صفحات الرأيطيب تيزيني

بين الحرية والاستبداد

 


د. طيب تيزيني

نادراً ما خلا الخطاب الاستشراقي، خصوصاً في مراحله الأولى، من مقولة اتضح لاحقاً أننا قد نلخص هذا الخطاب بها. أما هذه المقولة فتقوم على المقابلة بين الغرب والشرق مقابلة كلية وشاملة، فهذا هنا وهذا هناك، دون أن يقارب بينهما أمر أو آخر. وقد وجدت هذه الصيغة من الخطاب الاستشراقي تبلورها اللغوي المنطقي والأيديولوجي في ما قدمه الشاعر الإنجليزي كيبلنج، حين كتب: الشرق شرق والغرب غرب، ولا يلتقيان، مع العلم أن الخطاب المذكور لا يتجسّد في هذه الصيغة وحدها فحسب، إنه أكثر غنى من أن يُختزل إلى ذلك، مع التنويه الضروري بأن مفهومي الشرق والغرب ظلاّ دائماً في مقدمة ما يشتغل عليه هذا الموضوع. وإذا كانت الحروب الصليبية إحدى مرجعيات هذه المسألة، فعندها ندرك خطورة البحث فيها، في وجهها الأيديولوجي، أن يكون الشرق موضوعاً لبحث أكثر أعداء الغرب تخلفاً واضطراباً وقصوراً. وسيُقال كذلك، إن هذه الصفات الثلاث (التخلف والاضطراب والقصور)، إنما هي حالات تكمن في “طبيعة” الشرقيين، وليست هي -من ثم- حالات قد تكون طارئة وفق التحولات، التي يمر بها هؤلاء في مرحلة أو أخرى أو ثالثة.

على هذا النحو، يوضع “التاريخ” في تضاد مع “الطبيعة”، وقياساً على ذلك، نجد أمامنا الموضوعة التالية: كل ما يتعلق بالشرق والشرقي، يجد مرجعيته كامنة في “الطبقية البيولوجية”، التي تكاد لا تجد مجالاً للتغير والتقدم، لا اليوم ولا غداً! أما ما يتعلق بالغرب والغربي فيجد مرجعيته كامنة في “التاريخ” المؤسَّس على التغير والانتقال من وإلى، مع الإقرار بالاحتفاظ بـ”الطبيعة” البيولوجية شبه الثابتة.

ومع الثورات الاجتماعية والعلمية الفسيحة والكبيرة في أوروبا، راح يتضح أن ذلك ينعكس بقوة في الحقل الغربي ومن ثم في إمكان هذا الأخير، وكذلك أيضاً إنتاجه وإعادة إنتاجه وتطويره. وفي هذا وذاك، راحت طلائع المستشرقين ذوي الرؤية العرقية يعلنون إن ذلك مقصور على الأحرار، أي على الذين يملكون القدرة على الحراك على الفعل التاريخي المبدع. ووصل أهل البيت العربي إلى النتيجة التالية: “إما الحريات الديمقراطية وما يقترن بها من فوضى ومن خروج على إرادة القائد، وإما بالانصياع للدولة الأمنية الآمنة”.

ومع التدخل الغربي الاستعماري الحديث في العالم العربي وبلدان أخرى، وُلدت نُظم عربية من موقع المصالح الاستراتيجية الغربية. فكان أن أخذ الغرب المعني يكرس التضييق على ذلك العالم اقتصادياً وسياسياً وعلمياً وحضارياً وغيره، بحيث بدا الأمر، أي إمكانية عدم تقدم الشرقيين -بعكس ما هو الحال مع الغربيين- كما لو أنه من طبائع الأمور. وهذا، بدوره، عمَّق الفجوة الواقعية بين الغرب والشرق، خصوصاً في سياق إخفاق المشروع العربي النهضوي ومع اتفاقية كوتايه، بين إبراهيم باشا وأبيه محمد علي من طرف، وبين الغرب آنذاك من طرف آخر، وإلى الآن حيث اندلعت الانتفاضات الشبابية الواعدة.

ونلاحظ أن تعاظم الاستبداد في تلك النظم العربية شيئاً فشيئاً على نحو حثيث وكذلك على مدى ما يقترب من نصف قرن، جلها قادرة على أن تضع يدها على كل شيء في المجتمعات العربية، مما أدخلها بقوة في “الاستبداد الرباعي”، القائم على الاستئثار بالسلطة وبالثروة وبالإعلام وبالمرجعية العامة، فكانت -بذلك- قد كرّست ما ورثته من مخلّفات الاستعمار المذكور آنفاً. وقد اتضح حقاً، على امتداد تلك العقود الخمسة المنصرمة، أن بناء الأوطان إنما هو مهمة عظمى تحتاج الحرية والديمقراطية، في عصر انتقل من الليبرالية الطائشة في أبوابها المفتوحة، إلى الاستعمار، والآن إلى النظام العولمي. أما هذا الأخير فقد رفع مشكلات العالم العربي والعالم عموماً، إلى سقفها، فوضعهما كليهما أمام الخيار المعقد إلى حدود قصوى والمتمثل في ما يلي: إما أن تُجيب عما يحاصرك من معضلات راهنة همومية وأخرى موروثة من عقود سابقة معلّقة، وإما أن تخرج من التاريخ! فكيف العمل في حالة ظلت النظم العربية الاستبدادية فيها سيدة الموقف؟ ولعل حسماً ما جديداً يحدث مع الانتفاضات في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن.

الاتحاد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى