صفحات المستقبل

“بوليتزر” لأسى سوريا

جهينة خالدية

تربح الصور، وتحضر معها أحداث أليمة مستمرة. يحضر الضوء المتسلل من باب “كاراج” مثقوب بالرصاص، وعدة القتال، وتحضر الحرب والدماء الجافة والجوع وصراخ النجدة المتوقف هناك عند لحظة التقاط الصورة.

سوريا اليوم في حرب دموية، أمام عدسات الكاميرات. فرضت نفسها بكل أسى في أكثر صور العالم تأثيراً وألماً. من قلب كل هذا الإختناق اليومي، خرجت أعمال مصورين عالميين وعرب، صور فائزة بجائزة “بوليتزر” الأميركية التي تمنحها جامعة كولومبيا. وها هي، في دورتها السابعة والتسعين، تضع الأحداث السورية في عين كل من لم يرها بعد. صور توثق الدمار والدماء والعتاد ووجوه المقاتلين وألبستهم والمنازل المدمرة. صور ستفيد في المستقبل بالكثير. وهي اليوم أكثر من حاجتنا إليها في الحاضر الذي يقول إن الغد سيأتي بالمزيد منها، في حرب لا تبدو أنها أو صورها على وشك التوقف.

بإنتظار العدو

الصور الفائزة بالجائزة من سوريا تعود إلى مصورين يعملون مع وكالتي “أسوشيتد برس” و”فرانس برس”. تحكي صورهم، وتخفي أشياء أخرى. تؤرشف لنا الحدث في حد ذاته، إنما تبدو، في الوقت عينه، وكأنها بحثت جيداً عن البُعد الأعمق لما بعد الحزن المُظهّر أمام عدساتهم.

في صورة المكسيكي المتعاقد مع “وكالة فرانس برس”، خافيير مانزانو، ما هو خارج الصورة. هدف، أو عدو يُنتظر مروره ليتحول إلى ضحية.

ما هو خارج الصورة ليس أزمة، بل حرباً صارت في عامها الثاني ولم تشبع من القتل. لكنه، في عمله هذا، استطاع مانزانو أن يخرج من أهبة الإستعداد للقتل، بصورة فنية… مقاتلان من المعارضة السورية، أكياس رملية مستحدثة تحمي موقعهما المحصن للقنص، وباب حديدي “لكاراج” يتمراكزان فيه، يحمي وجودهما في كرم الجبل في حلب. باب تحول علامة فارقة لدى مانزانو. يقول المصور، الذي لطالما صور تقارير عن المخدرات وقضايا أخرى عند الحدود الأميركية المكسيكية: “دخلت إلى ذلك الموقع في كرم الجبل في حلب، ورأيت الضوء يأتي إلي، كان متوجهاً نحوي، وقفت والتقطت صورتي”.

لا أحد يدري عدد القتلى الذين رآهم المصور، أو كمية الصور المدماة التي حُفظت في ذاكرة الكاميرا، لكنه قرر أن يختصر معركة طاحنة في لقطة ضوئية، إن أمكن القول. فتلك الشعاعات الفنية هي ثقل الصورة، وليس المقاتلين أو أسلحتهما، ولا حتى ثقب الجدار الذي سينهي حياة عدو إن وُجد في مرمى نيرانهما.

حيث وقف مانزانو وقرر أن يلتقط صورة، جاء إليه الضوء من حيث لا يدري. إنما لم يكن هناك وحده في “حدث” حصري، بل كان معه في الموقع نفسه، زميله المكسيكي أيضاً نارسيسيو كونتراريس. الأخير إلتقط صورة للمشهد ذاته، إنما من زاوية أخرى، ولم يتقدم بها إلى الجائزة، لكنه اختار أن يتقدم بصورة لمقاتلَين اثنين في موقع الجديدة، مصوّراً إنعكاسهما على مرآة باقية من أثاث بيت تحول موقع قتال.

وفاز كونتراريس عن فئة صور “الأخبار العاجلة”، متقاسماً الجائزة مع زملائه رودريجو أبد، ومانو برابو، وخليل حمرا، ومحمد حسين.

الصور الفائزة عن الأحداث في سوريا، تخرج إلينا من بين صورة كثيرة عن الدماء السائلة بلا توقف.

لأسباب كثيرة، يهيأ إلينا أن هذه الصور “ألطف” ما يمكن لوسائل الإعلام وللجمهور إحتماله. بمعنى أن ما يحصل على أرض الواقع، وقد تلتقطه عدسات المصورين يتخطى قدرة الإعلام على النشر. من هنا جاءت هذه الصورة وكأنها منتقاة بعناية، من بين فظائع تتسرب إلينا عبر مواقع التواصل الإجتماعي وفيديوهات “يوتيوب”.

هي صور بدمائها القليلة “نسبياً”، وبحجم الفجيعة المهولة في مضامينها، تبدو أكثر تأثيراً من صور قاسية، حاقدة، عنيفة تخرج من عمق الحرب. هنا في المسابقة، صور عن القتل ومرادفاته وكل ما يجري على هامشه. هذه الصور، بكل ثقلها، لا تشبه بأي شكل من الأشكال لقطات الأجساد المقطعة والأطراف المتناثرة والعيون المقلوعة… وتتفوق برسالتها على صور فجة من قبيل رأس يُشوى على منقل للفحم.

قبل أن تحل السكينة

ونعود في صورة مانيو باربو (أ ب) لنقف أمام الفجيعة. امرأة بثياب صلاتها البيضاء المضرجة بالدماء، وغطت وجهها الصدمة. أمام الكاميرا، تقف المرأة مذهولة، خارج مستشفى دار الأمل في حلب – شمال سوريا. إنها صورة لما بعد الحدث بقليل، وما بعد القصف… ومن قبل أن يبرد الألم.

بين الصور الفائزة في “بوليتزر” لا نجد صوراً للنظام أو لمقاتليه. كل ما نراه هو رأس النظام مشتعلاً. تحرق مجموعة من المتظاهرين، في صورة رودريغو أبد (أ ب)، في إدلب، صورة الرئيس التي لطالما أجبروا على رفعها في مدارسهم ومكاتبهم وأحياناً في بيوتهم وسياراتهم. ونعود لنرى النظام كقاتل فقط، قاتل لا يظهر بشكل مباشر، إنما في ما يسيله من دم ودموع. صورة ثانية لرودريغو أبد تؤرخ دموع الطفل أحمد إلى الأبد. الطفل يبكي والده عبد العزيز أحمد خير، في جنازته في إدلب. في هذه الصورة أيضاً، ما هو أبعد من الحدث نفسه، ما بعد الجنازة. نرى الخاسر الأكبر بعد رحيل الفقيد.

وأحياناً، لا يحتاج المصور عينه إلا أن يقف أمام ذلك الوجه المغمور بالأسى. عينا عايدة الخضراوان، والدماء المتجمدة حول أظافرها وعلى بشرتها أكثر من كافية لنفهم قصة عن خسارة عايدة لطفليها وزوجها. قصة تختصر سوريا وأزمتها وأحداثها وحربها وثورتها، تختصر ما يجري هناك، ويحتمل تسميات شتى.

 جمّدت عايدة السنتين، وستجمد السنوات المقبلة في عيوننا. الصورة فعلت ذلك، لكنها تتحول أحياناً قصة، جمدت في مكانها، ونحن نتفرج عليها عن بُعد.

ربحت الصور… فماذا تربح سوريا؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى