صفحات الرأي

بعث الحلم العثماني عبر الإسلام السياسي


هدى رزق

من الصعوبة بمكان توقع مستقبل ما سمّي في الإعلام الغربي الربيع العربي، الذي بات يلقّب بالربيع الإخواني في المنطقة العربية. ومهما قيل عن المفاجآت التي أحدثها بروز الإخوان والسلفيين على الساحة، عبر صناديق الاقتراع التي تعدّ من أهم آليات الفرز الديموقراطي، فإنّ نظرة الى العقد الماضي والدراسات حول الأحزاب العربية، وواقعها ومآلها، تثبت أنّ معظم مراكز الأبحاث الغربية كانت متيقنة، منذ زمن غير بعيد، من أنّ سقوط بعض الأنظمة العربية سيتيح المجال للأقوى تنظيمياً وشعبياً للاستيلاء على السلطة، أي الإخوان المسلمين. ذلك كان واضحاً بالتحديد في مصر ومنطقة أفريقيا الشمالية، حيث الغلبة العددية هي للسنّة، وحيث التنوع الطائفي والمذهبي يتّسم بنسب منخفضة للأقليات.

لا شك بأنّ المنطقة العربية لا تزال تعاني من أزمة الهوية، بالإضافة الى الأزمات السياسية والاقتصادية ومشكلة التبعية، إذ لم تستطع الأنظمة منذ الخمسينات، وبغض النظر عن تأثير العوامل الخارجية، تقديم نموذج ناجح للحكم، ولا إرساء قواعد الدولة الحديثة، ونعني بها دولة التنمية والقانون. ولم تستطع تلك الدول تقديم أيّ إنتاج صناعي أو تكنولوجي منافس في الأسواق الإقليمية أو العالمية، بل بقيت دولاً تعيش على المساعدات وعلى الريع النفطي، عدا عن الاضطهاد والازدراء الذي عانى منه العرب من الخارج، وتحت حجج مختلفة، أهمها حماية أمن إسرائيل، ووصمهم بالإرهاب.

عوامل عديدة ساهمت في دفع الإسلام السياسي إلى الواجهة، أهمها: سقوط الأحزاب القومية والناصرية لعجزها عن تطوير خطابها، وانفضاض الناس من حولها، كما غياب فكرة التوظيف السياسي والاقتصادي، والمشاريع التنموية والاستثمارية التي يمكنها أن تغطي الحاجات الاجتماعية والاقتصادية للشرائح الاجتماعية المتوسطة والفقيرة. كذلك، لدينا جنوح عدد كبير من اليساريين الى خط السلطة الحاكمة، وإلى منظمات المجتمع المدني الممولة من الخارج، خدمة لأجندات غربية لم تستطع خدمة الداخل، ما أضعف قدرتها على الفعل في بيئتها، رغم كل الضجة الإعلامية التي أحاطت بها. هكذا تفوقت على تلك الأحزاب المنظمات الأهلية المدعومة من التيارات الإسلامية التي حاكت مشاكل الناس وحاولت الاستجابة لها بالحد الأدنى، باسم الأرضية الإسلامية التي يعيشون في ظلها. ساهم انتشار الأمية في أطراف العالم العربي، الى جانب التوجيه الإعلامي الفضائي الذي ركز على القنوات الدينية، في زيادة شعبية السلفيين وبعض الإسلاميين، بالإضافة الى المال السياسي. كما أنّ غياب التنمية في وجهيها الاقتصادي والبشري، في الأرياف، ساهم في نمو الثقافة الغيبية.

ساهم بروز طائفة من المنتفعين من الاقتصاد النيوليبرالي والإصلاحات الهيكلية في توسع دائرة التهميش في زمن التواصل الافتراضي. زمن وسع آفاق المعرفة ونقل المعلومة وأثار سخط الشباب المتعلم الباحث عن فرص عمل في منطقة مقسمة بين دول غنية ريعية ذات كثافة سكانية منخفضة نسبياً وتملك مشاريع واستثمارات موظفة في الخارج من أجل المنفعة الشخصية، ودول فقيرة ذات كثافة تصل إلى حد الانفجار السكاني مع تعميم للبطالة.

وفي معرض تبنّيها لسياسة تبعد عنها تهمة التطرف الديني، عمدت دول خليجية الى استخدام وسائل الإعلام من أجل بناء منظومة دينية منفتحة، فجندت قنواتها الفضائية، وحاولت توظيف الانفتاح على الأتراك، للترويج لنموذج إسلامي ديموقراطي لديه علاقات تحالف مع الولايات المتحدة وإسرائيل. هكذا استثمرت بعض القنوات في دبلجة المسلسلات وإبراز النواحي القريبة من العادات العربية الإسلامية، فأضحت إسطنبول قبلة سياحة عربية، وفتحت الأسواق لبضائعها واستثماراتها، وبدأت محاولة محو صورة العثماني والتركي الذي حكم المنطقة العربية 400 سنة. حدث كل ذلك في محاولة لإزالة آثار الفكر القومي الذي وصف العثمانية والتتريك في بدايات القرن العشرين بالاحتلال.

أتت تلك السياسات تلبية لتعويم المشروع الأميركي الذي انفتح على الإخوان المسلمين بمساهمة من حزب العدالة والتنمية التركي. حزب يطمح الى الهيمنة عبر عثمانية جديدة، لكن هذه المرة بمباركة وتشجيع أميركي، ما يذكّرنا بنصائح مراكز الأبحاث الأميركية لتركيا بالتخلّي عن المطالبة بالانضمام الى الاتحاد الأوروبي، وبذل جهودها عوضاً عن ذلك في بسط نموذجها، والاستثمار سياسياً واقتصادياً في العالم العربي والإسلامي، من أجل إعادة تعويم السياسة الأميركية عبر شعار الإسلام الديموقراطي. ضمن هذا الإطار، تم الانفتاح الأميركي على الإخوان المسلمين، في كل من المغرب والأردن وسوريا والكويت. أما القنوات بين واشنطن والإخوان المسلمين في مصر، فلم تبدأ إلا في 2007 من أجل العمل على ردم الهوة بعدما أوضحت بعض قيادات الإخوان أنّه ليس لديها مشكلة مع الشعب الأميركي، بل مع السياسة الأميركية الداعمة لإسرائيل ولنظام مبارك الفاسد. أثار ذلك حنق مبارك في وقتها، واتهم الإدارة الأميركية باللعب على تناقضات السلطة والمعارضة. وما دعوة وزير الخارجية التركية أحمد داوود أوغلو إلى مؤتمر للأقليات المسيحية في العالم العربي، سوى تذكير لنا بأنّ عودة نظام الامتيازات في عهد السلطنة العثمانية ممكن اليوم.

يبدو صعود التيارات الإسلامية إلى مؤسسات الحكم كأنّه نمط إقليمي. فما هي مواقف تلك التيارات من الشوؤن السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية في الدول التي صوّتت لها؟ وما هو موقفها من الخارج ومن الدول المجاورة، ومن المعاهدات الدولية والقوى الكبرى؟ وما هي برامج تلك التيارات؟ لم تترنح الأنظمة وتسقط فقط بسبب ظلمها وقمعها، إنما أيضاً بسبب عجزها عن إنصاف شعبها وشبابها العاطل من العمل، أي بسبب إذلال الناس في لقمة عيشهم، التي لخّصها المنتفضون بالكرامة. فالحكم لن يكون مهمة يسيرة. ما هي الاحتمالات؟ هل تطبق التيارات ما قررته في برامجها، وتمارس قناعاتها وتحافظ على بقائها وعلى كوادرها؟ لقد تم انتخابها على أساس برنامجها، فهل يمكنها أن تتحلى بالمرونة، وهل بإمكان هذه المرونة أن تثير سخط منتخبيها؟ هل ستعدل تلك التيارات من توجهاتها، بفعل الواقع أو المصلحة، لتؤمن استمراريتها كونها ستواجه جماعات المصالح والمعارضة في الداخل وموازين القوى، والدول الغربية ودول إقليمية في الخارج؟ أم أنّها ستستعمل الدين من أجل فرض هيبتها؟ إنّ سيطرة الإسلاميين دونها عقبات، إذا لم يتحالفوا مع شباب الثورة. فالطريق طويل من أجل الوصول إلى بر الأمان، وقد يضطرون الى الاستعانه بالبراغماتية السياسية من أجل الحكم، ولا سيما في مصر التي لا بد من اجتراح حلول اجتماعية ـــــ اقتصادية وثقافية من أجل حكمها.

* كاتبة لبنانيّة

الأخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى