صفحات الرأي

سياسات العالم: التخبط والتورط والتواطؤ/ علي حرب

 

 

ثلاث كلمات تلخص أحوال العالم، كما تجسدها سياسة معظم اللاعبين على المسرح العربي: التخبط، والتورط، والتواطؤ.

لنتأمل المجريات وسط المشهد في ما يخص العلاقة بالمنظمات الإرهابية التكفيرية والأنظمة الديكتاتورية الفاسدة. فالكل قد ساهموا في البداية بتصنيع الإرهاب وتصديره، أو برعايته ودعمه، أو باستثماره وتشغيله.

لكن الأمور جرت بعكس ما تشتهي الدول الكبرى والقوى الفاعلة. لقد استفحل خطر الإرهاب وارتد عليها. ولذا نراها الآن تعمل على محاربته، على الأقل على مستوى الخطاب. وكما يعلن قادة أميركا وروسيا وإيران وتركيا، فضلاً عن الدول الأوروبية.

ليس هذا وحسب. بل هم باتوا يؤثرون بقاء النظام السوري الذي كان يدعم منظمة “القاعدة” بتفجيراتها البربرية في العراق، والذي أطلق عند اندلاع الثورة ضده تنظيم “داعش”، وتركه ينشط ويتوسع ،على مرأى ومسمع من العالم، لكي يقيم إمارته الجهادية الجهنمية على أجزاء من أراضي سوريا والعراق.

وتلك هي ذروة التخبط: (1) أن ندعم الإرهاب ونوظفه، ثم نطالب بمحاربته. (2) أن نتهم النظام السوري بأنه أرتكب جرائم في حق شعبه والإنسانية، أقلها استخدام السلاح الكيميائي، ثم نطالب ببقائه أو نعمل لإنقاذه.

هذه هي حال أميركا في ترددها بين المواقف المتعارضة. لقد تركت تنظيم “داعش” يحتل الموصل، ثم انبرت للتصدي له. وهي كانت قد أعلنت أنها ستوقف تدخلها العسكري في منطقة الشرق الأوسط، ثم وجدت نفسها مكرهة على أن تفعل عكس ما قررته.

وهذه حال تركيا مع الوحش “الداعشي”. لقد استغلته وسهّلت له المهام، ثم أعلنت الحرب عليه بعد أن ارتد عليها. وهذه حال المملكة العربية السعودية التي تحالفت مع أميركا لدعم “القاعدة،” إبان انطلاقها، لتجد نفسها بعد عقود تشنّ حرباً على حفيدها “داعش” الذي يستهدفها كلما أمكنه ذلك، بتفجيراته المروّعة في الأماكن العامة، أو حتى في دور العبادة التي لم تعد آمنة. ويا لها من فضيحة أنه بعد عقود من رفع شعار “الاسلام هو الحل”، ومن الدعوة الى الصحوة الدينية، نحصد كل هذه البربرية على يد الدعاة من جهاديين ومجاهدين.

وهذه هي حال إيران، في شكل خاص، بانتقالها من النقيض الى النقيض، أو بكونها لا تفعل إلا ما تأخذه على الغير. والوقائع صارخة في هذا الخصوص، تخبطاً وتورطاً.

فالنظام الولايتي كان يقف مع المنظمات الإرهابية في مواجهة الولايات المتحدة التى كانت بمثابة العدو المشترك للفريقين. غير أن النظام الايراني غيّر موقفه، بعد الاتفاق النووي، فعاد إلى الحظيرة ووقف في الصف لمحاربة التنظيمات الاهاربية. أضف الى ذلك أن إيران تعلن محاربتها الإرهاب التكفيري، فيما هي تتجاهل كونها تشكل نظاماً أصولياً تكفيرياً، لا ينفك عن فبركة المنظمات الإرهابية، تحت هذا المسمّى أو ذاك، سواء في العراق وسوريا أو في اليمن، فضلاً عن لبنان. هكذا اجتمع الأعداء الثلاثة، أميركا وإيران والمنظمات الإرهابية، على إيصال البلدان العربية التي يلعب هؤلاء الأعداء على ساحتها ويعبثون بمصائرها، إلى هذة النهايات الكارثية.

الوجه الآخر لهذا التخبط في المواقف، هو التورط في الانخراط في مغامرات غير محسوبة، أو في خوض صراعات تفوق قدرة إيران، بقدر ما تفضح نياتها العدوانية تجاه البلدان العربية، وكما اعترفت هي نفسها في ما بعد، أي بعد خراب بغداد وأخواتها.

لا مبالغة أو افتئات في التوصيف. فبعد أكثر من أربع سنوات من دعم إيران للنظام السوري بالمال والسلاح أو بالجنرالات والميليشيات، قد أخفقت إخفاقاً ذريعاً في إنقاذه. وهي بذلك قد استدرجت، من حيث تشاء، أو لا تشاء، القيصر الروسي لكي ينوب عنها في مهمة إنقاذ النظام الذي كان على وشك الانهيار. هذا مع أن الرئيس الروسي، ومنذ انفجار الثورة السورية، لم يتوقف أصلاً عن دعم النظام السوري، على المستوى الدولي، عبر فيتواته المشهورة والمتلاحقة في مجلس الأمن.

ما ينطبق على إيران، يصح على روسيا التي انكشفت بعد الأيام الأولى لتدخلها، من حيث تخبطها وترددها، سواء بالنسبة إلى موقفها من المعارضة السورية، أو من الرئيس السوري، وكما تشهد التصريحات المتناقضة الصادرة عن كبار المسؤولين الروس. بوتين لم يأت، بالطبع، بجنده وأسطوله وطائرته الى سوريا، لكي ينقذ النظام أو يدعم رئيسه لوجه الله أو لوجه إيران، وإنما فعل ذلك لما يعتبره أو يظنه متوافقاً مع مصالح روسيا القومية واستراتيجيتها الدولية. من هنا، فإن تدخل بوتين، بصورة صريحة ومباشرة، قد فضح عجز إيران وأربكها، سواء أمام روسيا أو أمام أميركا، بل أمام العالم.

لعل التدخل الروسي قد فضح أيضاً أميركا، فهي ليست جادة في محاربة الإرهاب، لا في سوريا ولا في العراق ولا في أي مكان آخر. لذا تركت الأمر للرئيس الروسي، ليتكفل هذه المهمة، إما عن خبث لكي يغرق في المستنقع، وإما عن تواطؤ، وكما تشهد أعمال التنسيق بين الجانبين، في الأجواء السورية، عبر سلاحي الطيران الروسي والاميركي، هذا فضلاً عن سلاح الجو الإسرائيلي.

لقد ظن الإيرانيون أنهم، بعد الاتفاق النووي مع أميركا وحلفائها، سوف يصبحون أكثر حرية أو يمتلكون المزيد من القدرة، في ما يخص مشروعهم التوسعي في العالم العربي. لكنهم أخطأوا في التقدير، كما تشهد التطورات التي همّشت حضورهم وقلّصت من دورهم وفاعليتهم. من هنا ثارت ثائرتهم ضد أميركا، كما عبّر عن ذلك قادة إيران ووكلاؤها من العرب، مما أعاد أجواء العداء التي كانت سائدة بين الجانبين، الى سابق عهدها، وكما كانت عند اندلاع الثورة الايرانية.

تلك هي حصيلة مَن يدعي أن شعار العدالة ورفع المظلومية هو أساس مشروعه وعلة دعوته، ثم يتحالف مع أعتى الأنظمة فساداً أو طغياناً وإرهاباً. تلك هي عاقبة من ينخرط في مشاريع تفوق طاقته، أو يتستر على أهدافه ونياته العدوانية الاستكبارية: أن يتخبط ويتورط، لكي ينتج مأزقه ويتواطأ مع من يدّعي محاربته.

في ما يخص روسيا، سيكون قادتها واهمين اذا اعتقدوا أنهم أصبحوا سادة الساحة، وأنهم سيملأون الفراغ الاستراتيجي بدلاً من أميركا أو من إيران. فإذا كانت لـ”نظرية الفراغ” صدقيتها من قبل، في عصر كان يمتلك فيه الإنسان قدراً من السيادة على نفسه وعالمه، فإنها أصبحت واهية، فيما يدخل الإنسان في طورٍ سمته فقدان السيادة على نفسه وعلى أعماله وأشيائه، وفيما تندرج المجتمعات البشرية في عصر المعلومة والتواصل وانتشار الأسلحة. لذا لا وجود لفراغ إلا عند مَن يقرأ الواقع قراءة سطحية، هشة. فلكل مجتمع قدراته على التحرك والنهوض وإن كانت غير مرئية. وفي كل بلد محتل هناك قوى مقاومة وخلايا نائمة. ومن يظن أنه يملأ الفراغ فقد يقع في الهوة أو يدخل في متاهة.

أعتقد أن على روسيا أن تستخلص الدرس من حادثة الطائرة المنكوبة، التي هي بمثابة أيلول روسي، تماما كما كانت مقتلة أسرة صحيفة “شارلي إيبدو” في باريس بمثابة أيلول فرنسي. وإذا كان الروس عقلاء، ومع الحل السياسي، فالأحرى بهم أن يتوقفوا عن قصف المدن السورية، وأن يعملوا عبر تدخلهم على خلق الإمكان لإيجاد الحلول مع كل المعنيين بالشأن السوري، وفي الاخص مع السوريين على اختلاف اتجاهاتهم وتكتلاتهم. إن التجارب أثبتت أن التدخلات العسكرية من هذا الجانب أو ذاك لن تغيّر المعادلات على أرض الواقع، بل هي تزيد الامور تعقيداً وتطيل أمد المآساة السورية.

أعود إلى أميركا التي كانت الراعي الأول للإرهاب منذ ولادة “القاعدة”، التي استثمرت في الحرب على النظام الأفغاني الذي كان يومئذ موالياً للاتحاد السوفياتي. لكن الإرهاب ارتدّ ضدها، كما شهدت غزوة نيويورك البربرية. وأميركا هي الأخرى، تتخبط ولا تعرف ماذا تريد، لأنها لا تحسن سوى نقض ما ترفعه من شعارات، شأنها في ذلك شأن حلفائها في أوروبا.

إنهم يعطون الأولوية الآن لمحاربة “داعش”، مؤثرين بقاء نظام الأسد، بوصفه نظاماً علمانياً يحمي الأقليات. هنا أيضا يا لها من مفارقة فاضحة أن يتحول نظام طائفي، أصلاً وفصلاً، الى نظام علماني، أو أن يتحول نظام استبدادي شعاره، “أنا أو لا أحد”، أي إبادة كل معارض، الى نظام يصون الحقوق ويحترم الحريات. يا لها من أكذوبة أن يصبح مستخدم الأسلحة الكيمائية مقبولاً في نظر العالم الليبيرالي والديموقراطي.

مثل هذين التردد والتخبط هما اللذان يفسران تفاقم الارهاب، الذي يزداد فتكاً وبربرية، بالرغم من إعلان الحرب عليه منذ أكثر من عقدين. إلا إذا كان هذا ما تريده أميركا وتتستر عليه، باعتبار أن الإرهاب، وعلى حد تعبير الرئيس الأميركي أوباما، يضر الأميركيين أقل الضرر، فيما يضر المسلمين أفدح الضرر.

أصل من ذلك إلى أسئلة الحقيقة والواقع: ما الذي يجعل اللاعبين ينجرّون إلى التخبط والتورط أو التواطؤ كله، في مواقفهم وسياساتهم؟!

العلة هي في الأفكار التي يدار بها العالم اليوم، كما تتجلى في العقليات المفخخة والنفوس الموتورة، في الثقافة العدوانية والهويات النرجسية، في الدعوات المستحيلة والاستراتيجيات القاتلة. الأمر الذي يترجم على المستوى الخلقي خداعاً ونفاقاً وكذباً، ويترجم على المستوى النفسي في طغيان الأهواء والنزوات والأحقاد، كما يترجم على المستوى السياسي بإرادة الاستئثار والإستبداد أو التأله والاستكبار أو العداء والصدام.

لا أنسى المستوى المعرفي، حيث يدار الشأن الكوكبي، اليوم، بمقولات مستهلكة ومعايير مزدوجة وأساليب بائدة، لم تعد تشهد الا على الجهل والعجز وسوء التدبير، بل هي لا تنتج الا ما يصدمنا من الآفات والمشكلات والكوارث.

في ضوء هذه القراءة، لا أمل في أن تتحسن الاحوال، ما دمنا ندير الشؤون بالمقولات والمعايير أو الأساليب والنماذج نفسها.

من هنا الحاجة الماسة الى مراجعة شاملة نفتح معها ملف إنسانيتنا التي هي مصدر مشكلاتنا وكوارثنا ومصنع آفاتنا وفضائحنا. من غير ذلك، ستزداد الأمور سوءاً وتدهوراً، بتأجيج الصراعات وتوسيع رقعة الحروب، بتفاقم أعمال القتل والابادة والتطهير والتهجير والتدمير للشعوب والبلدان. وستتعاظم موجات الهجرة للاجئين الى البلدان الاوروبية المستقرة حتى تضيق بها وتتسبب لها بأفدح المشكلات، وسيسقط المزيد من الطائرات بالعبوات الناسفة، بل ستصبح مطارات العالم غير آمنة كما نقرأ التحذيرات في وسائل الإعلام.

باختصار، سيعمّ الارهاب العالم ويزداد خطره، كما يعمّ الفساد لبنان وتطمر النفايات عاصمته ومدنه. وتلك هي حصيلة سياسات الكذب والنفاق والتزوير والإستقواء وانتهاك الدستور والقوانين، وبيع البلد والوطن بثمن بخس، بمنصبٍ فارغ، أو نصرٍ خادع، أو مجدٍ زائف.

النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى