صفحات الرأي

بعض من عِبر «الربيع العربي» واستنتاجاته


كرم الحلو

اذا كان التاريخ بأحداثه وتحولاته وانقلاباته يتمخض دائماً عن عبر ودروس واستنتاجات، فإن ثمة عبراً ودروساً يمكن استخلاصها من تجربة الانتفاضات العربية الراهنة تشكل في حد ذاتها مقدمات خطاب سياسي عربي جديد، ينزع عنه اوهام الايديولوجيات الآفلة ويؤسس لتصور آخر لمستقبل الحراك السياسي في العالم العربي.

من هذه العبر والدروس والاستنتاجات:

أـ اعادة الاعتبار الى مقولة الجماهير التي طالما تم الازدراء بها لصالح مقولات «القائد الفذ» او «الحزب الطليعي» او «المثقف التنويري»، وكان ان بدت الجماهير اطاراً باهتاً في مشهد يكتسحه بالكامل فرد أسبغت عليه كل حالات القداسة والحكمة والجبروت كأنما الامة اختصرت كلها في شخصه التاريخي «الفريد».

ومن منحى ايديولوجي مشابه ألقيت على «المثقف» كل تبعات التقدم والتحول الديموقراطي والنهوض بالمجتمع المدني بوصفه عقل الامة وروحها، واعتبر «الحزب»حامل الأمانة التاريخية في النضال الوطني والقومي من أجل الوحدة والتحرير، في مقابل جماهير قاصرة بحاجة على الدوام الى من يرشدها ويوجه ايقاعها. وهكذا في كل الحالات، اختصر دور الجماهير في طاعة «القادة الأفذاذ» او الاضطلاع بما يكلفهم به الحزب من مهمات «نضالية» او الاصغاء الى نبض المثقفين والدأب وراء ما يطرحونه من شعارات.

على الضد من هذه التصورات التي سادت في الحقبة الايديولوجية الآفلة، أعادت الانتفاضات العربية الراهنة الجماهير الى الصدارة في حركة التاريخ، حيث عادت هي صاحبة القرار والوجه الناتئ في المشهد السياسي، وأصبح القائد او المثقف او الحزب يلهث وراء نبضها، يلتمس منها المشروعية يرصد توجهاتها وتطلعاتها جازعاً من مساءلتها ومحاسبتها راجياً سكوتها ورضاها.

ب – انكشاف الدولة التسلطية العربية وتناقضها وتهافت شرعيتها، فهي دولة ضارية مدججة بالعسكر والاستخبارات، تتوغل في صميم المجتمعات الأهلية، تقبض على كل تحركاتها وتطلعاتها وتصادر قرارها السياسي والمدني، كما هي في الوقت نفسه دولة خاوية مرتعدة ازاء شعبها جازعة ازاء اي تحول ديموقراطي قد يفلت من سيطرتها ويتجاوز توقعاتها. وقد جاءت الانتفاضات العربية لتضع هذه الدولة في مواجهة حاسمة مع تناقضاتها، اذ لم تعد قادرة على تغطية لا شرعيتها بالقوة السافرة، وباتت مجبرة على اثبات شرعيتها من خلال عقد اجتماعي ديموقراطي جديد غير مؤسس على القسر والاكراه.

ج ـ استعادة الخطاب التأسيسي لليبرالية العربية بتأكيد الحرية شرطاً اولياً للنهضة والتقدم، ما تم تجاوزه في الحقبة الايديولوجية تحت ذرائع قومية او وطنية او اشتراكية، حيث أجّلت الحرية الى ما بعد الوحدة العربية وتحرير فلسطين او الى ما بعد تحقيق الاندماج الوطني او الى ما بعد اقامة المجتمع الاشتراكي اللا طبقي. من جديد تطرح الانتفاضات العربية اولوية الحرية وحقوق الانسان الطبيعية: حرية الرأي والتظاهر والرقابة على السلطة وتقييدها بالصالح العام ومساءلتها ومحاسبتها، الأمن والمساواة القانونية والمواطنية، حق الاقتراع وتداول السلطة، استقلال المجتمع المدني وحرية قراره.

هذه الاولوية باتت تتقدم على ما عداها باعتبار الحرية مناط قيمة الانسان وجوهر وجوده التاريخي، الامر الذي يشكّل تحولاً نوعياً في الخطاب السياسي العربي المعاصر.

د ـ هشاشة الاندماج الوطني في العالم العربي وتردي الدولة التسلطية العربية في بناء العصبة المواطنية وانكشاف قعرها الملغوم بالعصبويات الاثنية والطائفية والمذهبية والعشائرية، على عكس ما تشي به في الظاهر من هوية متعالية على هذه العصبويات متجاوزة للانقسامات العمودية الناخرة في صميم المجتمعات العربية، وليس ادل على ذلك مما عبر عنه من ارتباك في الآونة الاخيرة عدد من الكتاب العرب الذين عقدوا الآمال الكبار على الانتفاضات العربية ففاجأتهم الشروخ المذهبية والطائفية والعشائرية والقبلية وباتوا يشعرون بضرب من الحرج في الحديث عن مصاعب الانتقال الديموقراطي.

هـ ـ برهنت تجربة الانتفاضات العربية الراهنة ان ثمة التباساً ايديولوجياً يحيق بنخبها وقياداتها يشكّل عاملاً اساسياً في حالة الارباك التي تعانيها، فليس ثمة خلفية ايديولوجية جذرية تثوي وراء هذه الانتفاضات كتلك التي رفدت التحولات الثورية الكبرى في عالمنا الحديث والمعاصر من ثورة الغرب الديموقراطية في القرن الثامن عشر الى الثورات الاشتراكية في القرن العشرين، كما ليس ثمة قبول تام لدى جماهير الانتفاضات أو حتى لدى نخبها اجمالا بالمبادئ التأسيسية للديموقراطية الحديثة، من المساواة المواطنية، الى المساواة التامة بين المرأة والرجل، الى الاقرار بمدنية القوانين والسلطات والأعراف، ناهيك بتصور حداثي لأسس السلطة ودور الحاكم وموقعه في المجتمع والدولة والاعتراف الجدي بحرية الرأي والاعتقاد والتفكير.

ان تجنب التفكير بهذه المسائل الاشكالية وسواها، هو مصدر الاحباط وخيبة الأمل، فلم يكن مفاجئا اندلاع التزاعات الطائفية والأهلية في مجتمعات الانتفاضات، أو احساس شرائح واسعة في هذه المجتمعات بالغبن والقلق من عودة رموز النظام البائدبعد أن عمدت نضالاتها بالدم والتضحيات.

و- الخيار المخادع الذي تطرحه الدولة التسلطية العربية بين اطالة امدها وبين الارهاب الاصولي، في حين ان ثمة تلازماً بين الخطابين التسلطي والاصولي، ان في رفض الآخر واقصائه او في آلية التعامل معها بسلاحها نفسه، وقد بانت المفاضلة بين التسلطية والاصولية لعبة مكشوفة ورهاناً خاسراً لا ينطلي على احد بعدما باتت الوشائج الواصلة بين الاثنتين.

ز ـ برهنت الانتفاضات العربية للحكام العرب ان التطور والتحول سنة الكائنات وان لكل حكم أجلاً محدوداً. ادركوا ولو متأخرين ان حال الطوارئ لا يمكن ان تستمر عقوداً، وان الحاكم لا يمكن ان يظل قابعاً على كرسيه لا يبرحها إلا لأولاده رغم كل التغيرات العاصفة في عالمنا. ادركوا، ولو متأخرين، ان السلطة تداول وانها عقد بين حكام وبين مواطنين لهم حقوق وارادات، وانها لا بد ان تقيد بقوانين من صنع هؤلاء. ادركوا كل ذلك، لكن بعد فوات الاوان، حتى هبت شعوبهم معلنة جفاء انظمتهم مع منطق التاريخ واحكامه.

هذه بعض عبر ودروس الانتفاضات العربية التي لا تني تتكشف كل يوم عن حقائق واستنتاجات ليست في حسابات الذين تصوروا ان المجتمعات العربية خارج التاريخ ولا تنطبق عليها شرائع التبدل والتغيير.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى