صفحات سورية

بعد ان وصلت القضية الى اخطر منعطفاتها.. ماذا يفعل الشعب السوري لوقف آلة القتل؟


د. عمار البرادعي

حتى ساعة متقدمة من مساء الأربعاء 16 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري وهو الموعد المحدد كآخر مهلة أمام النظام السوري للموافقة على بنود المبادرة العربية، لم يجر غير تسريب خبر مقتضب حول عزم الجامعة العربية على إرسال مراقبين لسورية إذا هي وافقت على استقبالهم. ثم فوجئنا بعد ذلك بصدور قرار من مجلس وزراء الخارجية الملتئم في إطار الجامعة بالرباط يقضي بإعطاء النظام ـ الذي كان يُتوقع التصديق على قرار تجميد عضويته ـ مهلة ثلاثة أيام جديدة تُضاف الى سابقتها ,إن لم نقل إلى فترة الشهور السبعة التي مرّت على استمرار القمع الدموي لشعبنا السوري الثائر، دون أي موقف حاسم من قِبَل ‘بيت العرب’. ومع ذلك لم تردّ السلطات السورية حتى اللحظة على موضوع المراقبين ولا المهلة المعطاة لها لتنفيذ بنود المبادرة.

هذا وحده يعكس مدى الضياع الرسمي العربي تجاه حل الأزمة السورية وعدم القدرة على إيقاف النظام جديا عند حدّه. كما يعكس في المقابل مدى خيبة مجموع القوى المعارضة في تبنّي موقف سياسي موحد من حيث الهدف والوسيلة في التعامل مع استمرار استشراس النظام في القتل المتصاعد يوما بعد آخر.

لا نريد أن نخوض في الأسباب التفصيلية لذلك لأنه يُدخلنا في متاهات لا يمكن الإحاطة بها في مقال محدود الحجم، بل نُذكّر فقط بتباطؤ أنظمتنا والولايات المتحدة معا منذ بداية القمع الدموي في التعامل الجدّي مع هذا الحدث الخطير مهما تصاعدت أساليب القتل الجماعي، وقد منح كل منهما لنظام الأسد فرصا عديدة كي يحسم الموقف لصالحه، قبل أن يمنحاه لاحقا مهلا أخرى للخلاص من الجرائم التي ارتكبها عن طريق الحل السلمي.

أما الآن وقد وصلت القضية الى أخطر منعطفاتها، وتأكد للعالم أن النظام مصمم على الإستمرار في مسيرة الدم مدعوما من قبل دول وتنظيمات وقوى خارجية، يصح السؤال: لماذا التخوّف إذن من المطالبة بالحماية الدولية لمساعدة الشعب على تحقيق ما يريد، طالما أن النظام يحول دون ذلك بالطرق السلمية ويستعين على شعبه بمساعدة الآخرين له تحت ذريعة أنهم يدعمون نهج الممانعة، ككل من النظام الإيراني وحزب الله، وحتى الحكومة اللبنانية الخارجة من تحت إبطه، إضافة الى الدولتين الكبيرتين روسيا والصين.

لاشك أن مطلب الحماية الدولية سيكون واسع الإطار، مفتوح الإحتمالات بعدما يوضع موضع التنفيذ، لكن ذلك يمكن تحديده بما تستلزمه متطلبات الحماية ـ لا الإبادة ـ لترجيح كفّة الشعب على آلة التدمير العسكرية. ويجب أن لا يُترك هذا التحديد لمواقف الدول ومصالحها ولا إلى اتفاق بين فصيل معارض أو بضعة فصائل فقط مع هذه الدولة أو تلك، بل عبر الأمم المتحدة ممثلة بمجلس الأمن وتحت إشرافها، وبعِلم الجامعة العربية وقبول الغالبية العظمى من قوى المعارضة التي عليها أن تحسم أمرها بوضوح ودون أية ضبابية حول هذا الموضوع، في ضوء الإجابة على السؤال الملحّ: هل بعد كل ما دفعه شعبنا من ضحايا ثمة من يعتقد أن التظاهرات وحدها يمكن أن تفلّ من جبروت النظام وآلته العسكرية المدمرة؟

لقد علّمتنا التجارب أنه على الرغم من عظمة شعبنا، والتزامه طوال الشهور الأولى بالنهج السلمي الكامل، وصموده الأسطوري في وجه آلة النظام التدميرية، إلا أنه لم يتمكن وحده من تحقيق أهدافه في ظل تصاعد وتيرة الإجرام الرسمي المدعوم من قوى إقليمية ودولية. وطالما أن النظام الذي يواجهه لا يعترف بحق الشعب في إبداء رأيه، لأنه لا يؤمن بالحرية والديمقراطية، ويرى بمجرد إبداء الرأي من خلال تظاهرة سلمية محدودة العدد تحديا لوجوده وسطوة أجهزته المدرّبة أساسا على هدف تطويع الناس وتركيع من لا يتجاوب منهم بالقمع، فإن حسم قوى المعارضة موقفها للخروج من هذه الشرنقة المتمثلة بإبقاء الشعب تحت مطرقة التصفية الجسدية، يُعتبر الأكثر إلحاحا في هذه الظروف، بعد أن دخلت مواجهتنا مع النظام الى مفترق طرق لا مجال فيه للأخذ والردّ ولا للتبرع بالمهل والتسويف تلو الآخر، لاسيما وأن النظام قد أُعطي من الفرَص ما لم يُعط لغيره من أجل تصفية الثورة طوال الشهور الخمسة الأولى من انطلاقها، سواء كان ذلك من الإدارة الأميركية التي بقيت تراهن عبر رزمة من التصريحات المتتالية على قبوله بالنصح والشروع ولو ببعض الإصلاحات المطلوبة، أم من الأنظمة العربية وجامعتها.

وحتى بعد أن فاض الكيل وبدأنا نسمع تصريحات مختلفة المصادر تطالب برحيل بشار، تجاوبا مع المطالب الشعبية بإسقاطه، فقد أعطت الجامعة العربية الناطقة الرسمية باسم حكامنا المهلة تلو الأخرى له، ومازالت حتى اللحظة تحلم بإمكانية التفاهم معه، بينما بقيت إدارة أوباما تلوك التصريحات المتشابهة النبرة حول فقدان بشار للشرعية ووجوب رحيله، دون إبداء الجدية المعبّرة عن الحسم النهائي تجاه هذا الموضوع.

كل ذلك واضح ومفهوم، ولكن الذي يتابع مواقف سائر قوى المعارضة يلحظ ما لا يُفهم من انقسام وتباعد لا يوحيان بالحد الأدنى من التوافق حول الموقف الذي يجب تبنّيه تجاه أبرز التحديات التي تواجهنا، وهذا ما يدركه كل متابع باهتمام لما يجري داخل كواليس المعارضة من طروحات وتذبذبات لا تقف عند حد، والأمثلة على ذلك لا تُعدّ ولا تُحصى . لكننا نكتفي هنا بأبرزها، وهي الواردة على لسان السيد برهان غليون رئيس ‘المجلس الوطني السوري’ الذي أعلن عن نفسه ممثلا لأطياف المعارضة.

في البدء أعلن غليون تعليقا على المبادرة العربية قائلا ‘إن قبول النظام بها ناجم عن الخوف الذي استبدّ به وانعدام الخيارات أمامه، لكن قبوله بها لا يعني أنه سيحترم بنودها، ولكنه سيستغلها للإلتفاف على الإلتزامات المطلوبة منه’. وبعد أن يُطالب بضرورة أن تُظهر المعارضة تضامنها حول هذه المبادرة، وحول الأهداف التي تسعى إليها وأولها إسقاط النظام، يؤكد على وجوب أن لا تحيد عن هذه الأهداف، سواء جاء ذلك بالمفاوضة أم بالعصيان المدني أم بغير ذلك.

إذا اتفقنا معه على الجزء الأول من هذا الكلام، وتجاوزنا إغفاله القول في بداية الفقرة الأخيرة منه: سواء جاء ذلك بالثورة، ثم توقفنا مليا أمام كلمة بالمفاوضة، وهو ما بدأ يركّز عليه مؤخرا، ولاسيما في جولاته المتعددة، فإننا نرى في عبارة ‘أم بغير ذلك’، كلاما عموميا وغير محدد، يمكن لكل واحد أن يفسّره على هواه. فبالنسبة لنا ـ مثلا ـ لا تعني هذه العبارة غير الأخذ بالخيار الأساسي الباقي وهو طلب الحماية والدعم الدوليين، وهذا ما يُفترض أن يكون مقصودا من قبله. لكن الذي يُلاحَظ هنا أن كل كلام السيد غليون يتركّز على استبعاد هذا الخيار، والحديث بضبابية وعمومية عن سبل أخرى للحل، كقوله أيضا في موسكو ‘نريد تجاوز الأزمة، ونريد أن يتمّ ذلك بدون تدخّل خارجي’.

لا بأس، ولكن كيف يتم ذلك؟

يكمل قائلا: ‘نحن مستعدون للتعاون مع ممثلين عن السلطة لا يقتلون مواطنين سوريين، من أجل التوصّل إلى حل سلمي للأزمة’.

كلام غريب . إذ كيف يمكن أن يكون الواحد ممثلا للسلطة في مثل هذه المهمة ‘التعاونية’مع من يريد إسقاط النظام، ولا يكون موثوقا ومن عظام رقبة هذا النظام، ولا يتحمّل ولو جزءا من وزر ما يحصل أيا كان دوره في الهرم السلطوي؟ ثم، كيف يمكن أن يكون التعاون الآن على جبل من جثث الشهداء، وما هي الضمانة، وعلى أي أساس؟

هذا من جهة، أما من جهة أخرى فقد قال غليون في نفس الحديث ‘إن الفشل في التوصّل الى حل تفاوضي قد يُفجّر نزاعات داخلية في سورية’، وهذا مع الأسف يلتقي مع الطرح الذي حاول بشار الضرب على وتره مهددا في غير خطاب وتحذير له. وكأن الثورة بكل أطيافها وتياراتها المستقلة والملتزمة لا تمثّل إلا شريحة تقابلها شرائح أخرى مستعدة للدفاع عن النظام أو للتقاتل العرقي والطائفي والمذهبي.

لا نبالغ هنا إذا قلنا أن أي طرح من هذا القبيل يجعل قائله ـ من حيث يدري أم لا ـ على خط واحد مع جامعة الأنظمة وبشار الأسد فيما يتعلّق بتغليب خيار التفاوض المطاطي بكل ما يحمله من ألغام وتسويفات وقدرة على التحايل، مقابل التركيز على خطورة البديل الآخر المتمثل باستمرار الثورة في ظل حمّام الدم المتدفق، وما يتطلبه هذا الوضع من دعم لإرادة الشعب وطلب الحماية الدولية، مع عدم الإغفال أن التمسك بالتفاوض والحل السلمي واستبعاد طلب الحماية يُبعد المعارضة عن جوهر انطلاقة الثورة الساعية لتحقيق أهدافها مهما غلت التضحيات، ويجعلها سجينة هذا الوضع الذي يؤدي إلى استنزافها يوميا من قبل قوات النظام. وهذا الوضع إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على أن نضالات شعبنا وعذاباته اليومية لا تجد من يعمل على مساندتها بقوة ترتقي الى مستواها. والمساندة هنا لا تكون بالكلام والمؤتمرات، ذلك لأن التنظير وحده إن لم تستتبعه خطوات عملية على الأرض لابدّ أن يصبّ على الأرجح في مصلحة النظام لا الثورة، وهذا هو الجانب الحساس من القضية الذي يستدعي انتباه الجميع إليه، لأن اللعب على أعصاب الناس، وتأرجح العديد من قوى المعارضة بين موقف وآخر في عزّ الحاجة الى الحسم، يصب في مصلحة النظام أيضا.

تجدر الإشارة هنا أنه إذا كان السيد غليون ليس متشجعا لطلب الدعم والحماية، ويميل كالأنظمة والجامعة الى التفاوض السلمي، فإن هذا ليس هو موقف كل أعضاء المجلس الذي يترأسه. فقد حملت إلينا الأنباء في الأيام الأخيرة مسارعة اثنين من القادة المؤسسين للمجلس الى طلب تأمين الحماية الدولية للمدنيين ولو تم ذلك بجهد عسكري. وقد عبّر عن هذا الموقف كل من المراقب العام للإخوان المسلمين في سورية أحمد رياض الشقفة بدعوته في حوار مع قناة الجزيرة الى تدخّل على غرار ليبيا، دون إرسال قوات على الأرض. كما دعا سمير النشــار رئيس الأمانة العامة لإعلان دمشق الأمم المتحدة والقوى الدولية الى اتخاذ جميع الإجراءات التي تراها ضرورية لوقف عملية القتل الممنهج من قبل النظام، حتى ولوبشكل عسكري إذا تطلّب الأمر ذلك، مؤكدا أنه لا يطلب بذلك تدخلا لاحتلال البلد بل لوقف عمليات القتل ليس إلا.

نعود لنقطة التخوّف من المطالبة بالحماية الدولية، أو ما يسميه البعض التدخّل الأجنبي لنتساءل: لو كان نظام بشار هو وحده الذي يقوم بذبح شعبنا، دون أي حليف أو داعم من خارج الحدود، سواء أكان ذلك بالمال أم بالسلاح أم بالحرس الثوري و’شبّيحة’ الممانعة من أعضاء هذا التنظيم وذاك، هل كان يستطيع الإستمرار طوال هذه المدة بنفس الوتيرة المتصاعدة في البطش، والإنتقال من ‘غزو’ هذه المنطقة أو تلك المدينة إلى غيرها واحدة بعد أخرى؟

إذا اتفقنا على الجواب المنطقي والواقعي في آن، ما الذي يمنعنا إذن من كسر جدار التفرّد بنا، والسعي الى طلب من يدعمنا. أم أن للقاتل وحده الحق في ذلك دون الضحية، مع الإقرار سلفا أنه خيار المُجبَر الذي ليس أمامه أي حل ولا وراءه أي مجال للرجوع، بل الخضوع التام لا قدّر الله ..وهذا ما يرفضه شعبنا بإرادة تُذهل العالم.

‘ كاتب سوري مقيم في باريس

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى