بدر الدين شننصفحات سورية

بين غربتين

بدر الدين شنن
كان يزورها في اليوم الواحد أكثر من مرة . لم تشغله عنها وعن أولادها كثرة مشاغله وهمومه .. إنها بالنسبة إليه توأم روحه الحبيب .. والنبع النقي الذي يغمره بالود والوفاء والإلفة في مدارات أيامه وعمره .. عيونها الزرقاء الصافية ، ووجهها الملائكي الجميل ، وعفويتها الرقيقة البريئة ، لمسات يدها لمواضع الألم في جسده ونفسه التي تمنحه الدفء والرحمة ، تحتل في قلبه مساحة هي أكبر من أن يحدها وصف أو تقدير .. وتتموضع صورتها ثابتة في مقلتيه أنى حل وأنى رحل . حتى في سنوات غربته الأولى ، قبل أن تحول بينهما القضبان ، كان ينتزع وقتاً يسيراً من الخوف والمخاطر ، ليطل عليها كطائر الحب ، ليستمد منها إلهاماً جديداً يقوي عنده الإحساس بروعة الحياة والحنو والأمل .
لكنه بعد أن استحالت عليه الحرية وغادر إلى المنفى .. وتمكنت منه شباك غربته الأمر الثانية .. صار يتصل بها في الأعياد عبر جهاز الهاتف . خلال عشرين عاماً اتصل بها أقل من أربعين مرة . وكل الزمن الذي استغرق محادثاتهما الهاتفية هذه ، لايعادل ربع الزمن الذي كانت تستغرقه زيارة واحدة من زياراته لها ، حين كانت الشمس تشرق على الخير ، وحركة دلات القهوة ، وتغاريد الطيور ، وهرولة التلاميذ نحو المدارس ، ولايشبع منها .. ولاتشبع منه ..
صباح العيد الأربعين الذي حل عليه .. كانت رغبته في مهاتفة الغالية جامحة .. إذ ليست الأيام التي جاء فيها هذا العيد عادية . والشعور بالفقد لها لم يكن عادياً . وشوق طافح لسماع صوتها ورؤيتها كان صعب الاحتمال .
ربما غلب عليه الإحساس .. أن العمر لكليهما .. قد بلغ مشارف النهاية .. ولابد من كلمة وداع .
ربما هو الحنين .. إلى أن يقفز طائراً إليها .. إلى حيث مازالت تتعاطى الحياة مع أحفادها يوماً بيوم .
ربما هو التفكير المزمن ، الذي يحضه ، رغم صعوبة الظروف ، ومهما كان الثمن ، ليبشرها بقرب عودته .. ليضع رأسه على صدرها ، ويشم رائحة العائلة ، التي لم يهنأ بها ، ورائحة الوطن الذي حسب أن دروب العودة إليه قد انسدت أو كادت .
وعندما هم بالضغط على أزرار الهاتف ، توقف كمن يجري العد العكسي قبل القيام بأمر كبير الأهمية . وفكر ماذا عليه أن يقول لها في هذا العيد . وصمم على ألاّ يكرر ما كان يقول لها في الأعياد السابقة .. التي كان يسألها فيها عن صحتها وصحة الأولاد ويحملها السلام للجميع دون تحديد الأسماء . وتنتهي المكالمة .. بأقل من دقيقة .. مبللة بدموعه ودموعها .. التي تنساب على سماعة التليفون بيده وبيدها .. حتى لايورطها بعد المكالمة بسؤال الأمن المترصد .. الذي قد يسألها .. ماذا كان يقصد بهذه الكلمة أو تلك .. ومن هو هذا وذاك .
احتار في ترتيب أولويات حديثه معها .. نعم حديثه معها . فهذه المرة ينبغي أن يفتح معها حديثاً .. أن يطمئن عليها وعلى الأولاد بعمق وإسهاب .. ينبغي أن يشرح لها أن شقاءه في غربته الثانية في المنفى ، حيث يعز الود والوفاء والصداقة .. ويحس الإنسان بانقطاع الجذور ، وفقدان الوزن ، واستلاب الكرامة ، لاتقل شقاء عن غربته الأولى في الوطن ، عندما كان مطارداً .. وعندما كان خلف القضبان .. يتناوب على إيذاء جسده سوط الجلاد وعضال المرض .
أن يقول لها .. أن الوطن يسكن فيه .. يعشعش في عينيه وفي قلبه وخلايا دمه .. ويتفاعل فواراً مع مشاعره على مدار نهاره وليله .
وأنه رغم برودة الطقس حيث يعيش ، يكابد الاحتراق شوقاً لأزقة وأتربة الحارات والساحات التي ترعرع فيها .
وأنه انتصر على الموت مرات عدة .. لأن رغبته الشديدة برؤية وطنه قبل أن يموت .. كانت تدفع عنه الموت .. وتساعده على انتزاع المزيد من الحياة .
وأنه يريد أن ينظر في عيون أحفاده الذين ولدوا وكبروا ولم يرهم بعد .. يريد أن يرى هذه الكائنات الجديدة ، التي تشق دروب حياتها وسط الظروف التي تتصاعب فيها الحياة وتزداد رهقاً .
وأنه عازم على تلبية طلبها خلال كل مرة يهاتفها .. متى ستعود ؟ .. متى سأشوفك ؟ .. أخاف …
ضغط على أزرار الهاتف ، التي تؤلف رقم هاتفها على بعد آلاف الكيلو مترات . كان كلما رن جرس هاتفها ويصمت .. كان قلبه يكاد أن يتوقف . وبأقل من الثانية تبرق الأسئلة في نفسه .. هل هي ليست بالبيت ؟ .. هل هي مريضة ؟ .. هل هي .. ؟ . كان تواتر رنين هاتفها هذه المرة مزعجاً ومقلقاً .
وجاء صوتها من بعيد واهناً :
– آلو ..
قال لها كالعادة :
– مرحباً ..
ردت عليه منتعشة قليلاً :
– أهلين ..
– كيف صحتك وصحة الأولاد ؟ ..
– أنا بخير .. نحن بخير .. وأنت ؟ ..
قال لها :
– أنا بخير ..
وصمتت .. تساءل في نفسه لم هذا الصمت .. كرر السؤال :
– كيف أنتم .. أريد أن ..
قاطعته .. ردت عليه بعبارات متهدجة :
– لاتأتي .. أرجوك أن لاتأتي .. نخاف عليك ..
وراحت تبكي .. ثم أغلقت التليفون .
انقطع الخط .. وانقطع صوتها .. وانقطعت معه نياط في قلبه .. واضطرب كيانه كله .. وانهالت على نفسه الأسئلة المريرة الموجعة . وكان السؤال الأكثر تردداً هو كيف عرفت أنه سيكلمها عن عودته ؟ .. هل هو التخاطر بينهما وحسب .. أم أنه توقعات قلبها النابض دوماً خوفاً عليه ؟ .. لماذا طلبت منه أن لا يـأتي .. ولم هي .. تخاف عليه ؟ .
هل يحق عليه الندم ، لأنه قد أزعجها ، بدل أن يريحها بعض الوقت ، بإسماعها صوته ؟ ..
ومع استرساله في التفكير بما وراء كلماتها ، أدرك أنها ، ربما تخاف عليه من أن تطاله الأحداث في هذه الأيام ، كما طالت إحدى بناتها الصبايا في أحداث مماثلة قبل ثلاثين عاماً .
وقد يكون هو الرعب الذي انتشر قبل ثلاثين عاماً قد أعاد انتشاره ، ليشمل بصورة أسوأ الأبرياء قبل المتورطين ، ليطال عجوزاً في الثمانين تعيش وحيدة في زقاق هامشي ، في حي ليس له شأن بما يجري ، في ساحات المدينة من تحركات ومتغيرات .
وتذكر الأيام الأولى لاعتقاله ، وتساءل ، لماذا شبه نفسه حينها بالفراشة .. أكان ذلك تعبيراً عن براءته وشفافية معتقده وشغفه بالحرية .. أم أنه كان مجرد أمنية عابرة بأن يكون حراً طليقاً مثلها .. يستطيع التنقل كما يريد من مكان إلى آخر برشاقة ومرح ؟ .
وفكر .. وخلص تفكيره إلى أن مثال الفراشة في الزنزانة لايتناسب وحاله الراهنة في المنفى .. الفراشة لايتجاوز مدى تحليقها سوى عشرات الأمتار .. بينما هو يحتاج لجناحين قويين ليحلق بهما آلاف الكيلو مترات ، فوق جبال وبحار لا تعد ، ومن ثم فوق ساحات وطن ’تشعل فيه الحرائق ، ليتمكن من الوصول إلى شقيقة وحيدة ، هي أم بعد الأم ، وإلى أحفاد يحبون فوق أشواك وحصى جارحة ، وإلى دار ومأوى حتى الانتقال إلى دار الآخرة ..
وخلص إلى أن على الفراشة أن تصبح نسراً ليتمكن من تجاوز مظالم وقهر زمنين وغربتين .
وانتقل من حيث يركن جهاز الهاتف إلى قرب النافذة ، وعاد ’يشبه نهر الراين بدجلة والفرات .. و’يشبه أشجار الغابة بقربه بأشجار النخيل والزيتون والفستق الحلبي .
وعند المساء .. عاد يبحث في عيون القمر عن وجوه أحبة .. لم يعد باليد لقياها .. وعن صور لبقاع يضمها الوطن .. ليس في الكون كله .. ما هو أحلى وأغلى منها على قلبه .
وغدا يكرر طوال يومه .. كما البسملة على لسان مؤمن متصوف .. هل ستسمح الظروف وبقايا العمر أن يسمع الغالية ، عبر الهاتف البعيد الآخر ، تسأله ، في العيد القادم ، عن صحته ، وعن موعد عودته ، ولتحثه على الاستعجال بالعودة ، تذكره بياسمينة الدار التي تنشر عطورها حتى الجار السابع ، وبدالية تظلل حوض الورد والفل والقرنفل ، وبفنجان قهوة الصباح ، وبذكريات الطفولة وأحلام الصبا ، وبأحفاد سوف يتضاحكون ويعربدون حوله ويتنافسون على الجلوس في حضنه ؟ ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى