صفحات الرأي

بشأن مسؤولية الحكام عن ثورة المحكومين

 


ماجد كيالي

مازالت الأنظمة على عنادها للحراكات، أو حتى للمطالبات، الشعبية الطامحة للتغيير والارتقاء، دون أن تدرك أنها، في موقفها هذا، تعاند، أيضاً، مسارات حركة التاريخ باتجاه الحداثة، المتأسّسة على الحرية والعقلانية والدولة المدنية؛ والتي بتنا بأمس الحاجة إليها، كأفراد ومجتمعات ودول.

إن تشبّث الأنظمة السائدة بالسلطة الشمولية والمطلقة، في المجالين الدولتي والمجتمعي، وعلى الصعيدين العام والشخصي، يجعلها، عن قصد أو من دونه، تقف على الضدّ من متطلبات العصر، وحاجات التطور، تماما مثلما يجعلها ذلك تقف على الضد من طموحات مواطنيها (وبالأحرى “رعاياها”)، الطامحين لتغيير واقعهم البائس، والذين يتوقون للتعبير عن ذواتهم، ومحاكاة العالم، والدخول في التاريخ.

لدينا أنظمة سياسية حقاً، وهي تحكم، وتدير أمور البلاد والعباد، فتقيم المدارس والمستشفيات، وتبني الطرق، وتمد شبكات الكهرباء والمياه والهاتف، وتجبي الضرائب، ولديها محاكم وسجون وأجهزة أمن، وجيش، ولكنها، مع كل ذلك، أنظمة مفوّتة تاريخياً، أي إنها باتت متقادمة، أو مستهلكة، أو فاقدة لأهليتها في الحكم والإدارة، على الصعيدين الداخلي والخارجي، على حد سواء.

مثلا، على الصعيد الداخلي، فقد أخفقت هذه الأنظمة في وضع مجتمعاتها على سكّة التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والعلمي والتكنولوجي، ليس بالقياس للدول المتقدمة فقط، وإنما بالقياس لدول تعاني مشاكل عديدة ومعقدة، مثل الهند وكوريا وماليزيا وتركيا والبرازيل. الأنكى أن هذه الأنظمة لم تنجح في تحقيق الإجماعات والاندماجات الوطنية، التي تعلي من شأن الانتماءات الوطنية على الانتماءات القبلية والإثنية والطائفية والمذهبية والمناطقية، بما يجعل الشعب شعباً، بل إن هذه الأنظمة تغوّلت في سلطتها على الدولة، فهمشت مؤسساتها ووظائفها، بحيث لم يعد منها إلا أجهزتها البيروقراطية والأمنية.

أما على الصعيد الخارجي فتبدو هذه النظم، وهي باتت غاية التبلّد والشيخوخة، غير قادرة على إدراك متطلّبات هذا العصر، وعاجزة عن مواكبة معطياته، إلى درجة أضحت معها، في وضعها هذا، بمثابة عبء على النظام الدولي، ما يفسر مطالبة هذه النظم من قبل المجموعة الدولية، منذ سنوات عدة، بإدخال إصلاحات على أوضاعها. ولعل هذا يفسّر أيضا، التخلي السريع لحكومات الدول الغربية عن حلفائها من الحكام، وانحيازها إلى مطالب الشعوب، بغض النظر عن مقاصدها من ذلك (لاحظ ماجرى مع نظام مبارك في مصر وبن علي في تونس وصالح في اليمن).

على ذلك يمكن الاستنتاج بداهة بأن الحكام العرب، أو النظام السياسي العربي، المبني على الاستبداد والفساد، هو بالذات الذي يتحمل مسؤولية اندلاع الثورات العربية، بل إنه هو بالذات المسؤول، أيضا، عن توسّل المواطنين تغيير واقعهم بالطرق الثورية “العنيفة”؛ وهاتان حقيقتان لم يعد ثمة مجال للجدال بشأنهما.

هكذا كان على الحكام أن يدركوا مبكرا بأن واقع الإفقار والتهميش وهدر الثروات، ونهب الموارد، والحرمان من الحقوق والحريات الأساسية، وتغوّل السلطات على المؤسسات والقانون والدستور، والحطّ من كرامات الناس، وامتهان مفهوم دولة المواطنين، والعجز عن حل الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، ناهيك عن مواجهة التحديات الخارجية، لابد سيؤدي إلى مفاقمة مشاعر الاغتراب والغضب، وبالتالي الثورة، لدى محكوميهم.

أيضا، كان على هؤلاء الحكام أن يدركوا أنهم هم المسؤولون عن انسداد أفق التغيير، بالطرق الهادئة، الديمقراطية، والقانونية، وبطرق التوسلات والمناشدات، وتحول مواطنيهم إلى طلب التغيير، عبر انتهاج خيار الثورة، بكل مستوياتها. والثابت أن هؤلاء الحكام، طوال العقود الماضية، أشاحوا بعيونهم عن معاناة الناس، وتعاموا عن رغبتهم في التغيير، ومحاكاة العالم، وسدّوا آذانهم عن مطالباتهم الملحة بالإصلاح (خذ مثلا دعوات الإصلاح المتضمنة في تقارير التنمية الإنسانية العربية التي توالت بالصدور منذ مطلع العقد الماضي، والتي ركزت على تمكين الناس من الحرية والتنمية والتعليم وتحرير المرأة).

الآن، ما الذي ينبغي استنتاجه من هذه الثورات ومما جرى ويجري؟ ما يجب استنتاجه، ومن دون مواربة، هو أن على الحكام إدراك حقيقة مفادها: أن الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي في العالم العربي بات بحاجة ملحّة لعقد جديد بينهم وبين محكوميهم، فلم يعد من المقبول، ولا من الملائم، العيش وفق الطريقة السابقة، أي على أساس الاستبداد والفساد؛ التي تضر بالبلاد والعباد، والتي تودي بالدولة والمجتمع وبالمواطنين في آن واحد.

وما ينبغي أن يدركه هؤلاء، أيضا، أن عصر الدولة الشمولية، أو الدولة الأمنية، انتهى، أو هو في طريقه للانتهاء، وأصبحت المسألة تتعلق فقط بالطريق إلى ذلك، فهل يتم ذلك بالطريقة الصعبة (أي بالانتفاضة والقطيعة وربما العنف) أم بالطريقة السهلة (أي بالانتقال السلمي “الدولتي” والديمقراطي)؟ هل يتم ذلك من خلال الفوضى أم من خلال الانتظام الواعي لضرورة خلق علائق جديدة؟

وفي المحصلة فإن درس الثورات الشعبية العربية يفيد بأنه لم يعد ثمة مجال للمعاندة، غير المجدية والمضرة، من قبل الحاكمين، وأن على هؤلاء أن يدركوا ما هو أفضل لهم ولبلدانهم، فقد انطلق قطار التغيير في العالم العربي على سكته، ولا يبدو أنه سيقف من دون المرور بمختلف المحطات، بهذه الطريقة أو تلك.

كما يفيد هذا الدرس أن النظام العربي السائد بات في مرحلة الشيخوخة، على مختلف الصعد، وأنه آن له أن يصغي لصوت شبابه، الذي يتطلع إلى مستقبل أفضل له، في الحياة الحرة الكريمة، والذي يتطلع، أيضا، لوضع بلده على سكة المستقبل، أي السكة التي تقود إلى دولة المؤسسات والقانون والمواطنين.

الحكام مسؤولون عن كل مايجري، وما قد يجري، وعلى طريقة استجابتهم لهذه الحركة التاريخية يتوقف الكثير، وضمنه مصيرهم، ومصير البلاد، وكلما كانت الاستجابة ايجابية، أي متفهمة وواعية ومسؤولة، كلما كان ذلك أفضل لهم ولمجتمعاتهم.

المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى