صفحات العالم

بين الحالة السورية والحالة الايطالية


د. عبدالوهاب الأفندي

(1) في هذا الأسبوع، يقف الاقتصاد الإيطالي على حافة الانهيار، حيث بلغت ديون البلد ومعدل الفوائد عليها حجماً يفوق طاقتها على تحمل أعبائه منفردة. وهذا بدوره يتطلب فرض الوصاية الأوروبية والدولية على الاقتصاد الإيطالي بعد عجز الدولة الإيطالية عن الوفاء بالتزاماتها الاقتصادية. وفي نفس الوقت يواجه النظام السوري إعلان إفلاسه السياسي عندما ترفع الجامعة العربية الغطاء السياسي عنه وتفتح الباب أمام الوصاية الدولية والإقليمية على سورية.

(2)

يذكرنا هذا الوضع بأنه في الاقتصاد كما في السياسة، فإن المسافة بين الواقع وتصوره تتلاشى في كثير من الأحيان. فمكانة الأنظمة، مثل سلامة الاقتصاد، تعتمد على الثقة بعوامل القوة، وذلك استناداً على المعتقدات والانطباعات السائدة. على سبيل المثال، يصعب تصور انهيار الاقتصاد الأمريكي رغم أن حجم ديون أمريكا تجاوز كل حدود المعقول، كما كان من الصعب تصور انهيار الدولة السوفييتية قبيل تهاويها وتفككها. كذلك لم يكن هناك من يتوقع انهيار مصرف أمريكي عريق وضخم مثل ليمان بروذرز في عام 2008.

(3)

هناك خيط رفيع بين الخداع والمهارات الإعلامية حين يتعلق الأمر بهيبة الدول أو سمعة المؤسسات الاقتصادية. فمعظم أهل الشأن يثقون بالمصرف أو المؤسسة الاقتصادية لأنهم يعتقدون أن الآخرين يثقون بها. وبالتالي فإن سمعة المصرف أهم من رصيده الفعلي، لأنه اذا انهارت سمعة المؤسسة فإنها تتعرض للإفلاس بسرعة لأن الناس يتسابقون على سحب أرصدتهم أو بيع أسهمهم، فيقع الانهيار.

(4)

ولكن إذا كان السمعة لا تقوم على أساس سليم، فإن انهيار المؤسسة يتم عاجلاً لا آجلاً، خاصة إذا تعرضت السمعة لامتحان كبير. وقد يحدث هذا إذا تغير الجو العام، حتى إن لم يحدث تغيير في ظروف المؤسسة. ولا ينطبق فقط على حالات الخداع السافر المتعمد، كما كان حال المستثمر الأمريكي الشهير برنارد ميدوف الذي أدين عام 2009 بتبديد أكثر من خمسين مليار دولار من أموال المودعين كان يتظاهر باستثمارها. فكثير من المصارف التي لم تتعمد الخداع انهارت بسبب تورطها في معاملات إشكالية عقب أزمة عام 2008.

(5)

حالة النظام السوري قد تكون أقرب منها إلى حالة برنارد ميدوف منها إلى حالة الاقتصاد الإيطالي أو مصرف ليمان بروذرز، لأن الانطباع المتوهم بأن سورية دولة قوية قام على أسس واهية ومحاولات متعمدة لعكس صورة خاطئة. فقد تعمدت الدولة السورية عقد صفقات ‘ديون’ سياسية لا يستقيم الجمع بينها على المدى الطويل، ومارست الابتزاز السياسي على طريقة عصابات المافيا حتى تخلق الانطباع بأنها قوة إقليمية لا يستهان بها.

(6)

على سبيل المثال نجد سورية عقدت منذ الثمانينات تحالفاً وثيقاً مع إيران جنت منه الدعم المالي والسياسي والعسكري، ولكنها في نفس الوقت استندت على هذا الدعم لممارسة الابتزاز لإجبار دول الخليج المعادية لإيران لتقوم بدعمها أيضاً. وقد رفعت سورية راية العداء للغرب، ولكنها عقدت صفقات سرية وعلنية مع الغرب، كما حدث حين تدخلت في لبنان بمباركة غربية وعربية لضرب المقاومة الفلسطينية في لبنان عام 1976، وشاركت في الحرب على العراق عام 1990. وقام النظام بتصفية وضرب الإسلاميين في سورية، ولكنه تحالف مع منظمات مثل حماس وحزب الله والتنظيمات السلفية في العراق.

(7)

هذه الممارسات تشبه ‘الفهلوة’ التي يعمد إليها بعض المتطفلين في السوق، وعلى طريقة برنارد ميدوف، الذي كان يأخذ أموال المشاهير والأغنياء ويتظاهر باستثمارها، بينما يقوم بتوزيع هذه الأموال على أنها أرباح للمستثمرين. وكان هذا بدوره يدفع أغنياء كثرا على إيداع أموالهم لديه لأنه يدفع من ‘الأرباح’ ما لا يقارن بأي مصارف أو مؤسسات أخرى. وبنفس الطريقة فإن النظام السوري كان يعتمد على دعم إيران لابتزاز دول الخليج، ويستخدم حركات المقاومة للضغط على إسرائيل والغرب، وهكذا.

(8)

انهيار ‘المصرف’ السوري بدأ مع عملية اغتيال الحريري عام 2005، وهي تندرج في ألعاب ‘القمار’ التي ظن النظام أنه أتقنها، ولكنها انتهت بخسارة كبرى، أفقدت النظام موطئ قدمه في لبنان وأفقدته السند الخليجي، وجعلته مكشوفاً للضغوط الخارجية. ومع تفجر ثورات الربيع العربي، التي تشبه في بعض أحوالها أزمة عام 2008 المالية، بدأت كل الأنظمة ذات الرصيد المهتز تتهاوى، وكان النظام السوري من أولها.

(9)

في الحالة السورية، كما في الليبية واليمنية، وبدرجات متفاوتة، تعامل النظام مع انكشاف رصيده بمحاولات لإخفاء هذا الانكشاف بمزيد من ‘الديون’، حيث اعتقد أنه يمكن أن يستعيد ‘رصيده’ عبر استخدام أساليب الإرهاب والابتزاز التي ضمنت له في السابق خضوع الناس واستعادة زمام المبادرة. ولكن ما لم يدركه النظام هو أن المفلس يصبح في وضع أسوأ حين يستزيد من الديون، وهو على كل حال لن يجد من يقرضه.

(10)

في أيطاليا كما في اليونان من قبلها، استقالت الحكومة وأعلنت الدولة الخضوع لشروط الدائنين، لأن البديل هو الانهيار الكامل. في مصر وتونس كذلك سلمت الأنظمة بإفلاسها بعد أن نفدت أرصدتها وذخائرها. أما في ليبيا واليمن فقد أصرت الأنظمة على أن تغوص أكثر في المستنقع، والنتيجة معلومة.

إلا أن النظام السوري ظل الأكثر عناداً، لأنه ما زال يرفض الاعتراف بالإفلاس، ويقوم في كل يوم بطباعة عملة مزيفة وعرضها على الناس دون أن يقبلها منه أحد، ثم يبدي استغرابه لإجماع الخلق على فقره وإفلاسه. وتوشك الآن شرطة مكافحة والتزوير أن تلقي القبض عليه بتهمة الاحتيال والغش والتزوير وتطبيق العقوبات المناسبة في حقه.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى