صفحات سوريةعمر قدور

بوتين هو الحل!/ عمر قدور

 

 

عادة، تُضاف إشادة دونالد ترامب بفلاديمير بوتين إلى مجمل تصريحات الأول التي يعوزها التوازن، من دون انتباه كافٍ إلى كثافة تواتر اللقاءات بين لافروف وكيري، على نحو لم يكن معهوداً أيام الحرب الباردة أو ما تلاها. بل لا تخفى، في المسألة السورية تحديداً، تلك التنازلات التي واظبت إدارة باراك أوباما على تقديمها لموسكو، بما يخالف رغبات غالبية الحلفاء، وحتى رغبات بعض دوائر صنع القرار التقليدية في واشنطن.

ولئن كانت حكومات غربية، مثل الحكومة الفرنسية وأحياناً البريطانية أو الألمانية، لا توافق إدارة أوباما على تقاربها مع الكرملين، فهذا لا ينفي وجود سياسيين أوروبيين أبدوا إعجابهم ببوتين وطالبوا بالتطبيع معه، وإزالة آثار القطيعة التي أعقبت سيطرته على القرم وعموم تدخله في أوكرانيا. وقد تثير الدهشة «موقتاً» رؤية ذاك الاتفاق على بوتين بين سياسيين من اليسار واليمين المتطرف الغربيين، الدهشة التي لا يكفي لتبديدها القول بأن نسبة كبيرة من هؤلاء تطرح أيضاً إبقاء بشار الأسد رئيساً، على رغم كل ما يرافق هذا القبول من إهانات لشخصه معطوفة على الدراية بجرائمه.

بالطبع، لا يرقى القبول ببوتين وببقاء بشار إلى المصاف ذاته، والدور الذي يؤمل لعبه من الثاني مرتبط أساساً بالتبعية للأول، أي أننا نتحدث عن منظومة محتملة، يتربع بوتين على عرشها بلا منازع، بينما تتراوح مرتبة أعضاء المنظومة الآخرين هبوطاً. ولا نحتاج نباهة شديدة لإدراك أن هذه المنظومة مُناط بها لجم العنف القادم من الشرق في مختلف الوسائل، التي قد لا يريد الغرب مزيداً من التورط في استخدام بعضها، وقد تكون الاستدارة الأميركية نحو شرق آسيا، بما رافقها من تحليلات وافرة، الاسمَ الرمزي لهذا التوجه.

لكننا، على الأرجح لن نرى وفرة في التحليلات تواكب الصعود الروسي بمباركة غربية، أو رؤية تلك المباركة في إطار العلاقة الثلاثية التي تندرج فيها أوضاع منطقتنا. إذ، حتى أمد قريب، كان مُستبعداً تماماً تصوّر الوجود الروسي، لا في سورية فحسب وإنما على النحو الاستراتيجي الذي يوزع تهديداته على المنطقة ككل، ولقد رأينا نتيجة إسقاط طائرة روسية من الدفاعات الجوية التركية، حيث لقّن حلف الناتو أحد أعضائه المشرقيين درساً في الاستراتيجيات المستجدة.

في السياق ذاته، ثمة فقر شديد في معرفة الآليات الداخلية للصعود الروسي، وفوق ذلك ثمة إحجام عن توصيف الإمبريالية الروسية الطامحة، وكأن الإمبريالية وصف يخص الغرب دون غيره. فإذا تجاوزنا التبسيط المعتاد عن حكم المافيا الروسية، سيكون من التبسيط أيضاً عدم الانتباه إلى النزوع الإمبريالي الذي ورثه الاتحاد السوفياتي عن حكم القياصرة، ثم ورثته روسيا بعد انهيار الأول الذي حققت له الحرب العالمية الثانية حلم الوجود في القلب الأوروبي. التذرع بالتبشير الشيوعي آنذاك ينبغي ألا يحجب نزوع الهيمنة، طالما أن التبشير من كل صنف هو إمبريالي بمعنى ما، وطالما أن الأدبيات المتداولة ثابرت على وصف «تبشير» الغرب بالديموقراطية وحقوق الإنسان بأنه ذريعة للسيطرة.

ليس استئنافاً للتبشير الغربي على أية حال القول إن الإمبريالية الروسية مختلفة عن الغربية لجهة استخدام السلطة في كبح الصراعات الداخلية، بدل استخدامها لإدارة الصراعات، بمعنى استخدام العنف داخلياً فضلاً عن استخدامه الخارجي. لقد ترافقت الإمبريالية الغربية كما هو معلوم مع ترسيخ الليبرالية السياسية في مجتمعاتها، ومع قوانين تحد من الاحتكار وأخرى تتوخى حداً أدنى من العدالة الاجتماعية، بخلاف الإمبريالية الروسية التي لا تبدو الليبرالية السياسية ومنع مختلف أنواع الاحتكار على سلّم اهتماماتها.

لذا، قد لا نتأخر في اكتشاف أن مختلف الشتائم التي كيلت للإمبريالية الغربية صالحة أكثر للروسية الصاعدة، وأن ما كان يوصف بالإمبريالية المتوحشة أرقى من الانفلات القيمي الذي تنطلق منه نظيرتها الروسية. وبسبب هذا الانفلات القيمي تحديداً، تجد لها فرصة تاريخية في التوسط بين غرب تخطى مراحل الكولونيالية وشرق تفاقمت فيه عوامل العنف، بما فيها تلك الناجمة عن أخطاء الغرب نفسه. عطفاً على ما سبق، سيكون ممنوعاً بشدة على موسكو في أوروبا ما هو مرخص لها به في منطقتنا، وقد نشهد ترجمة بسيطة للأمر بتقديم مختلف التسهيلات لها في سورية مع الامتناع عن الصفقة التي تريدها في أوكرانيا.

غير أن الأمر لا يتعلق فقط بملفي سورية وأوكرانيا، فمن وجهة نظر غربية لا ضـــير في أن يتولى العنف الروسي مسؤولية إخماد فائض العنف المشرقي الحالي، وستكـــون صفقة جيدة إذا لعب الطرفان بعيداً من «أسوار» الغرب. هذا ما يـــراه اليمين المتطرف على الأقل، أما نظيره من اليسار الهامشي، فغالب الظن أنه لم يخــــرج بعد من عقلية الحرب الباردة، ولم يخرج أيضاً من جرحه النرجسي بسبب هامشية حضوره في المجتمعات الغربية، ما يدفعه إلى تجاهل الصعود الإمبريالي الـــروســـي ومحتواه «الرجعي» والمتوحش معاً. وإذا تقاطعت غالبية اليسار العربي مع ذلك الغربي في عدم الخروج من عقلية الحرب الباردة فهي أكثر تواضعاً من الناحية الفكرية، إلى درجة نسيان أن بوتين ليس الأمين العام للحزب الشيوعي.

في التفاصيل، قد نجد الطموح الروسي في المنطقة يقتفي أثر نظيره الأميركي الآفل، فقط لجهة رغبة شركات النفط الروسية في السيطرة على المنطقة ومنعها من المنافسة في أسواق النفط والغاز العالمية. هذا تحديداً لم يعد يثير حفيظة الأميركيين، بعد الطفرة في إنتاج النفط الصخري، بالقدر الذي قد يتأذى منه الأوروبيون الذين يعتمدون على النفط والغاز الروسي والشرق أوسطي. لكن الكلفة الاقتصادية صارت مقبولة بالمقارنة مع «العنف القادم من الشرق»، بخاصة بعدما انطوت ثقافياً أطروحة «نهاية التاريخ» لمصلحة انتعاش أطروحة «صدام الحضارات».

في عالم يتوسطه بوتين، يكون الغرب قد أنجز قطيعة تامة مع ماضيه الكولونيالي، بينما منطقتنا على عتبة العودة إليه من البوابة الروسية. يُفترض أيضاً أن يرضي هذا السيناريو جهابذة العداء للغرب، بوصفه كافراً أو إمبريالياً. فقط ما يعيبه أنه سيلجمهم عن استعادة الأندلس، أو عن الانتقام من الغزوات الصليبية!

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى