السوري للجميع «صمتكم يقتلنا» فيما ضاق الرأي العام العربي والاعلام ذرعاً بهذا الصمت وبالجرائم التي ارتكبت.

عندما فتح مجلس الأمن ملف سورية انتهى الصمت وانتهت الفرص المتاحة للنظام. ما لبث العاهل السعودي أن رفع سقف الموقف العربي الرسمي، وعلى وقع الحدث الليبي فتح الباب لاجتماع لجنة المتابعة في الجامعة العربية لاستقبال ليبيا المستعيدة عضويتها عبر المجلس الوطني الانتقالي ولاطلاق رسالة قوية الى دمشق التي رفضتها. لكن بعد أن تتعرف الى موقف موسكو، قد تعود فتوافق على استقبال وفد وزاري عربي أو الأمين العام للجامعة، إلا اذا قررت خسارة العرب والعالم معاً. وهذا غير مستبعد. ومنذ فشل المسعى التركي الأخير ومطالبة الرئيس السوري بالتنحي، وبعد سقوط النظام الليبي والاستعداد لفرض عقوبات دولية عليه ثم اتضاح الموقف العربي، راح النظام يبدي اشارات متزايدة الى اندفاعه نحو تصعيد أقصى سواء في مجريات اللاحل الأمني أو في ردود فعله السياسية. انه يستشعر بدايةً لنهايته، وبديهي أنه سيقاومها.

كان العقل الأمني مستفَزَّاً ازاء الوعيد المعلن بأن شهر رمضان سيكون مفصلياً بالنسبة الى الأزمة، لذا تهيّأ بردٍ هجومي بل استباقي، فدخل حماه كما الغزاة وأكمل شرقاً في دير الزور فغرباً في اللاذقية وشمالاً في ادلب والآن بدأت دمشق تسخن وبدأ النظام يثخن أحياءها وريفها عنفاً دموياً قاتلاً. لكنه مع ذلك لم يربح رهانه الرمضاني إلا اذا كان يقيسه بحصيلة القتلى والجرحى والمعتقلين والمهانين على أيدي «الشبيحة»، ولم يكسب سوى مزيد من الغرق في الرمال المتحركة وفي العجز عن طرح حل للأزمة.

في الوقت الذي بدأ النظام يدرك أن «شعبيته الواسعة» تتقلّص وتتآكل، وأنه قد يكون مقبلاً على تفكك متدرّج لبنيته، أصبح حتى خصومه يعترفون بأن الانتفاضة الشعبية تعيش بدايات العسكرة خصوصاً مع تزايد المنشقّين عن الجيش ووجود استقطاب اعلامي لإبرازهم باعتبارهم مرشحين لأدوار أكبر في مستقبل قريب. لا أحد في المحيط الاقليمي يريد لمثل هذا الخيار أن يتحقق، لكن النظام بذل عملياً كل ما يستطيع لاستدراج حرب أهلية أو ما يشبهها، مثيراً تساؤلات كثيرة عن استراتيجيته وأهدافه. فالحرب الأهلية لا يربحها أي من طرفيها بل غالباً ما تستدرج تدخلاً خارجياً لوقفها وفرض حل مبني على تنازلاتهما. وفي بعض العواصم بلغت التساؤلات حدّ استكشاف ما اذا كان النظام انتهى الى خلاصة مفادها: إما أن يحكم سورية بطريقته وإما أن يدفعها الى صيغة من صيغ التقسيم كسيناريو احتياطي لضمان الحماية للعائلة والطائفة، اذ أنه لا يحتمل تداعيات انهياره الفعلي عليهما. ولعل هذا ما يفسر الى حدٍّ ما اصرار النظام على صمّ آذانه حيال الخطط التي تدعوه الى وقف اراقة الدماء وعلى المضي في الاعلان عن «الاصلاحات» التي أقرّها مع علمه أن أحداً لا يقيم لها وزناً طالما أن القتل مستمر في الشارع. من هنا قد تكون المرحلة الراهنة أيضاً بداية الأسوأ لسورية.

* كاتب وصحافي لبناني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى