صفحات الناس

براميل.. النجاة السورية/ أمجد ناصر

 

 

السوريون/ يات في كلِّ مكان. فعلاً في كل مكان. لقد أوصلتهم براميل بشار الأسد وسواطير مخلوقاته الإرهابية، على الطرف الآخر من الجحيم، إلى كلِّ مكان يمكن تخيله. قبل أيام، كنت أشاهد فيلماً وثائقياً عن لاجئين سوريين في مالي. ناهيك، بالطبع عن السودان. في الصحراء الكبرى. بين رملٍ ورمل. أما وصولهم إلى القطب الشمالي فليس خبراً حديثاً، فكلنا عرفنا ذلك، عندما كتبت عنه صحيفة بريطانية. صار السوريون مخترعي طرق وجغرافيا. هناك صفحاتٌ عديدةٌ على الإنترنت، أنشئت خصيصاً لفتح طرقٍ أمامهم في الجغرافيا التي تنغلق كلما زاد عدد اللاجئين، وتعقّدت ظروف اللجوء بصعود القوى اليمينية إلى سدّة القرار في غير بلد أوروبي. وأنا أرى إلى اللاجئين السوريين في مالي. في بلدٍ لا يستطيع أهله، أنفسهم، إقامة أوَدَهم: أي البقاء الصرف على قيد الحياة، تذكَّرت تقرير الصحيفة البريطانية التي كانت قد أخبرتنا، بنوعٍ من الطرافة والتعاطف، عن تمكّن السوريين من اشتقاق طريقٍ في القطب الشمالي يصل بين روسيا والنرويج، أو إعادة تأهيل هذا الطريق الجليدي الذي لم يمش عليه بشرٌ منذ الله أعلم. هناك دفعاتٌ سوريةٌ شهريةٌ تعبر الطريق الجليدي، ببطء ولكن بإصرار، للوصول إلى البلاد الاسكندنافية. للبقاء فيها، أو لعبورها إلى بلاد السيدة أنجيلا ميركل. ويبدو أن ذلك المعبر الجليدي كان الفاصل بين الجنَّة الأوروبية الغربية وبلدان ما وراء “الستار الحديدي”. التاريخ يكرّر نفسه. ولكن، بوجوهٍ شرق أوسطية هذه المرة. لم تثن اللاجئين السوريين درجاتُ الحرارة، دون الصفر بكثير، ولا مخاطر الضياع في صحراء الجليد هذه التي بلا معلم، عن الذهاب بعيداً، أبعد ما يمكن، عن السماء السورية التي تحتلها الطائرات، وتتساقط منها البراميل والقنابل العنقودية والسموم.

لا الحرّ عند خط الاستواء، ولا القرّ عند القطب الشمالي المتجمّد يمنعهما من البحث عن سبيلٍ للنجاة بأنفسهم. للبحث عن سماءٍ لا تكفُّ عنها الطائرات. وبجانب بشرٍ لا يجزّون الأعناق، كما يقطف الرومانسيون وردة. الخبر السيىء أن قوافل اللاجئين السوريين التي تتدفق عبر الحدود ليست نهاية حبل “المسد”. فما دام الصراع قائماً هناك. ما دام هناك من يرمي حطباً على النيران التي تتصاعد من رؤوس المدن الحضارية العريقة، المدن الأقدم في العالم، فاللجوء سيستمر. والقوافل السورية التي تعبر كل حدّ يمكن تخيله ستستمر. أما كيف تكون مالي طريقاً إلى “الجنَّة” الأوروبية المطوَّقة بالحرس والشكوك، فهذا يستحيل فهمه. من سورية. إلى لبنان. الأردن. مصر. الجزائر. موريتانيا، ثم مالي. لا أتحدّث عن شبّانٍ، بل عن عائلاتٍ بأكملها. نساء، رجال، أطفال، وجدّات أيضاً. في مالي، رجل يعمل ميكانيكاً جاء من حلب! تخيلوا معي هذه المفارقة الجغرافية المذهلة. قال الرجل: سماء مالي خالية، على الأقل، من الطائرات. ما زالت حلب تحت النيران. ما زالت السوخوي تحرث سماءها، وتسقط على مئات آلاف الحلبيين الذين انحشروا بين نارين وجبهتين، صواريخها وبراميلها، ومحتمل أيضاً: غازاتها السامة.

كنت قد قابلت مهندسةً معمارية حلبيةً في قبرص. هذا مكانٌ قريب. حارة متوسطية قياساً بأي عبور آخر. هناك بعض السوريين الذين وصلوا إلى الجزيرة. ليست قلة أعداد اللاجئين السوريين بسبب صعوبة الوصول إلى قبرص، ولا لتعقيد إجراءاتها، بل لأنها جزيرةٌ لا تبعد عن اللاذقية أكثر من مائة ميل. وعن بيروت ربع ساعة بالطائرة. ولأنها جزيرةٌ فهي لا تؤدي إلى غيرها. وهم يريدون غيرها. المهمُّ، أذهلني كلامها عن خروج عائلتها، وكثير من أقاربها وجيرانها. يبدو أن البراميل قدر السوريين. لكنها، هذه المرة، براميلُ نجاة، لا براميل هلاك. قالت لي إنهم يضعون الأطفال وذوي الأحجام الصغيرة الذين لا يستطيعون السباحة، في “بيدونات” (براميل) ويدحرجونها من مكانٍ يطلّ على نهر. يتلقى  النهر البراميل، ويأخذها الى الجانب التركي. نسيت اسم النهر، أو المجرى المائي الذي سمَّته لي. أظنه العاصي. قلت لها إن ذلك يشبه قصة النبي موسى ونهر النيل أيضاً. المياه التي تُغرق، هي أيضاً التي تكتب الحياة لمن أريد له الموت. هذه المرة، للبراميل في سورية معنى الحياة. إنها التي توصل إلى الجانب الآخر، حيث لا تستطيع السوخوي أن تنقضّ وتتنمَّر.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى