صفحات سوريةوهيب أيوب

بين سكّين الجزار وحنجرة القاشوش


وهيب أيوب

بعد عقود من استقرار مستنقع البعث الآسِن في سوريا، جرت مياه كثيرة تحت الجسر منذ الخامس عشر من آذار الفائت، وسوف لن تتوقف.

ربما يستغرب كثيرون كيف كان يبدو هذا النظام قوياً ومتماسِكاً، وأنّه كان يسيطر على الأوضاع في سوريا؛ لقد كان هذا النظام يقوى على حساب ضعف الدولة. لهذا وصفَ بروفيسور إسرائيلي سوريا، أنها نظام قوي ودولة ضعيفة. وهذا ما كان يُطمئِن الإسرائيليين ويُريحهم من جهتهم الشماليّة التي تجمّد الرصاص فيها على جبهة الجولان لما يقارب الأربعة عقود، وهذا سرّ قلق إسرائيل من احتمال سقوط النظام السوري اليوم في أخطر امتحان يواجهه مع الشعب منذ استيلائه على السلطة، الذي ولا شكّ أنّ النظام أجرى معهم تفاهماً أو اتفاقاً، فحواه أن يحافظ النظام في سوريا على هدوء الجبهة من ناحيته في الجولان، مقابل التزام الإسرائيليين بعدم العمل على زعزعته، بل الترويج له في أوروبا وأميركا. هذا إذا كنا لا نريد الذهاب لأبعد من ذلك حاليّاً.

عبر خطّة مُمنهَجة، قام النظام منذ انقلاب حافظ الأسد عام 1970 بإقصاء مؤسّسات الدولة عن ممارسة دورها، جاعلا منها مجرّد واجهة لنظام حكمه، ومستعيضا عنها بتأسيس أكثر من خمسة عشر جهاز أمن يمسكون بكل مقدرات الدولة لصالح الفئة الحاكمِة، اقتصادياً، سياسياً، اجتماعياً وتعليمياً.

منذ انطلاق الاحتجاجات في درعا، لجاَ النظام مباشرة إلى الرصاص، ثم الدبابات والطائرات، ولم يكن لمؤسسات الدولة المفترضة كمجلس الشعب والجبهة التقدمية ومجلس الوزراء أي دور يُذكَر في إدارة الأزمة. لهذا فإننا لم نرَ أحدا من الجبهة التقدمية يظهر على الفضائيات التي تقوم بتغطية الأحداث في سوريا، واستعاض عنهم جميعاً بعشرة أو خمسة عشر نفراً مِمَن يُسمّون محللين سياسيين وأساتذة جامعات، أطلق عليهم الدكتور برهان غليون لقب “شبّيحة الإعلام” للدفاع عن النظام وحسب، فأخذوا يجترون الكذب ويلوكونه يومياً ويبصقونه على الفضائيات.

وباستثناء تصريحات بثينة شعبان ووليد المعلّم والمؤتمر الذي ترأسه فاروق الشرع، ويعلم جميع السوريين أن هؤلاء وسواهم مُجرد ديكور لا رِباط على كلامهم أو اقتراحاتهم، إذ تقتصر وظيفتهم على التسويف وتضييع الوقت لا أكثر؛ حيث صوت المدافع والرشاشات كان هو الأعلى.

لقد ذُهِل النظام من هول ما رآه وسمعه من المتظاهرين، وكيف أنّهم بلغوا من التحدّي والإصرار في كسر حاجز الخوف والرعب الذي أسكتهم لعقود حد تمزيق صور رأس النظام وتحطيم أصنام والده الذي كان يصوّره أتباع النظام وكأنّه آلهة يمشي على قدمين، ثم ينعتونه بأبشع الكلمات، ليس أقلّها ما كان يصدح به كروان الثورة إبراهيم القاشوش، الذي بلغ حقد النظام عليه أن قتله وحزّ حنجرته بالسكين. وقد سبق أن قام بتعذيب الطفل حمزة الخطيب وقطع عضوه ثم قتله وتشويهه على نحو مُريع.

يستغرب البعض مدى الوحشية والعنف الذي يقابل فيه النظام أبناء شعبه؛ لكن ما لا يعلمه كثيرون أن في العالم العربي عامة، الذي لا تسوده القوانين والدساتير الفاعلة والبرلمانات المُنتخبة ديموقراطياً، حيث يغيب القضاء وينعدم تداول السلطة، أن الاستيلاء على السلطة بالنسبة لمن استطاع، هو بمثابة غنيمة، وليس مجرد حُكم ورئاسة! لهذا تتحوّل الدولة برمّتها إلى مجرّد غنيمة، والغنيمة لا تحميها سوى الأظلاف والأنياب المُدجّجة بالنار والحديد، وبعقلية العصابة لا رجال الدولة. والعصابة عادةً تؤسّس جيشاً وقوى أمنية لحمايتها لا جيشاً ليحمي الوطن والمواطن. وهنا يفقد الوطن بالنسبة لهؤلاء أي معنى أو قيمة حقيقية، سوى كونه غنيمة بكل ما فيه، وهم ينظرون لأي معارضة أو حركة احتجاج على أنها مجرّد منافس من أجل اقتسام الغنيمة أو الاستيلاء عليها، من هنا وجب الاحتفاظ بالغنيمة مهما كلّف الثمن، ودون ذلك الكارثة.

ما يوضِحُ تلك الذهنية المتأصّلة في عقول المستأثرين بالسلطة، هو ما صرّح به يوما وزير الدفاع الأسبق، سيّء السمعة والصيت مصطفى طلاس، إذ قال: “لقد استولينا على السلطة بقوّة السلاح، ومن يريدها فليجرّب حظّه”.

من هنا تأخذ مسألة حكم الناس من قِبل الفائز بالغنيمة ومن ضمنها الشعب، شكل الأسياد والعبيد، وأما تمرّد العبيد فلا يُعالج بالحوار والدبلوماسية والسياسة، بل بما هُيئ له بأن يُعالج، وهو القتل أو السجن أو التنكيل حتى الخضوع.

ضمن هذا السياق، سوف يكون المخاض عسيراً على الثوار المنتفضين ضد جلاّديهم، فهذه الثورة، في النهاية، قدرها، إما أن تنتصر أو تنتحِر، لأن مسألة الإصلاح والحوار غير متوفّرة في تركيبة وذهنية هذا النظام العصابة. وتراجع المنتفضين الثائرين يعني فقدان حريّتهم من جديد، التي فرضوها بدمائهم وتضحياتهم على الأرض، لا بالحوار على الطاولة، ولا باستجابة النظام.

مِن هنا، يصبح من المستحيل تحقيق أي تسوية أو حوار مع نظام لم يحتمل حتى مسيرة صغيرة لفنانين ومثقفين أرادوا التعبير عن موقفهم فيما يجري ببلدهم، فقوبلوا بالقمع والاعتقال. فالحوار الذي يسعى له النظام، ليس سوى محاولة عقيمة لاستعادة فرض إرادته وهيبته؛ تلك الهيبة والجبروت التي فقدها تحت إصرار وتحدّي صيحات المطالبين برحيله كل يوم.

ولأن ما جرى في الأشهر الأربعة المُنصرِمة فاق كل ما يتصوره مواطن في بلده بأن يُعامل من قبل حاكميه على هذه الصورة الوحشية الهمجية، فإن العدّ التنازلي لمرحلة عضّ الأصابع أو كسر العضم قد بدأت، لكن الثوار حسموا أمرهم وقرّروا السير حتى النهاية.

إنّ وهم النظام باستعادة سلطته التي فرضها بالقمع والترهيب، والتي بلغت من الزمن عتيّاً، قد بات ضربا من المحال، فكما أنه لا يقدر على إعادة حنجرة القاشوش إلى أصلها، وعضو حمزة الخطيب إلى موضعه، فإنه غير قادرٍ على إدارة العجلة إلى الخلف مهما حاول إعاقة تقدّمها.

الجولان السوري المحتل / مجدل شمس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى