صفحات الحوار

جاك لوغوف: «الفانتسمات» الجماعية تشكل جزءاً من التاريخ

اسكندر حبش

غيب الموت الثلاثاء الماضي، المؤرخ الفرنسي الكبير جاك لوغوف الذي يعتبر من أكبر مؤرخي هذا العصر، بشهادة العالم بأسره، وهو الذي اختص بالعصر الوسيط. هنا ترجمة لمقتطفات أجرتها معه صحيفة لوفيغارو، منذ سنوات، وقد أعادت نشرها بعيد رحيله، وتقدم نظرة حول عمله وتفكيره.

÷ ما معنى أن نجد لغاية اليوم أن الكثير من الأفكار الخاطئة لا نزال نتناقلها، بخصوص بعض الأحداث في حين أن أعمال المؤرخين قد أدرجت الوقائع؟ بهذا المعنى، ألا يجد المؤرخ منافسة من كاتب الحكاية؟

هذا ما كان عليه الأمر دائما. علينا أن نعرف، أنه لغاية الثورة الفرنسية، لم يكن التاريخ يُدرّس لا في المدارس الثانوية ولا في الجامعة. وبأنه في القرن التاسع عشر، كانت الأساطير والخرافات تسير بسهولة أكبر من الآن. كان للخيال سلطة أكبر في الماضي. منذ الأزل والبشر يحبون أن نروي الأقاصيص لهم. وبالرغم من تقدم المعرفة، ثمة موضوعات تستمر بالحياة. يقال إن التاريخ كان دائما رواية. يتمنى الجمهور أن يكون التاريخ رواية جيدة.

÷ الأفكار المعروفة تستمر إذا حتى وإن كان عمل المؤرخ قد حسم الأمر بالفعل؟

بالتأكيد. منذ قرن تقريبا، ثمة مؤرخون كبار من مثل مارك بلوخ وجورج دوبي، قد أظهروا بأن العصر الوسيط لم يكن حقبة سوداء، إلا أن الجميع يستمرون في تكرار موضوع «بربرية العصر الوسيط». ليس «الجهلة» من يستعيد هذه المقولة فقط بل ثمة أناس علماء أيضا، مثل ألان مينك وجاك أتالي. ربما لأن الدين كان عاملا مهيمنا في ذلك الوقت، صنعنا من ذلك لحظة معتمة من التاريخ البشري بينما نعرف أن العصر الوسيط، وهي الحقبة التي شيدت فيها الكاتدرائيات، كان عصرا لامعا، مبدعا. وحتى يجب أن نملك الجرأة على القول إنها كانت حقبة تقدم.

÷ من بين الحكايات المتعلقة بالعصر الوسيط، هناك واحدة تتحدث عن جان دارك تفيد أنها لم تمت حرقا في مدينة روان.

جان دارك هي من أكثر شخصيات العصر الوسيط التي تم ّ البحث عنها. ومع ذلك فإنها هي التي لا تزال تثير الأساطير حولها والأفكار الخاطئة. في القرن الخامس عشر، حين كان يختفي شخص ذو شعبية كبيرة، في ظروف استثنائية، كان لدينا الميل إلى عدم تصديق موته. يحدث أن تكون هناك كائنات تبحث عن مصيرها يُعتقد أنها هي من مات. هذا ما حدث في حالة كلود دي أرمواز بعد موت دو لا بوسيل. لكن أن نستمر في تغذية هذا النوع من الشك، فالأمر يصبح فضائحيا. قد نشعر بالدهشة حين نجد أن قناة تلفزيونية مثل «أرتي» قد قامت باسترجاع هذه الفانتازيا. لقد شرحت كوليت بون، التي كتبت أفضل كتاب حول جان دارك، ما هو عليه الأمر. إننا على يقين أنه تمّ إحراقها على يد الانكليز في روان. ونعرف، وبخلاف الأسطورة، بأنها كانت قروية ميسورة الحال، لا راعية فقيــرة. ما لن نعرفه أبدا، طبيعة هذه الأصوات التي كانت تســمعها.

÷ هل لا تزال هناك شخصيات كبيرة لا تزال ترفرف حولها ألغاز مهمة؟

أجل، شارلمان على سبيل المثال، إذ لا نعرف عنه الشيء الكثير.الغريب أننا نؤلف الألغاز أكثر حول الشخصيات التي نعرفها جيدا، كما هي الحال مع نابليون الذي نحن على يقين أنه توفي من جراء مرض السرطان العام 1821 وليس مسموما بمادة الأرسنيك مثلما ادعى البعض. ثمة آخرون اختفت سيرهم. ربما لأن هذه الشخصيات التي تفتتنا لا تجعلنا مقتنعين بواقعها لذلك نفضل الاستمرار بنسج الخيال حولها..

÷ ثمة هوس حقيقي يتعلق أحيانا ببعض الظواهر، كما بظاهرة «الكاتار» على سبيل المثال. هل لأن الأمر يغذي هذا الميل للخارق؟

أعتقد أني كنت من أوائل الذين بينوا أهمية المتخيل في التاريخ. مهمة المؤرخ أن يرتكز على وثائق صحيحة إلا أن الفانتسمات الجماعية تشكل أيضا جزءا من التاريخ. ما من أدنى شك أن المتخيل يلعب دورا كبيرا في ما يتعلق بموضوع الذين تمّ تضخيم عددهم وأهميتهم. هناك بعض المؤرخين الذين ضخموا هذه الظاهرة.صحيح أن هناك بعض الكاتاريين الذين عوملوا بقسوة كبيرة، إلا أن عدد الذين أحرقوا منهم هو أقل مما يقال. حين أرى ما نعرفه عن أفكارهم فأنا أهنئ نفسي، لا لأنهم عوملوا بقسوة ـ فاختراع الكنيسة لمحاكم التفتيش كان أمرا كريها ـ بل لأنهم هزموا. لو ربحوا المعركة، لوجدنا أن الذي انتصر معهم كانت مسيحية عنيفة ومتصلبة، وبمعنى ما كانت مسيحية إرهابية. كانوا يرغبون على كل المسيحيين أن يعدموا المتعة. كانوا بمثابة «طالبان».

÷ من الحملات الصليبية إلى نابليون، يبدو أن التاريخ أصبح بمثابة رهان سياسي. هل أن البحث (التاريخي) يبدو مهددا بالايديولوجيا؟

مهنة المؤرخ ترتكز على فهم نسق قيم العصر الذي يدرسه لا في الحكم على بشر تلك الفترة. شخصيا، لا أحب أن أحكم. أتذكر جملة القديس بولس: «لا تدينوا». لكن علينا أن نشرح، وذلك كي نفهم حساسية نساء ورجال العصر المعني. من هنا علينا أن ندرس التاريخ بكليته. تاريخ حدث في عصر لا يمكن أن نفرقه عن الفن والأدب. ما معنى العصر الوسيط بدون «أغنية رولان» أو الرواية الأرتورية؟ في حين أني على يقين بأن التاريخ قد قام بخطوات كبيرة نحو الموضوعية، حتى وإن كان لا يمكن له مطلقا أن ينأى بنفسه عن ذاتية المؤرخين وعن الروح الايديولوجية المنهجية. التاريخ ليس علما دقيقا لكنه علم نجد أن أدواته بالتحقيق مصنوعة من أجل أن نصل إلى الحقيقة والصدق.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى