صفحات الرأي

تأريخ الثورة البولشفية تتنازعه ثلاثة تيارات أو مذاهب: السوفياتي والليبرالي والمراجع/ نيكولا ويرث

 

 

تتنازع تأويل ثورة تشرين الأول (أكتوبر) 1917 ثلاثة اتجاهات أو تيارات:

– يصف التيار السوفياتي الثورة بـ «عظمى حوادث تاريخ الإنسانية»، ويحملها على الحل التاريخي الأمثل لصراع الطبقات، وعلى تصديق «قوانين التاريخ» التي صاغها ماركس، ومن بعده لينين. ويعزو هذا التيار الأزمات الثورية الروسية الثلاث، في 1905-1906، وشباط (فبراير) 1917، وتشرين الأول 1917 إلى تناقضات الرأسمالية في روسيا وتعظيمها بواسطة استغلال الفلاحين استغلالاً شبه إقطاعي. وعجلت الحرب الإمبريالية نضوج السيرورة الثورية وفجرت الأزمةَ الأخيرة التي عانت الرأسمالية منها منذ نشأتها المحلية. وتولت البروليتاريا بقيادة الحزب البولشفي ولينين، وحليفها طبقة الفلاحين الفقراء، «الهيمنة» على الحركة الشعبية التي خلعت القيصرية في شباط 1917، وجرفت الحكومة الموقتة ومساعيها لتثبيت سلطة البورجوازية، واستولت على السلطة في حلة «ديكتاتورية البروليتاريا» غير المسبوقة.

– واجتهد التيار الليبرالي في نفي الصبغة الطبقية عن ثورة 1917 وحمْلِها على «حادثة طارئة» سيئة الطالع ودرامية من حوادث التاريخ حرفت مسير روسيا من طريق التقدم وموافاة الديموقراطيات الغربية. ويقدم التيار الليبرالي العامل السياسي على العامل الاجتماعي، فيكتب برنارد بايبس، رائد دراسات الثورة الروسية في بريطانيا: «مصدر السبب في سقوط القيصرية هو السلطة وليس حركة الشعب من تحت». ويصف المؤرخون الليبراليون استيلاء البلاشفة على السلطة في أكتوبر 1917 بـانقلاب عسكري ناجح دبرته مؤامرة ماهرة، وقادته عصبة من العقائديين المتشيعين المفتقرين إلى قاعدة شعبية حقيقية.

– ويستعيد تيار ثالث التأويلين السوفياتي والليبرالي، ويرى ثورة 1917 على شاكلة «حركة شعبية عريضة اقتصرت المساهمة فيها على قلة قليلة» (مارك فيرّو، المؤرخ الفرنسي). وظهر هذا التيار، ويُنعت بـ «المراجع»، في عقدي سنوات 1960 و1970 في الولايات المتحدة رداً على المدرسة الليبرالية الغالبة، وحلَّق حول رائديه ليوبولد هايمسون وريجينالد زيلنيك، وهما مؤرخان شاغلهما تناول السيرورات الثورية في ضوء العوامل الاجتماعية و «التحتية» فيها، والتأريخ للمؤسسات الثورية المتفرقة التي ولدت في أثناء ثورتي 1917 (اللجان، مجالس السوفيات، الحرس الأحمر… وغيرها)، إلى تقصي التصورات الشعبية عن «الانخراط في السياسة» وطرائق هذا الانخراط في الثكنات والمصانع والقرى وأطراف الامبراطورية. ومنذ 40 عاماً، نجح المؤرخون «المراجعون» في تحريك خطوط المواجهة المستنقعة بين التأريخ السوفياتي والتأريخ الليبرالي.

وتطرقت المناقشات إلى مسائل كثيرة، أبرزها طريق روسيا إلى الرأسمالية، عشية الحرب العالمية الأولى، وصفة حوادث أكتوبر 1917 (ثورة أو انقلاب)، وأسباب إخفاق الحكومة الموقتة، وطبيعة العنف، إلى كثرة البولشفيات وغواية أكتوبر العمومية. وتدعو كثرة هذه المسائل إلى قصر التناول على اثنتين:

1) أسباب إخفاق الحكومة الموقتة.

تعالج مذكرات كل القادة الروس غير البلاشفة، نيكولاي سوخانوف وإيراكلي تسيريتيلي وفيكتور تشيرنوف وبافيل ميليوكوف وألكسندر كيرينسكي، مسألة «لماذا عجزت حكومة كانت تتمتع بتأييد شعبي لا ينكر، وحازت مكوناتها الاشتراكية المعتدلة في انتخابات حزيران (يونيو) 1917 إلى المؤتمر الروسي العام الأول لمجالس السوفيات الأغلبية، عن الاضطلاع بأعباء الحكم بعد أشهر قليلة؟». وأجابت الأعمال التاريخية الليبرالية بتسليط الضوء على مثالية «رجال شباط (فبراير)» ومزاولتهم السياسة على طريقة الهواة الحالمين وضعف فهمهم الأداء الإداري والاقتصادي والعسكري (على قول أ. أولام، صاحب «إفلاس الثورة الروسية»، 1981، في الإنكليزية). وسلط مؤرخ ليبرالي آخر هو ل. شابيرو، الضوء على صنف ثان من القادة، «مذهبي متحجر»، طغى على عقولهم تاريخ الثورتين الفرنسيتين في 1789 و1848، وهجسوا باحتمال ثورة مضادة عسكرية. وسارع الليبراليون في الثورة الأولى إلى إقالة حكام المحافظات ونواب الحكام كلهم، فأطلقوا العنان لفوضى عارمة خلفت قروناً من العبودية (ريتشارد بايبس)، فقصروا عن التوسل بالموجة الوطنية التي اجتاحت صفوف الجيوش الروسية إلى جبه الدعوة الانهزامية البولشفية، في آذار (مارس)– نيسان (أبريل) 1917، وتوظيف التوتر بين الجنود وبين العمال المضربين.

وأباح قادة الحكومة الموقتة، وأولهم وزير الحرب كيرينسكي، بموجب إعلان حقوق الجنود (في 11 أيار/ مايو) انتساب الجنود إلى المنظمات السياسية. وغداة شهرين على نشر أمر اليوم الرقم الذي أقر إنشاء لجان الجنود، تداعت صفوف الجيش وقوات القتال الميداني، ودبت الفوضى والهرب من الجبهات فيها، وأحجم الجنود عن طاعة الأوامر بقمع العصيان الاجتماعي في الأرياف قبل المدن. وينبه التأريخ الليبرالي إلى انقسامات الاشتراكيين المعتدلين، مناشفة واشتراكيين ثوريين، فكلاهما تمخض عن جناح راديكالي، المناشفة– الأمميين والاشتراكيين– الثوريين اليساريين، رفض اضطلاع حزبه بمهمات حكومية. ومن الأخطاء الفادحة رفض غالبية الاشتراكيين المعتدلين غداة محاولة انقلاب كورنيلوف (القيصري) الفاشلة، فك التحالف مع ليبراليي الحزب الدستوري الديموقراطي على رغم تمسكه المتعنت بفرض النظام قسراً، وبنهج «دفاعي ثوري» قضى بالمضي في الحرب على خلاف رغبة المقاتلين المحمومة في السلم. ونجمت هذه الأخطاء عن الهجس بثورة عسكرية مضادة وبسلم منفصل يلحق روسيا بألمانيا والاشتراكيين الروس بالبورجوازية الكبيرة الروسية، ومندوبُها السياسي، الحزب الدستوري– الديموقراطي، والبورجوازية المتوسطة والصغيرة، والاشتراكيون المعتدلون هم مندوبو الاثنتين، فالدستوريون– الديموقراطيون تمسكوا في الحكومتين الثانية والثالثة، بين شباط وتشرين الأول 1917، بحلفهم مع الاشتراكيين المعتدلين. وفي الأثناء، تفاقم نحوهم السياسي اليميني. وعلى خلاف المؤرخين الليبراليين، أبرز المؤرخون السوفيات حزم «الحكومة البورجوازية» وصرامة قمعها الحركة العمالية، وتجريدها 200 حملة عسكرية على جماعات عمالية في شهري أيلول (سبتمبر) وتشرين الأول، وعلاقتها الوثيقة بالإمبريالية الانغلو- فرنسية دعتها بالطبع إلى المضي في حرب هي علة وجودها. والأحزاب البورجوازية الصغيرة، المناشفة والاشتراكيون– الثوريون، هي قوة احتياط في خدمة حزب البورجوازية، الدستوري– الديموقراطي، فلا عجب إذا هي لم تنفك طوال عام 1917 تترجح وتتذبذب بين التحالف مع البورجوازية والتحالف مع البروليتاريا والفلاحين الفقراء، فقصرت عن الاضطلاع بدور فاعل.

ومال المؤرخون المراجعون إلى الرفق بالاشتراكيين المعتدلين، فذكروا أن كبار قادتهم، شأن تسيرتييلي وسكوبيليف وتشيرنوف، سياسيون مرموقون، ولا يصْدُق وصفُهم بـ «الحالمين السذج». ووسعهم في شهور قليلة إنجاز إصلاحات بنيوية، لو قيض لها أن تبلغ غايتها لبوأت روسيا محل الريادة الاجتماعية والاقتصادية، فتشيرنوف وزير الزراعة، اقترح نقل الأراضي المصادرة إلى لجان ريفية يسيطر عليها الفلاحون وتتولى توزيعها، حلاً للمسألة الزراعية (على ما رأى المؤرح ج. جيل، «الفلاحون والحكومة في روسيا الثورية» بالإنكليزية، 1979). وإجراءات وزير العمل المنشفي سكوبوليف، في الحق التشريعي الاجتماعي كانت مدخلاً إلى سياسة إصلاحية وعمالية حقيقية (على قول المؤرخين د. كوينكير، 1981، وس. سميث، 1973). ويرى المراجعون أن قادة الحزب الدستوري– الديموقراطي تعمدوا تعطيل الإصلاحات الكبيرة التي اقترحها الاشتراكيون المعتدلون، ويتحملون مسؤولية ساحقة عن إخفاق الحكومات الموقتة. ولكن القيادات الاشتراكية المعتدلة نفسها لم تشأ الإقرار بجنوح الحزب الدستوري إلى اليمين، ولا احتساب نتائج التململ الجماهيري في مسألة الحرب والسلم.

2) بولشفية أم بولشفيات؟

زكى التأريخان السوفياتي والليبرالي خصوصية الحزب البولشفي في 1917، وأبرزوا وحدته وانضباطه وتنظيمه الصارم. وعزا التيار الأول انتصار البلاشفة إلى تمثيل الحزب «موضوعياً» مصالح الشطر الأعظم من السكان: البروليتاريا والفلاحين الفقراء والمتوسطين، والى طليعيته وحسن تنظيمه ومركزيته وتجانسه الأيديولوجي، على مثال الرسم الذي أوجبه لينين في «ما العمل؟» الصادر في 1902. وينفي المؤرخون زعم ميل الجماهير الروسية إلى البولشفية ميلاً واعياً، وينوهون، على خلاف هذا الزعم، بضعف نضوج الجماهير «سممها الأمل في عصر ذهبي» آت (ل. شابيرو)، ويعظمون شأن التنظيم الاستثنائي والصارم الذي التزمه البلاشفة، أسياد إيقاع المجالس العمالية في فخاخهم وأساتذة التحريض والدعاوة الديماغوجية والانقلاب.

ولكن المؤرخين «المراجعين» ألكسندر رابينوفيتش وروبرت دانيالز وروبرت سرفيس، يبرزون الحزب البولشفي، في 1917، في صورة مختلفة عن الصورتين السوفياتية والليبرالية، فهو -شأن الأحزاب الأخرى- تتنازعه تيارات غير مجمعة على قضايا أساسية. وهو حزب غير مركزي تتولى السهر على مركزيته أمانة لجنة مركزية ضعيفة تعد 10 حزبيين ينهضون بشؤون علاقات المركز بالمنظمات المحلية. ويجتذب الحزب أعضاء لا تجمعهم مشارب واحدة، قدم بعضهم من المناشفة، وبعضهم الآخر من الجماعات الفوضوية، وبعض ثالث لم يسبق أن خبر العمل السياسي على أي وجه من الوجوه، وأبدى الاستعداد للانخراط في مشادة عنيفة تؤدي إلى هدم «العالم القديم».

ويقر التقرير التنظيمي الذي تلي في أواخر تموز (يوليو) 1917 على المؤتمر السادس، بأن 90 في المئة من الـ170 ألف عضو الذين يعدهم الحزب، يعود انتسابهم إليه إلى شباط (فبراير) وما بعده. ولاحظ أورلاندو فيغز أن الأرياف الروسية، فهمت اسم الحزب البولشفي على معنى مشتق من لفظة «بولشي»، أي «أكثر» في الروسية: من يطلبون حرية أكثر، وأرضاً أكثر. وميز ألن ويلدمان «بولشفية جنود الخنادق» من بولشفيات أخرى، مثل بولشفية المثقفين. وهذه الفروق كانت مصدر قوة في 1917. ولم تلبث أن ولدت تباينات ونزاعات فرقت بين قواعد الحزب المستولي، ونفخت في تناقضاته، وأرهصت بحملات التصفية الدامية والمتعاقبة التي مزقت الحزب إلى حين سقوطه.

* مؤرخ، مدير بحوث في معهد تايخ الزمن الحاضر، عن «الثورات الروسية»، 2017، إعداد منال نحاس.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى